دفع الشبهات حول السلفية وأهل السنة والجماعة:
(1) شبهة مداهنتهم للحكام والسلاطين، وعدم الخروج عليهم:
أما المداهنة والتي هي ترك الدين من أجل الحصول على الدنيا فليست من سمات أهل السنة والتهمة باطلة، وهم لا يزينون للولاة المعاصي ويغيرون المصطلحات فيجعلون الظلم عدلاً والباطل حقاً، ولكن ينصحون ويدارون ويستغلون ما تيسر من الفرص للوصول إلى الوالي والرفق به والنصح الصادق له والإخلاص في النصح له، وعدم إثارة الدهماء وتسكين العامة وعدم الغش له في مدحه بالباطل أو التحايل والكيد وتأليب الرعية خفية.
أما عدم الخروج على السلطان المسلم ولو بدر منه ظلم ووقعت معاص فإنما اتبع فيه أهل السنة النصوص التي تأمر بطاعته، فهو ولي أمر لم يسلب عنه الإسلام لوقوعه في معصية: (يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ([1])، وهو إنما يطاع في المعروف ولا طاعة في المعصية، لكن عدم الخروج عليه وإن جار وظلم له أدلة كثيرة في السنة منها:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة)) ([2]).
وفي رواية عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: ((اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة)) ([3]).
وأخرج الإمام مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً مجدع الأطراف" ([4]).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني)) ([5]).
وعن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض قلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرهُ علينا وأن لا ننازع الأمر أهله: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان))" ([6]).
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) ([7]).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك)) ([8]).
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه – عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها))، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله قال: ((أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم))([9]).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه ليس أحداً يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) ([10]).
ثم إن أهل السنة في العصور المتأخرة تبعوا اتفاق الأمة على عدم الخروج ووجوب الطاعة بالكتاب والسنة والإجماع.
وقد نظروا إلى قاعدة المصالح والمفاسد فأعملوها في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومن ذلك في التعامل مع الوالي بنصحه إن أمكن وبيان الحلال والحرام للأمة وعدم الخروج طاعة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإعمالاً للإجماع عند أهل السنة، وعدم الدخول في فتنة عارمة مفاسدها أضعاف أضعاف مصالحها بالمرات، وهذا قد عرف من مفاسد خروج الخوارج والمعتزلة عبر التاريخ على الولاة، وكيف سال الدماء أنهاراً، وأزهقت أرواح، وارتكبت أفضع المنكرات دون جدوى لتغيير الظلم، وإنما زاد الظلم والفساد بين العباد.
والحاصل أن الطاعة للوالي المسلم أدلته مأخوذة: من الكتاب، و السنة، ومن قواعد شرعية هي قواعد المصالح والمفاسد، واتفاق أهل السنة.
والناظر فيما حصل من صدام بين بعض الحكومات رغم أننا لا ننكر وجود المنكرات والظلم عندها وبين بعض الجماعات التي أرادت تغيير الظلم والمنكرات بالخروج بالسلاح سيقتنع بمنهج أهل السنة ومسلكهم مع الحاكم الذي يقع في المنكر فقد حصل من الفساد والدمار وزيادات المنكرات أضعاف أضعاف ما كان موجوداً وتحقق بالطاعة والرفق والنصح وتعليم الأمة دينها مصالح جمة لا تحصى. وأهل السنة وسط في الأمور كلها، فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين.
(2) شبهة العنف والإرهاب:
وأما شبهة الإرهاب فهي شبهة عائمة وفي غاية الغموض والتيهان وهو مصطلح يطوح به الخصم خصمه في هذا الزمان بدون حجة أو شبه برهان، فقد أطلق هذا الاسم المخيف البعبع على الجهاد الإسلامي الشرعي، وأطلق على الإسلام من قبل خصومه، وسميت تعاليم الإسلام باسم ثقافة الإرهاب، ووصفت أعمال الخير في الإسلام عن طريق المؤسسات واللجان الخيرية بأنها داعمة الإرهاب، ووصف المدافع عن دينه وبلده في أي بلد مسلم يهجم عليه الغزاة المعتدون بالإرهابي، وهكذا أصبح هذا اللقب يطلق بلا زمام ولا خطام على المخالف من قبل مخالفيه، واختلطت الأوراق ولم يفرق بين مقاومة مشروعة وإرهاب الآمنين وإزعاج القاطنين في أرض الله بل أطلقت هذه التهمة من قبل بعض الأحزاب على مخالفيها من الأحزاب وأحزاب في المعارضة على بعض الحكومات وبعض الحكومات على بعض أحزاب المعارضة.
لكن عندنا نحن المسلمين وأهل السنة تحديداً إن ما يسمى بالإرهاب منه ما هو محرم قطعاً ومنه ما هو مشروع قطعاً.
ففي كتب اللغة العربية (رهِب رهباً من باب تعب خاف، والاسم الرهبة فهو راهب من الله، والله مرهوب والأصل مرهوب عقابه، والراهب عابد النصارى، والجمع رهبان وترهب انقطع للعبادة ([11])، فهي مادة بكل مشتقاتها تدل على الخوف (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً))([12])، (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)([13])، (ترهبون به عدو الله وعدوكم) ([14])، وأرهبه أخافه.
وتشتق كلمة (إرهاب) من الفعل المزيد (أرهب)، ويقال أرهب فلاناً: أي خوفه وفزعه، وهو نفس المعنى الذي يدل عليه الفعل المضعف (رهّب)، أما الفعل المجرد من نفس المادة وهو (رَهِبَ)، يرهب رهبة ورهْبا ورهَباً فيعني خاف، فيقال رهب الشيء رهباً ورهبةً أي خافه، أما الفعل المزيد بالتاء وهو (ترهّب) فيعني انقطع للعبادة في صومعته، ويشتق منه الراهب والراهبة والرهيبة والرهبانية …الخ، وكذلك يستعمل الفعل ترهب بمعنى توعد إذا كان متعدياً فيقال: ترهب فلاناً: أي توعده، وكذلك تستعمل اللغة العربية صيغة استفعل من نفس المادة فتقول استرهب فلاناً أي رهّبه.
ويلاحظ أن القرآن الكريم لم يستعمل مصطلح (الإرهاب) بهذه الصيغة، وإنما اقتصر على استعمال صيغ مختلفة الاشتقاق من نفس المادة اللغوية، بعضها يدل على الإرهاب والخوف والفزع، والبعض الآخر يدل على الرهبنة والتعبد، حيث وردت مشتقات المادة (رهب) سبع مرات في مواضع مختلفة في الذكر الحكيم لتدل على معنى الخوف والفزع كالتالي:
- يرهبون: (وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) ([15]).
- فارهبون: (وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون)([16])، (إنما هو إله واحد فإياي فارهبون) ([17]).
- ترهبون: (ترهبون به عدو الله وعدوكم)([18]).
- استرهبوهم: (واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم)([19]).
- رهبة: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)([20]).
- رهباً: (ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين)([21])، بينما وردت مشتقات نفس المادة (رهب) خمس مرات في مواضع مختلفة لتدل على الرهبنة والتعبد كالتالي:
ورد لفظ (الرهبان) في سورة التوبة ([22])، كما ورد لفظ (رهباناً) في سورة المائدة ([23])، ولفظ (رهبانهم) في سورة التوبة ([24])، وأخيراً (رهبانية) في سورة الحديد ([25])، فعلى هذا الترهيب التخويف والإرهاب كذلك وهو قسمان ممنوع ومشروع:
- فالممنوع منه: قتل النساء والأطفال والشيوخ والأبرياء والعباد والمعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين والذين لا يقاتلون ولا يعتدون، فالقتل لهؤلاء ونحوهم محرم أو إن صح التعبير إرهاب ممنوع، وكل تخويف بغير حق ممنوع.
- والثاني المشروع: وهو الدفاع عن الدين والأهل والبلد وحماية الديار والغيرة على العار وجمع لكلمة الأمة وكونها قوية ديناً وخلقاً وعدداً وعدةً، فالأمة القوية مرهوبة يحسب لها عدوها ألف حساب ومن هذا القبيل: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم …الآية))، فعلى الأمة أن تكون قوية ليهابها أعداؤها.
الخلاصة:
نخلص من العرض السابق إلى التأكيد على نقاط أساسية لفهم أزمة تحرير مضمون مصطلح (الإرهاب) وهي: عدم وجود تعريف موحد للإرهاب، وأن تعريف الإرهاب ليس من حق دولة أو ثقافة بعينها.
للتوصل إلى تعريف حقيقي للإرهاب يجب أن يحتوي مفهومه على كافة أنماط الإرهاب، بما فيها إرهاب القوى العظمى والإرهاب الاقتصادي والإرهاب الثقافي …الخ.
ظاهرة الإرهاب غير مقصورة على المنتمين إلى حركات وفصائل إسلامية، وفي هذا السياق لا تفرق الغرب بين المنظمات الفلسطينية الإسلامية والقومية والشيوعية، فجميعها في نظر البعض منظمات إرهابية، وبعض الدول تقصر الإرهاب على المسلمين وتخرج بقية النحل الأخرى.
الجدل المثار بقوة حول تعريف ظاهرة الإرهاب فرصة لإعادة النظر في تحرير مضامين المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في ثقافتنا المعاصرة والتي تتسم غالباً بالفوضى.
فما هو الإرهاب عند أهل السنة هل هو إلا بيان الحق وبيان مناهج أهل الكفر والبدع والضلالات بالحكمة والموعظة الحسنة و المجادلة بالتي هي أحسن.
وهل يكفر أهل السنة من لم يقع في ناقض من نواقض الإسلام أو يبيحون دم مسلم أو ماله أو عرضه وهل يخوفون الآمنين ويفزعون المستأمنين، الحق أنه دعاية باطلة، وأن أهل السنة متهمون بما هم منه براء.
(3) التشدُّد:
وأما التشدد فهو مذموم شرعاً وفي اللغة العربية: شددته شداً من باب قتل أوثقته والشدة بالفتح: المرة منه وشددتُ العقدة فاشتدت، ومنه شد الرحال وهو كناية عن السفر، ورجل شديد أي بخيل وشدد عليه: ضد خفف.
فالتشدد: ضد اليسر والشريعة جاءت باليسر (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)([26])، (وما جعل عليكم في الدين من حرج)([27])، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) ([28])، وقال: ((ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) ([29]).
فمتى كان أهل السنة مشددين على الناس بتحريم ما أحل الله وإيجاب ما لم يوجبه، وجعل النوافل والمستحبات فرائض وواجبات؟
فإن وجد من شذوا في شيء من ذلك فهم مخالفون للشريعة ويسرها مخالف لمنهج السلف وسلوك أهل السنة، ولا يعبرون إلا عن أنفسهم لا عن أهل السنة.
(4) التطرف:
التطرف في اللسان العربي: مشتق من الطرَف أي الناحية أو منتهى كل شيء وتطرف أتى الطرف وتجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط، وكلمة التطرف تستدعي للخاطر كلمة الغلو التي تعني تجاوز الحد، وهو من غلا: زاد وارتفع وجاوز الحد، ويقال الغلو في الدين (لا تغلو في دينكم) ([30]).
والتطرف مصطلحاً يضاد مصطلح الوسطية الذي هو الوسط الواقع بين طرفين كما يقول الأصبهاني في مفردات غريب القرآن.
وهو يحمل في طياته معنى العدل، وفي القرآن الكريم (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) ([31])، أي أمة عدل [32].
والتوجيه القرآني كان دوماً يحث على الاعتدال، فالله - سبحانه - لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهو يعلي من شأن اليسر، وهو ينهى عن البخل والشح، لأنهما تطرف في التعامل ما المال، كثيرة هي الأحاديث النبوية التي تشرح ذلك وتدعو إلى الرفق، ((إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)) ([33])، ((ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) واه أحمد.
وقد جاء الفقه ليؤكد على تمثل روح التيسير والسماحة، وليجعل من القواعد الأصولية والفقهية مثل قاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، وقاعدة: (لا ضرر و لا ضرار) ([34])، وقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات)، ويحفل فقه المعاملات بما يحث على الأخلاق الحميدة، وينهى عن السخط والضجر والفحش والشطط والمغالاة، وغير ذلك من صور التطرف.
وإذا كان مصطلح التطرف يعني التشدد وتجاوز الحد، فإن مصطلح الوسطية يدل على العدل والسماحة، ولفظ السماحة في لسان العرب يطلق على سهولة التعامل فيما اعتاد الناس فيه المشادة، كما يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن معنى السماحة في لسان العرب في كتابه: (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) أنها وسط بين الشدة والتساهل، ولفظها هو أرشق لفظ يدل على هذا المعنى. يقال سمح فلان أي جاد بمال له بال، وهي تدل على خلق الجود والبذل، وينتهي إلى القول: فأصل السماحة يرجع إلى التيسير والاعتدال، وهما من أوصاف الإسلام.
وأهل السنة وسط في سائر الأبواب بين الإفراط والتفريط فهم بين المشبهة والمعطلة في الصفات وبين المرجئة والخوارج في الإيمان وبين القدرية والجبرية في القدر وبين الرافضة والحرورية الناصبة في آل البيت، وهم أرحم الأمة بالأمة، حتى أنهم أرحم بأهل المعاصي والبدع في النصح لهم والرفق بهم لردهم إلى جادة الصواب من أنفسهم وأشباههم من المبتدعة والفساق.
(5) شبهة إقصاء الآخر؛ ونبذ التعددية الفكرية:
وأما القول بعدم قبول الرأي أو إقصاء الآخر ونبذ التعددية الفكرية فيقال ما المراد بذلك؟
فإن كان الخلاف بين التوحيد والإسلام من جهة والشرك والكفر من جهة أخرى فهذا أمر لا مفر منه شرعاً فقد فرق الله بين الفريقين: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون)([35])، (أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار)([36]).
وجاءت أحكام في الشرع تخص الوثنيين وأحكام تخص أهل الكتاب، من قبول الجزية وزواج الكتابيات وأكل ذبائحهم مع النهي عن الولاء لهم، ولكن إذا خضعوا لأحكام الإسلام تركوا على ما هم عليه وحرام قتلهم والغدر بهم، فهذا تفريق بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء والأموات.
وهؤلاء المعترضون من أعداء الإسلام على مسألة الولاء والبراء في الإسلام يطبقون الولاء لمن هو على نحلتهم وملتهم، ويعادون من خالفهم ديناً وسياسة وما هذه الأحلاف العالمية في أوروبا وغيرها إلا من هذا القبيل.
وإذا كان الرأي الآخر في الفرق الإسلامية التي وقعت في بدع فإن حكم البدعة تتفاوت فمن بدعة أصلية إلى إضافية سرية أو علنية يدعو إليها صاحبها أو لا يدعو، فله مادام مسلماً حكم يختلف عن حكمنا على الكافرين، وله من الولاء بقدر ما فيه من الخير، ومن البراء بقدر بدعته.
ولا ريب أن ضلالة سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو التعطيل لصفات الله - تعالى –وتحريفها، أو إنكار القدر من الضلالات التي تصم الآذان، وتهدم أصول الشريعة لمصادمتها لصريح القرآن وصحيح السنة، فعلينا الإنكار على ذويها لردهم إلى الجادة.
وأما المسائل والآراء التي للرأي فيها مجال و الاجتهاد فيها صائغ فقد وجد في الفقه الإسلامي اختلاف في مئات المسائل بين أهل العلم من أهل السنة سواء عند المذاهب الأربعة أو الظاهرية أو أهل الحديث، بل حتى الزيدية قريبون في مسائل فقههم من الأحناف، والاختلاف عند العلماء على أنواع:
أ- تعارض تضاد.
ب- اختلاف تنوع.
ت- اختلاف أفهام.
فالأول هو الذي فيه الولاء والبراء، والثاني والثالث هما اللذان لابد من اتساع الصدور لهما، فالتعددية الفكرية إذا كانت بهذا المفهوم و هو مما يسوغ فأهل السنة يقولون بها([37])، وإن كان تعدد المنابر التي تصد عن السبيل وتعلن الفساد العريض والإباحية فأهل السنة لا يقرون ذلك وعلى أصحاب الكلمة والحل والعقد أن يأخذوا على أيدي السفهاء، فما هو الإقصاء إذن؟ إن هناك إيماناً وكفراً فنحن مع المؤمنين فهل يطلب منا أن نتنازل عن ديننا حتى يرضوا عنا: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)([38]).
(6) شبهة التكفير:
وأما القول بأن أهل السنة يكفرون المخالف فهذا من أعجب ما يطرق سمعك، فكيف يقال هذا عمن ناظروا الخوارج وردوا عليهم لتكفيرهم بمطلق المعاصي أو الكبائر عند بعضهم وعلى أصحاب المنزلة بين المنزلتين من المعتزلة لإخراجهم المسلم من الإسلام إلى منزلة بين الإيمان والكفر، والحكم عليه بالخلود في النار إذا مات على ذلك.
ولكن مع ذلك لا بأس من باب النصيحة وبيان الحقيقة أن نعرف من هم المكفرون للمسلمين، ولو بإشارة عابرة: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)([39])، فقد ينفع الله بعض المنصفين غير العارفين، و لا يضر بعد ذلك تعصب المكابرين فأقول:
ذهب الخوارج إلى أن من وقع في كبيرة من الكبائر أو ذنب فإنه يكفر بذلك فإن تاب رجع إلى الإسلام، وإن مات قبل التوبة فهو خالد في النار مخلد فيه ([40]).
المعتزلة ذهبوا إلى أن مرتكب الكبيرة لا يكون مؤمناً ولا كافراً، وإنما في المنزلة بين المنزلتين، فإن مات قبل التوبة فهو خالد مخلد في النار ([41]).
المرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب ([42]) فمهما عصيت ما دمت مؤمناً فلا يضرك ذلك.
السلفيون وأهل السنة قالوا: من ارتكب كبيرة أو صغيرة فهو مؤمن ناقص الإيمان، لا يخرج من الإيمان لمجرد ارتكاب الكبائر إلا مع الاستحلال، ولذلك يقولون: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن مات قبل توبته فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه ثم نهايته إلى الجنة لأنه من الموحدين ([43]) فلا يكفرون بكل ذنب.
الاثنا عشرية الإمامية أو الشيعة الرافضة: يحكمون على كل من حكم الأمة المسلمة من أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من الأمويين والعباسيين والمماليك والسلاطين من آل عثمان، وجميع أمراء الأمصار من القرن الأول إلى يومنا هذا من ملوك ورؤساء وأمراء بالكفر، لأنهم اغتصبوا الحكم من غير الاثنى عشر؛ لأنهم يعتقدون أن من حكم من غير الاثني عشر الذين مات الحادي عشر منهم في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري فقد اغتصب ما ليس له فهو كافر.
ثم أجروا الحكم على الرعية الذين أطاعوا الخلفاء والحكام غير الاثني عشر فكفروا الحاكمين والمحكومين معاً.
وهذا مذهب رديء جداً، وأسوأ المذاهب على الإطلاق في التكفير؛ لأن الخوارج كفروا بالمعصية وهؤلاء كفروا بالطاعة والقربات.
ومذهب الرافضة يحكم على الأمة كلها أولها وآخرها إلى يوم القيامة بالكفر؛ لأن الأئمة الإحدى عشر لم يحكم منهم إلا أمير المؤمنين علي ثم الحسن - رضي الله عنهما - مدة لا تزيد على ست سنين، والثاني عشر لا وجود له إلا في مخيلتهم، ولذا لن يخرج من السرداب أو العدم، وسيظل الحكم على الأمة بالكفر مذهب الشيعة الرافضة إلى قيام الساعة، كما جاء في الكافي: "باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل، ومن جحد الأئمة أو بعضهم ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل: عن أبي جعفر - رضي الله عنه - وهو الإمام محمد الباقر أنه فسر قول الله - تعالى -: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)([44]) قال: من قال إمام وليس بإمام قلتُ: وإن كان علوياً، قال: وإن كان علوياً، قلتُ: وإن كان من ولد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: وإن كان".
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - قال: "من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر".
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إمامة من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيباً".
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - قال: "من أشرك مع إمام إمامته من عند الله، ومن ليست إمامته من الله كان مشركاً بالله" ([45]).
وقوله: ومن زعم أن لهما نصيباً في الإسلام يعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
فإذا كان هذا حكم من زعم أن لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - نصيباً من الإسلام فما الحكم عليهما - رضي الله عنهما -؟!!
هذا بإيجاز هو مذهب الأمة في الحكم على العاصي فمتى كان أهل السنة مكفرين ومحقرين ومجرحين بالباطل؟!!
نعم إنهم ليسوا من القائلين لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يدافعون عمن ثبت كفره قطعاً، فمن وقع في ناقض من النواقض مع: علمه وتعمده، وليس مخطئاً أو مكرهاً، وليس له شبهة تمنع من الحكم عليه.
حكموا عليه بما يستحق وكتاب الردة مزبور في الفقة الإسلامي على اختلاف المذاهب، وفيها تفصيل لذلك والخلاصة إن تهمة أهل السنة بتكفير المخالف تحامل مفضوح من باب: "رمتني بدائها وانسلت".
(1) شبهة مداهنتهم للحكام والسلاطين، وعدم الخروج عليهم:
أما المداهنة والتي هي ترك الدين من أجل الحصول على الدنيا فليست من سمات أهل السنة والتهمة باطلة، وهم لا يزينون للولاة المعاصي ويغيرون المصطلحات فيجعلون الظلم عدلاً والباطل حقاً، ولكن ينصحون ويدارون ويستغلون ما تيسر من الفرص للوصول إلى الوالي والرفق به والنصح الصادق له والإخلاص في النصح له، وعدم إثارة الدهماء وتسكين العامة وعدم الغش له في مدحه بالباطل أو التحايل والكيد وتأليب الرعية خفية.
أما عدم الخروج على السلطان المسلم ولو بدر منه ظلم ووقعت معاص فإنما اتبع فيه أهل السنة النصوص التي تأمر بطاعته، فهو ولي أمر لم يسلب عنه الإسلام لوقوعه في معصية: (يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ([1])، وهو إنما يطاع في المعروف ولا طاعة في المعصية، لكن عدم الخروج عليه وإن جار وظلم له أدلة كثيرة في السنة منها:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة)) ([2]).
وفي رواية عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: ((اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة)) ([3]).
وأخرج الإمام مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً مجدع الأطراف" ([4]).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني)) ([5]).
وعن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض قلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرهُ علينا وأن لا ننازع الأمر أهله: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان))" ([6]).
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) ([7]).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك)) ([8]).
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه – عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها))، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله قال: ((أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم))([9]).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه ليس أحداً يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) ([10]).
ثم إن أهل السنة في العصور المتأخرة تبعوا اتفاق الأمة على عدم الخروج ووجوب الطاعة بالكتاب والسنة والإجماع.
وقد نظروا إلى قاعدة المصالح والمفاسد فأعملوها في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومن ذلك في التعامل مع الوالي بنصحه إن أمكن وبيان الحلال والحرام للأمة وعدم الخروج طاعة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإعمالاً للإجماع عند أهل السنة، وعدم الدخول في فتنة عارمة مفاسدها أضعاف أضعاف مصالحها بالمرات، وهذا قد عرف من مفاسد خروج الخوارج والمعتزلة عبر التاريخ على الولاة، وكيف سال الدماء أنهاراً، وأزهقت أرواح، وارتكبت أفضع المنكرات دون جدوى لتغيير الظلم، وإنما زاد الظلم والفساد بين العباد.
والحاصل أن الطاعة للوالي المسلم أدلته مأخوذة: من الكتاب، و السنة، ومن قواعد شرعية هي قواعد المصالح والمفاسد، واتفاق أهل السنة.
والناظر فيما حصل من صدام بين بعض الحكومات رغم أننا لا ننكر وجود المنكرات والظلم عندها وبين بعض الجماعات التي أرادت تغيير الظلم والمنكرات بالخروج بالسلاح سيقتنع بمنهج أهل السنة ومسلكهم مع الحاكم الذي يقع في المنكر فقد حصل من الفساد والدمار وزيادات المنكرات أضعاف أضعاف ما كان موجوداً وتحقق بالطاعة والرفق والنصح وتعليم الأمة دينها مصالح جمة لا تحصى. وأهل السنة وسط في الأمور كلها، فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين.
(2) شبهة العنف والإرهاب:
وأما شبهة الإرهاب فهي شبهة عائمة وفي غاية الغموض والتيهان وهو مصطلح يطوح به الخصم خصمه في هذا الزمان بدون حجة أو شبه برهان، فقد أطلق هذا الاسم المخيف البعبع على الجهاد الإسلامي الشرعي، وأطلق على الإسلام من قبل خصومه، وسميت تعاليم الإسلام باسم ثقافة الإرهاب، ووصفت أعمال الخير في الإسلام عن طريق المؤسسات واللجان الخيرية بأنها داعمة الإرهاب، ووصف المدافع عن دينه وبلده في أي بلد مسلم يهجم عليه الغزاة المعتدون بالإرهابي، وهكذا أصبح هذا اللقب يطلق بلا زمام ولا خطام على المخالف من قبل مخالفيه، واختلطت الأوراق ولم يفرق بين مقاومة مشروعة وإرهاب الآمنين وإزعاج القاطنين في أرض الله بل أطلقت هذه التهمة من قبل بعض الأحزاب على مخالفيها من الأحزاب وأحزاب في المعارضة على بعض الحكومات وبعض الحكومات على بعض أحزاب المعارضة.
لكن عندنا نحن المسلمين وأهل السنة تحديداً إن ما يسمى بالإرهاب منه ما هو محرم قطعاً ومنه ما هو مشروع قطعاً.
ففي كتب اللغة العربية (رهِب رهباً من باب تعب خاف، والاسم الرهبة فهو راهب من الله، والله مرهوب والأصل مرهوب عقابه، والراهب عابد النصارى، والجمع رهبان وترهب انقطع للعبادة ([11])، فهي مادة بكل مشتقاتها تدل على الخوف (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً))([12])، (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)([13])، (ترهبون به عدو الله وعدوكم) ([14])، وأرهبه أخافه.
وتشتق كلمة (إرهاب) من الفعل المزيد (أرهب)، ويقال أرهب فلاناً: أي خوفه وفزعه، وهو نفس المعنى الذي يدل عليه الفعل المضعف (رهّب)، أما الفعل المجرد من نفس المادة وهو (رَهِبَ)، يرهب رهبة ورهْبا ورهَباً فيعني خاف، فيقال رهب الشيء رهباً ورهبةً أي خافه، أما الفعل المزيد بالتاء وهو (ترهّب) فيعني انقطع للعبادة في صومعته، ويشتق منه الراهب والراهبة والرهيبة والرهبانية …الخ، وكذلك يستعمل الفعل ترهب بمعنى توعد إذا كان متعدياً فيقال: ترهب فلاناً: أي توعده، وكذلك تستعمل اللغة العربية صيغة استفعل من نفس المادة فتقول استرهب فلاناً أي رهّبه.
ويلاحظ أن القرآن الكريم لم يستعمل مصطلح (الإرهاب) بهذه الصيغة، وإنما اقتصر على استعمال صيغ مختلفة الاشتقاق من نفس المادة اللغوية، بعضها يدل على الإرهاب والخوف والفزع، والبعض الآخر يدل على الرهبنة والتعبد، حيث وردت مشتقات المادة (رهب) سبع مرات في مواضع مختلفة في الذكر الحكيم لتدل على معنى الخوف والفزع كالتالي:
- يرهبون: (وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) ([15]).
- فارهبون: (وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون)([16])، (إنما هو إله واحد فإياي فارهبون) ([17]).
- ترهبون: (ترهبون به عدو الله وعدوكم)([18]).
- استرهبوهم: (واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم)([19]).
- رهبة: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)([20]).
- رهباً: (ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين)([21])، بينما وردت مشتقات نفس المادة (رهب) خمس مرات في مواضع مختلفة لتدل على الرهبنة والتعبد كالتالي:
ورد لفظ (الرهبان) في سورة التوبة ([22])، كما ورد لفظ (رهباناً) في سورة المائدة ([23])، ولفظ (رهبانهم) في سورة التوبة ([24])، وأخيراً (رهبانية) في سورة الحديد ([25])، فعلى هذا الترهيب التخويف والإرهاب كذلك وهو قسمان ممنوع ومشروع:
- فالممنوع منه: قتل النساء والأطفال والشيوخ والأبرياء والعباد والمعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين والذين لا يقاتلون ولا يعتدون، فالقتل لهؤلاء ونحوهم محرم أو إن صح التعبير إرهاب ممنوع، وكل تخويف بغير حق ممنوع.
- والثاني المشروع: وهو الدفاع عن الدين والأهل والبلد وحماية الديار والغيرة على العار وجمع لكلمة الأمة وكونها قوية ديناً وخلقاً وعدداً وعدةً، فالأمة القوية مرهوبة يحسب لها عدوها ألف حساب ومن هذا القبيل: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم …الآية))، فعلى الأمة أن تكون قوية ليهابها أعداؤها.
الخلاصة:
نخلص من العرض السابق إلى التأكيد على نقاط أساسية لفهم أزمة تحرير مضمون مصطلح (الإرهاب) وهي: عدم وجود تعريف موحد للإرهاب، وأن تعريف الإرهاب ليس من حق دولة أو ثقافة بعينها.
للتوصل إلى تعريف حقيقي للإرهاب يجب أن يحتوي مفهومه على كافة أنماط الإرهاب، بما فيها إرهاب القوى العظمى والإرهاب الاقتصادي والإرهاب الثقافي …الخ.
ظاهرة الإرهاب غير مقصورة على المنتمين إلى حركات وفصائل إسلامية، وفي هذا السياق لا تفرق الغرب بين المنظمات الفلسطينية الإسلامية والقومية والشيوعية، فجميعها في نظر البعض منظمات إرهابية، وبعض الدول تقصر الإرهاب على المسلمين وتخرج بقية النحل الأخرى.
الجدل المثار بقوة حول تعريف ظاهرة الإرهاب فرصة لإعادة النظر في تحرير مضامين المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في ثقافتنا المعاصرة والتي تتسم غالباً بالفوضى.
فما هو الإرهاب عند أهل السنة هل هو إلا بيان الحق وبيان مناهج أهل الكفر والبدع والضلالات بالحكمة والموعظة الحسنة و المجادلة بالتي هي أحسن.
وهل يكفر أهل السنة من لم يقع في ناقض من نواقض الإسلام أو يبيحون دم مسلم أو ماله أو عرضه وهل يخوفون الآمنين ويفزعون المستأمنين، الحق أنه دعاية باطلة، وأن أهل السنة متهمون بما هم منه براء.
(3) التشدُّد:
وأما التشدد فهو مذموم شرعاً وفي اللغة العربية: شددته شداً من باب قتل أوثقته والشدة بالفتح: المرة منه وشددتُ العقدة فاشتدت، ومنه شد الرحال وهو كناية عن السفر، ورجل شديد أي بخيل وشدد عليه: ضد خفف.
فالتشدد: ضد اليسر والشريعة جاءت باليسر (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)([26])، (وما جعل عليكم في الدين من حرج)([27])، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت بالحنيفية السمحة)) ([28])، وقال: ((ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) ([29]).
فمتى كان أهل السنة مشددين على الناس بتحريم ما أحل الله وإيجاب ما لم يوجبه، وجعل النوافل والمستحبات فرائض وواجبات؟
فإن وجد من شذوا في شيء من ذلك فهم مخالفون للشريعة ويسرها مخالف لمنهج السلف وسلوك أهل السنة، ولا يعبرون إلا عن أنفسهم لا عن أهل السنة.
(4) التطرف:
التطرف في اللسان العربي: مشتق من الطرَف أي الناحية أو منتهى كل شيء وتطرف أتى الطرف وتجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط، وكلمة التطرف تستدعي للخاطر كلمة الغلو التي تعني تجاوز الحد، وهو من غلا: زاد وارتفع وجاوز الحد، ويقال الغلو في الدين (لا تغلو في دينكم) ([30]).
والتطرف مصطلحاً يضاد مصطلح الوسطية الذي هو الوسط الواقع بين طرفين كما يقول الأصبهاني في مفردات غريب القرآن.
وهو يحمل في طياته معنى العدل، وفي القرآن الكريم (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) ([31])، أي أمة عدل [32].
والتوجيه القرآني كان دوماً يحث على الاعتدال، فالله - سبحانه - لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهو يعلي من شأن اليسر، وهو ينهى عن البخل والشح، لأنهما تطرف في التعامل ما المال، كثيرة هي الأحاديث النبوية التي تشرح ذلك وتدعو إلى الرفق، ((إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)) ([33])، ((ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) واه أحمد.
وقد جاء الفقه ليؤكد على تمثل روح التيسير والسماحة، وليجعل من القواعد الأصولية والفقهية مثل قاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، وقاعدة: (لا ضرر و لا ضرار) ([34])، وقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات)، ويحفل فقه المعاملات بما يحث على الأخلاق الحميدة، وينهى عن السخط والضجر والفحش والشطط والمغالاة، وغير ذلك من صور التطرف.
وإذا كان مصطلح التطرف يعني التشدد وتجاوز الحد، فإن مصطلح الوسطية يدل على العدل والسماحة، ولفظ السماحة في لسان العرب يطلق على سهولة التعامل فيما اعتاد الناس فيه المشادة، كما يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن معنى السماحة في لسان العرب في كتابه: (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) أنها وسط بين الشدة والتساهل، ولفظها هو أرشق لفظ يدل على هذا المعنى. يقال سمح فلان أي جاد بمال له بال، وهي تدل على خلق الجود والبذل، وينتهي إلى القول: فأصل السماحة يرجع إلى التيسير والاعتدال، وهما من أوصاف الإسلام.
وأهل السنة وسط في سائر الأبواب بين الإفراط والتفريط فهم بين المشبهة والمعطلة في الصفات وبين المرجئة والخوارج في الإيمان وبين القدرية والجبرية في القدر وبين الرافضة والحرورية الناصبة في آل البيت، وهم أرحم الأمة بالأمة، حتى أنهم أرحم بأهل المعاصي والبدع في النصح لهم والرفق بهم لردهم إلى جادة الصواب من أنفسهم وأشباههم من المبتدعة والفساق.
(5) شبهة إقصاء الآخر؛ ونبذ التعددية الفكرية:
وأما القول بعدم قبول الرأي أو إقصاء الآخر ونبذ التعددية الفكرية فيقال ما المراد بذلك؟
فإن كان الخلاف بين التوحيد والإسلام من جهة والشرك والكفر من جهة أخرى فهذا أمر لا مفر منه شرعاً فقد فرق الله بين الفريقين: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون)([35])، (أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار)([36]).
وجاءت أحكام في الشرع تخص الوثنيين وأحكام تخص أهل الكتاب، من قبول الجزية وزواج الكتابيات وأكل ذبائحهم مع النهي عن الولاء لهم، ولكن إذا خضعوا لأحكام الإسلام تركوا على ما هم عليه وحرام قتلهم والغدر بهم، فهذا تفريق بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء والأموات.
وهؤلاء المعترضون من أعداء الإسلام على مسألة الولاء والبراء في الإسلام يطبقون الولاء لمن هو على نحلتهم وملتهم، ويعادون من خالفهم ديناً وسياسة وما هذه الأحلاف العالمية في أوروبا وغيرها إلا من هذا القبيل.
وإذا كان الرأي الآخر في الفرق الإسلامية التي وقعت في بدع فإن حكم البدعة تتفاوت فمن بدعة أصلية إلى إضافية سرية أو علنية يدعو إليها صاحبها أو لا يدعو، فله مادام مسلماً حكم يختلف عن حكمنا على الكافرين، وله من الولاء بقدر ما فيه من الخير، ومن البراء بقدر بدعته.
ولا ريب أن ضلالة سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو التعطيل لصفات الله - تعالى –وتحريفها، أو إنكار القدر من الضلالات التي تصم الآذان، وتهدم أصول الشريعة لمصادمتها لصريح القرآن وصحيح السنة، فعلينا الإنكار على ذويها لردهم إلى الجادة.
وأما المسائل والآراء التي للرأي فيها مجال و الاجتهاد فيها صائغ فقد وجد في الفقه الإسلامي اختلاف في مئات المسائل بين أهل العلم من أهل السنة سواء عند المذاهب الأربعة أو الظاهرية أو أهل الحديث، بل حتى الزيدية قريبون في مسائل فقههم من الأحناف، والاختلاف عند العلماء على أنواع:
أ- تعارض تضاد.
ب- اختلاف تنوع.
ت- اختلاف أفهام.
فالأول هو الذي فيه الولاء والبراء، والثاني والثالث هما اللذان لابد من اتساع الصدور لهما، فالتعددية الفكرية إذا كانت بهذا المفهوم و هو مما يسوغ فأهل السنة يقولون بها([37])، وإن كان تعدد المنابر التي تصد عن السبيل وتعلن الفساد العريض والإباحية فأهل السنة لا يقرون ذلك وعلى أصحاب الكلمة والحل والعقد أن يأخذوا على أيدي السفهاء، فما هو الإقصاء إذن؟ إن هناك إيماناً وكفراً فنحن مع المؤمنين فهل يطلب منا أن نتنازل عن ديننا حتى يرضوا عنا: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)([38]).
(6) شبهة التكفير:
وأما القول بأن أهل السنة يكفرون المخالف فهذا من أعجب ما يطرق سمعك، فكيف يقال هذا عمن ناظروا الخوارج وردوا عليهم لتكفيرهم بمطلق المعاصي أو الكبائر عند بعضهم وعلى أصحاب المنزلة بين المنزلتين من المعتزلة لإخراجهم المسلم من الإسلام إلى منزلة بين الإيمان والكفر، والحكم عليه بالخلود في النار إذا مات على ذلك.
ولكن مع ذلك لا بأس من باب النصيحة وبيان الحقيقة أن نعرف من هم المكفرون للمسلمين، ولو بإشارة عابرة: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)([39])، فقد ينفع الله بعض المنصفين غير العارفين، و لا يضر بعد ذلك تعصب المكابرين فأقول:
ذهب الخوارج إلى أن من وقع في كبيرة من الكبائر أو ذنب فإنه يكفر بذلك فإن تاب رجع إلى الإسلام، وإن مات قبل التوبة فهو خالد في النار مخلد فيه ([40]).
المعتزلة ذهبوا إلى أن مرتكب الكبيرة لا يكون مؤمناً ولا كافراً، وإنما في المنزلة بين المنزلتين، فإن مات قبل التوبة فهو خالد مخلد في النار ([41]).
المرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب ([42]) فمهما عصيت ما دمت مؤمناً فلا يضرك ذلك.
السلفيون وأهل السنة قالوا: من ارتكب كبيرة أو صغيرة فهو مؤمن ناقص الإيمان، لا يخرج من الإيمان لمجرد ارتكاب الكبائر إلا مع الاستحلال، ولذلك يقولون: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن مات قبل توبته فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه ثم نهايته إلى الجنة لأنه من الموحدين ([43]) فلا يكفرون بكل ذنب.
الاثنا عشرية الإمامية أو الشيعة الرافضة: يحكمون على كل من حكم الأمة المسلمة من أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من الأمويين والعباسيين والمماليك والسلاطين من آل عثمان، وجميع أمراء الأمصار من القرن الأول إلى يومنا هذا من ملوك ورؤساء وأمراء بالكفر، لأنهم اغتصبوا الحكم من غير الاثنى عشر؛ لأنهم يعتقدون أن من حكم من غير الاثني عشر الذين مات الحادي عشر منهم في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري فقد اغتصب ما ليس له فهو كافر.
ثم أجروا الحكم على الرعية الذين أطاعوا الخلفاء والحكام غير الاثني عشر فكفروا الحاكمين والمحكومين معاً.
وهذا مذهب رديء جداً، وأسوأ المذاهب على الإطلاق في التكفير؛ لأن الخوارج كفروا بالمعصية وهؤلاء كفروا بالطاعة والقربات.
ومذهب الرافضة يحكم على الأمة كلها أولها وآخرها إلى يوم القيامة بالكفر؛ لأن الأئمة الإحدى عشر لم يحكم منهم إلا أمير المؤمنين علي ثم الحسن - رضي الله عنهما - مدة لا تزيد على ست سنين، والثاني عشر لا وجود له إلا في مخيلتهم، ولذا لن يخرج من السرداب أو العدم، وسيظل الحكم على الأمة بالكفر مذهب الشيعة الرافضة إلى قيام الساعة، كما جاء في الكافي: "باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل، ومن جحد الأئمة أو بعضهم ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل: عن أبي جعفر - رضي الله عنه - وهو الإمام محمد الباقر أنه فسر قول الله - تعالى -: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)([44]) قال: من قال إمام وليس بإمام قلتُ: وإن كان علوياً، قال: وإن كان علوياً، قلتُ: وإن كان من ولد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: وإن كان".
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - قال: "من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر".
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إمامة من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيباً".
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - قال: "من أشرك مع إمام إمامته من عند الله، ومن ليست إمامته من الله كان مشركاً بالله" ([45]).
وقوله: ومن زعم أن لهما نصيباً في الإسلام يعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
فإذا كان هذا حكم من زعم أن لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - نصيباً من الإسلام فما الحكم عليهما - رضي الله عنهما -؟!!
هذا بإيجاز هو مذهب الأمة في الحكم على العاصي فمتى كان أهل السنة مكفرين ومحقرين ومجرحين بالباطل؟!!
نعم إنهم ليسوا من القائلين لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يدافعون عمن ثبت كفره قطعاً، فمن وقع في ناقض من النواقض مع: علمه وتعمده، وليس مخطئاً أو مكرهاً، وليس له شبهة تمنع من الحكم عليه.
حكموا عليه بما يستحق وكتاب الردة مزبور في الفقة الإسلامي على اختلاف المذاهب، وفيها تفصيل لذلك والخلاصة إن تهمة أهل السنة بتكفير المخالف تحامل مفضوح من باب: "رمتني بدائها وانسلت".