في محاضرة درتموند بألمانيا
دمعات تترنح من المُقل
ألمانيا : الأحد 9 جمادي الثانية 1431 هـ الموافق 23 من مايو 2010 م
وحده وبعد
في بعض الأحيان يشعر الإنسان أن للحياة مذاقا خاصاً كأنه يلحظه لأول مرة
خصوصا عندما يحدث شيء جديد لم يعتد عليه ، بل وشيء مفرح ومبهج لكل مسلم علي وجه الأرض ، فعندما كان شيخنا الحويني في درتموند يلقي محاضرته الشهيرة والتي كانت بعنوان الركائز ، كنت أجلس بجانبه أترقب أعين الجالسين
فكنت أشعر بلمعان غريب يشع من أغلب الحضور ، ولا أبالغ إن قلت كلهم !
بل كأنني أري نبض قلوبهم وحركة أنفاسهم وهي تتصاعد خصوصا عندما بدأ
الشيخ في محاضرته ، ورأيت دمعات خفاقة تترنح من المقل ترنح المحب الملتاع
وكأن هؤلاء الشباب لا يسمعون محاضرة بل يعيشون بقلوبهم معها
والذي يلفت النظر أكثر أن هؤلاء الشباب ليسوا من مكان واحد ولا قارة واحدة بل كان الحضور متعدد الجنسيات واللغات واللهجات ؟!
وقلت في نفسي سبحان الله من الذي وحدهم ؟
وبعد أن انتهي الشيخ من محاضرته وترجمها أحد إخواننا هناك ترجمة جيدة
كان هناك شخصان لم يكونا في ذاك الوقت علي دين الإسلام ، أحدهما شاب والآخر فتاة ، مع أنه لم يكن في الأصل هناك دعوة لغير المسلمين
ولكن تدبير رب العالمين
سمع الفتي كلاما مس شغاف قلبه ، وأثار فيه مكامن الفطرة فتحركت مشتاقة إلي نفض ما كانت عليه ، وترك غفلة عمياء كانت تسيطر علي قلبه الضعيف
فتجعله يهيم في الأرض لا يعرف لماذا خُلق ؟ ولا أين المصير ؟
كلام جديد مس سمعه عن ضرورة أن تعبد إلهاً واحدا لا شريك له
ليس له ولد ، وليس كمثله شيء ، ولا يُسئل عما يفعل ، ولا يجب عليه شيء
رب له من الأسماء الحسني والصفات العلي ما تقشعر منه الأبدان خشية منه وحبا له ورغبة إليه وخوفا منه
وأن العبد إذا أراد القرب من مولاه لابد أن يعلم أن من خلق ورزق وشفي
هو وحده من يستحق العبادة
ولأول مرة لم يسمع هذا الشاب شيئا عن اللاهوت ولا الناسوت ولا غيره
لم يسمع كلاما فيه هرطقة ولا شقشقة ! بل كلاما يسيراً سهلاً اخترق قلبه قبل أن يخترق أذنه
وهكذا دين الله الحق ، ميسر للخلق كما يُسِّر القرآن للذكر
لأول مرة يستمع إلي كلمات محب للنبي سلم ، يتحدث حديث المتيم ، يدافع عن حياض سنته ، وينتصب واقفا لكل من حام حول الحمي
فكانت الكلمات تشق قلبه وتستخرج منه زبالات الأفكار لتُهيئه للميلاد الجديد
فكأنه في هذه اللحظة بقلب خالِ من الرجس ، يستعد هذا الشاب لاستقبال الحياة الحقيقية ، حياة أخري لم يعهد أن يجد نفسه هكذا
منشرح الصدر حاد البصر نحو المنصة التي يجلس عليها فضيلة الشيخ
غير متردد في الإعلان عن نفسه لهذا الجمع الغفير أنه مستعدُ لأن يكون أخا لهم
وفي سبيل ذلك سيفعل ما يطلبه منه هذا الشيخ الجليل صاحب اللحية البيضاء المخلوطة بسمرة قد بدأت بالرحيل عن شعره
فما سمعه منه كان بفضل من الله سببا لوميض جديد تسلل إلي قلبه ثم يزداد هذا الوميض شيئا فشيئا حتي صار شعاعاً قويا تمكن منه
وفي نفس اللحظة أعلن الداعية الألماني بيير فوجل عن سؤال جديد لكنه مهم
هل من احد يريد ان يُسلم ؟
ثم كررها مرة اخري
إلي أن همهم الناس في مؤخرة الصفوف ، بشري فهناك مولود جديد
ويخرج هذا المولود من بين الناس كأنه يصرخ في الحضور أنا قادم أنا قادم
وبدأت خطوات أقدامه تتحرك في ثقة ليس بالسريع القلِق ! ولا بالبطيء المتردد
حتي صعد إلي المنصة واقترب من الشيخ نظر إليه وسلم عليه وجلس وجهه إلي وجهه منتظراً شارة البدء لانطلاق مسيرته نحو النور
كنت أنظر إليه متعجبا من ثباته وسمته وهدوءه
وكأن هذا الشاب قد وجد غايته التي كان يرنوا إليها من قبل ، وأنا في نفسي أقول لو أن المسلمين يشاهدون هذا البث الحي الآن
وفي نفس الوقت أحدث نفسي كم أنا وغيري من المسلمين في نعمة كبيرة
أن منَّ الله علينا بالإسلام
ثم بدأ فضيلة الشيخ في تلقين الشهادة وهذا الشاب ينظر إليه نظرة عجيبة
هي في رأيي كنظرة العطشي للماء
وكأنه يقول هيا أريد الري فلقد شبعت من الظمأ !!
أشهد أن لا إله ............. أشهد أن لا إله
إلا الله ............. إلا الله
وأشهد أن محمداً ............ وأشهد أن محمداً
رسول الله ............ رسول الله
ضجت القاعة بالتكبير كالموج المتلاحق
يرفعون أصواتهم وبعضهم يرفع يديه وآخرون يبكون
وكانهم يقولون جميعا في صوت واحد
الذي أنقذه من النار
وكان بيني وبين عين المولود الجديد مسافة قريبة جدا
فرأيت في عين هذا الشاب الألماني شعاعاً من نور
وفي نفس اللحظة وجدت قطرات دافئة تنساب من بين مقلتي شيخنا
تعبر عن مكنون صدره : الذي أنقذه من النار
ومن دقق في وجه هذا الشاب لشاهد بسمة الثقة بين شفتيه ، ونور الهدي بين عينيه
لذلك مسك فضيلة الشيخ برأسه وقبلها معلناً ولائه ومحبته للمولود الجديد
وسط حفاوة بالغة من جميع الحضور
الذي أنقذه من النار ..... الذي أنقذه من النار
وفي ظل فرحة الجميع في القاعة بانضمام أخينا في الله إلي ركب الإيمان
أعلن بيير فوجل عن مفاجأة أخري بأن هناك امرأة في قاعة النساء
تريد أن تدخل في دين الله الحق
فنظرت إلي وجه شيخنا فوجدته قد زاد سروراً علي سرور
وما زالت العبرات تتسلل من عينيه في خفاء ، وأشعر بأن قلبه يهتز من الفرح
فتناول منديلاً ليمسح ما تسلل ، ولكن آثار العبرات ما زال يلمع داخل مقلتيه
ثم تناول شيخنا المايك ولقن الفتاة الشهادتين
وكانت تكرر وراءه كلمات الشهادة وأعين كثير من المؤمنين مغرورقة بالدموع
والله الذي لا إله إلا هو لقد كانت كلماتها والتي يحفظها كل مسلم علي وجه الأرض كرائحة العبير الفوَّاح الذي يخترق الصدور وأنت في حالة من السرور .
ضجت القاعة مرة أخري ، وعلت الله أكبر ، وكان بعض الحضور يتعانقون ، وكان هناك رجل ذو لحية بيضاء كثة كان قد اسلم منذ سنوات وقد علا تكبيره بشكل ملحوظ ، وكأنه تذكَّر لحظة إسلامه ، يوم ان هداه الله وأخرجه من الظلمات إلي النور ، لحظات رائعة ، لا تتكرر كثيرا في حياة الناس .
ثم انصرفنا من القاعة وسط هذا الفرح الشديد وكنت ألهج بهذا الدعاء
اللهم لك الحمد ....... اللهم لك الحمد ....... اللهم لك الحمد
بقلم : محمد سعد