غزة الحرة تتوجه للانتصار على حصار همجي لجيش من أعتى الجيوش.. تنتصر بقوة الحقيقة، فإذا كان يقال على امتداد التاريخ أن الرواية يكتبها دائماً الطرف الأقوى، فإن هذه المقولة انتهت صلاحيتها في زمن عولمة الصورة.....
..... في اليوم الثالث من العدوان الوحشي على أسطول غزة الحرة، كتب عمير مزروخ المحلل الإسرائيلي منتحباً: «قد لا يكون الكماندوز الإسرائيليون على علم بأن أعضاء في أسطول غزة الحرة كانوا يحملون السكاكين والقضبان المعدنية، ولكن ينبغي أن يكونوا على علم أن كثيراً منهم في الأسطول كانوا مسلحين بالكاميرات، والهواتف الخلوية، والمدونات الإلكترونية، بالنسبة لبلد متقدم جداً تكنولوجياً، ومع التحديات الجسيمة للدبلوماسية العامة، أن تفشل فشلاً ذريعاً في إعداد الاتصالات الهجومية على وسائل الإعلام الجديدة هو فشل استراتيجي»، ثم يمضي المحلل نائحاً على المال المهدر وعلى الجيش الإسرائيلي العرمرم الذي ينفق الملايين، بينما تهزمه كاميرات برخص التراب يحملها ناشطون مسالمون عزل من النساء والرجال.
وقبله بيوم كتب المحلل الأمريكي في النيويورك تايمز براين ستلتر ما خلاصته: أنها حرب صور بين جانبين، انتصرت فيه قناة الجزيرة على الجيش الإسرائيلي؛ لأنها سبقته عشر ساعات بسرد القصة بالصور، رغم أنه ليس من الواضح أي مرحلة من الأحداث تمثلها تلك الصور من كلا الجانبين، فالصور الأولى شاهدها ملايين لا حصر لهم، فيما لم تحصد صور الجيش الإسرائيلي سوى 600 مائة ألف من المشاهدات، بعد مرور 24 ساعة من بثها.
قبل انتشار كاميرات الهواتف المحمولة والإنترنت، كان أول من انتبه لحرب الصور من خلال الفضائيات هو المفكر الفرنسي بودريار حين كتب في صحيفة ليبيراسيون بعد يومين من حرب الخليج الثانية (1991) مقالة بعنوان: «حرب الخليج لم تقع»!! وكان ليلة الحرب كتب مقالته المشهورة في الجاردين زاعماً أن الحرب لن تقع! لماذا؟ بسبب عدم إمكانية التمييز بين الصور والكلام وواقع الحال، فهناك زخم هائل من الصور التي نراها دون أن نعلم بالأحداث الفعلية لهذه المعارك، بل أن أصحاب القرار يتابعون الأحداث عبر شاشات الفضائيات، ويتأثرون بالصور التي يشاهدونها، ومن هنا يمكن القول إن التغطية الإعلامية، والصور المنقولة هي التي تصيغ الحرب، بل هي الحرب ذاتها!؛ لأن الانطباعات التي تنشأ منها لا تؤثر في عموم المشاهدين فقط، بل تؤثر في أصحاب القرار أيضاً.
إن الوقائع التي لا تلتقطها الصورة تعتبر غير موجودة، وبتعبير آخر فعند قراءة أو سماع الأحداث، فإن الحدث الذي لم نره لا يبقى في أذهاننا مثل الحدث الذي رأيناه، أو كما تقوم فلسفة بورديار: «الأشياء لا تحدث إذا كانت غير مرئية»، فما حدث في حرب الخليج هو حرب صور متلفزة.. فقوة تأثير وسائل الإعلام وهيمنتها أفضت إلى ما فوق الحقيقة.. وأصبحت الصورة أكثر حقيقية من الحقيقة! أي وصلنا إلى ما وصفه بورديار: «كدنا أن نقول إن الحقيقة أصبحت غيورة من الخيال وأصبح الواقع غيورا من الصورة!»
أفكار بودريار هذه ظهرت عندما كانت القوى المتقدمة تكنولوجياً وعسكرياً هي المسيطرة على منظومة إنتاج الصورة، موضحاً أن الحروب أصبحت مجرد لعب فيديو عبر سيناريو تخييلي، تكون الحقائق فيها آخر المعلومات المتفق عليها؛ ليتمكن هذا السيناريو التخييلي من المزج بين الحقيقة والمعتقد.. عبر صور زائفة واستراتيجيات الردع النفسي.. حيث يتم اللعب بالحقائق بمزجها بالصور الطارئة.. ليعتلي الزمن الظاهري على الزمن الفعلي.. بل يعتلي الظاهري عموماً على الفعلي عموماً..
لم يعش بوديريار (ت 2007) ليشاهد كيف أن القوى العسكرية الجبارة والمتقدمة تكنولوجياً لم تعد محتكرة للصورة كما رأينا في حرب إسرائيل على غزة، ثم عدوانها على أسطول الحرية الذي فضحته الصورة، لقد أصبحت إسرائيل تخسر تدريجياً من مؤيديها في الرأي العام العالمي، لاسيما الغربي، وفي أحداث أسطول الحرية أظهرت أهم الصحف العالمية أن نسبة كبيرة من الرأي العام العالمي قد اقتنعت بالرواية الصادرة من الناشطين الإنسانيين على متن السفينة.. وكان المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه انتبه مثل صاحبه بودريار، للقدرة المسيطرة للصورة العولمية، وكتب: «إذا كان أساس السلطة هو الإقناع، فإن الصورة توفر اليوم قدرة إقناعية لم يسبق لها مثيل، فمن يتحكم بإنتاج وتسويق الصورة يتحكم بالمجتمع كله».
والخطورة هنا، أن القوى المتقدمة عسكرياً وتكنولوجياً، ستتبع إستراتيجية جديدة للسيطرة على الصورة بسرعة إنتاجها وبثها وفقاً لما يناسبها.. مما يعني أنها يمكن أن تمارس تزييفاً أشد تضليلاً مما كان قبل عولمة الصورة، وهذا ما حاولت أن تفعله إسرائيل، بإدعائها أن هؤلاء الناشطين كانوا من الإرهابيين، وحاولت عبر الصورة أن تثبت ذلك، لكنها فشلت؛ لأنها تأخرت بضع ساعات عن النشر الذي قام به الناشطون.. وفشلت؛ لأنها لم تستطع رصد حتى الحماقات الصغيرة المتوقعة التي تنشأ عادة جراء المعمعة واضطراب الأحداث..
لذا جهزت إسرائيل نفسها قبل أمس لمواجهة السفينة راشيل كوري، وصورت الأحداث من كل الزوايا لكي تبث ما يناسبها، كما أنها زعمت بأن ثمة فرقاً بين الناشطين المتحضرين بهذه السفينة وأولئك الهمجيين بسفينة مرمرة، إلا أن الناشطة كويزا باتولي تحدثت باسم راشيل كوري رافضة هذا التمييز العنصري البغيض الذي تحاوله إسرائيل للتفريق بين سفينة قادمة من تركيا وأخرى من أيرلندا..
رغم ذلك علينا أن ننتبه إلى أن الصورة هي جزء بسيط من أحد مستويات الحقيقة المرئية أو البصرية.. فطغيان الحالة المشهدية والسيطرة الباهرة للصورة على الأحداث ينذر بخطورة اختلاط الحقائق وقدرة البعض على التزييف.. حيث يتراجع التحليل السياسي المنهجي والتفكير العقلاني والأدلة اللاحقة فتغدو الصورة مع بضع كلمات هي كل شيء: المعلومة والأدلة والتحليل والاستنتاج والقرار.. مثلاً، لم يلتفت إلا القليل لما نشرته قبل أمس الجاردين من أن تشريح الجثث أظهر أنها أُمطرت بوابل من الرصاص.. وما كشفته صحف بريطانية من اعتراف جندي إسرائيلي بأنه قتل بنفسه ستة ناشطين!!
شئنا أم أبينا، الصورة الآن توجه عقولنا..وعلى الناشطين والمناضلين العزل الذي لا يملكون سوى كاميرات الهواتف المحمولة أن يتيقظوا لمحاولة إسرائيل من استعادة سيطرتها على الصورة!
..... في اليوم الثالث من العدوان الوحشي على أسطول غزة الحرة، كتب عمير مزروخ المحلل الإسرائيلي منتحباً: «قد لا يكون الكماندوز الإسرائيليون على علم بأن أعضاء في أسطول غزة الحرة كانوا يحملون السكاكين والقضبان المعدنية، ولكن ينبغي أن يكونوا على علم أن كثيراً منهم في الأسطول كانوا مسلحين بالكاميرات، والهواتف الخلوية، والمدونات الإلكترونية، بالنسبة لبلد متقدم جداً تكنولوجياً، ومع التحديات الجسيمة للدبلوماسية العامة، أن تفشل فشلاً ذريعاً في إعداد الاتصالات الهجومية على وسائل الإعلام الجديدة هو فشل استراتيجي»، ثم يمضي المحلل نائحاً على المال المهدر وعلى الجيش الإسرائيلي العرمرم الذي ينفق الملايين، بينما تهزمه كاميرات برخص التراب يحملها ناشطون مسالمون عزل من النساء والرجال.
وقبله بيوم كتب المحلل الأمريكي في النيويورك تايمز براين ستلتر ما خلاصته: أنها حرب صور بين جانبين، انتصرت فيه قناة الجزيرة على الجيش الإسرائيلي؛ لأنها سبقته عشر ساعات بسرد القصة بالصور، رغم أنه ليس من الواضح أي مرحلة من الأحداث تمثلها تلك الصور من كلا الجانبين، فالصور الأولى شاهدها ملايين لا حصر لهم، فيما لم تحصد صور الجيش الإسرائيلي سوى 600 مائة ألف من المشاهدات، بعد مرور 24 ساعة من بثها.
قبل انتشار كاميرات الهواتف المحمولة والإنترنت، كان أول من انتبه لحرب الصور من خلال الفضائيات هو المفكر الفرنسي بودريار حين كتب في صحيفة ليبيراسيون بعد يومين من حرب الخليج الثانية (1991) مقالة بعنوان: «حرب الخليج لم تقع»!! وكان ليلة الحرب كتب مقالته المشهورة في الجاردين زاعماً أن الحرب لن تقع! لماذا؟ بسبب عدم إمكانية التمييز بين الصور والكلام وواقع الحال، فهناك زخم هائل من الصور التي نراها دون أن نعلم بالأحداث الفعلية لهذه المعارك، بل أن أصحاب القرار يتابعون الأحداث عبر شاشات الفضائيات، ويتأثرون بالصور التي يشاهدونها، ومن هنا يمكن القول إن التغطية الإعلامية، والصور المنقولة هي التي تصيغ الحرب، بل هي الحرب ذاتها!؛ لأن الانطباعات التي تنشأ منها لا تؤثر في عموم المشاهدين فقط، بل تؤثر في أصحاب القرار أيضاً.
إن الوقائع التي لا تلتقطها الصورة تعتبر غير موجودة، وبتعبير آخر فعند قراءة أو سماع الأحداث، فإن الحدث الذي لم نره لا يبقى في أذهاننا مثل الحدث الذي رأيناه، أو كما تقوم فلسفة بورديار: «الأشياء لا تحدث إذا كانت غير مرئية»، فما حدث في حرب الخليج هو حرب صور متلفزة.. فقوة تأثير وسائل الإعلام وهيمنتها أفضت إلى ما فوق الحقيقة.. وأصبحت الصورة أكثر حقيقية من الحقيقة! أي وصلنا إلى ما وصفه بورديار: «كدنا أن نقول إن الحقيقة أصبحت غيورة من الخيال وأصبح الواقع غيورا من الصورة!»
أفكار بودريار هذه ظهرت عندما كانت القوى المتقدمة تكنولوجياً وعسكرياً هي المسيطرة على منظومة إنتاج الصورة، موضحاً أن الحروب أصبحت مجرد لعب فيديو عبر سيناريو تخييلي، تكون الحقائق فيها آخر المعلومات المتفق عليها؛ ليتمكن هذا السيناريو التخييلي من المزج بين الحقيقة والمعتقد.. عبر صور زائفة واستراتيجيات الردع النفسي.. حيث يتم اللعب بالحقائق بمزجها بالصور الطارئة.. ليعتلي الزمن الظاهري على الزمن الفعلي.. بل يعتلي الظاهري عموماً على الفعلي عموماً..
لم يعش بوديريار (ت 2007) ليشاهد كيف أن القوى العسكرية الجبارة والمتقدمة تكنولوجياً لم تعد محتكرة للصورة كما رأينا في حرب إسرائيل على غزة، ثم عدوانها على أسطول الحرية الذي فضحته الصورة، لقد أصبحت إسرائيل تخسر تدريجياً من مؤيديها في الرأي العام العالمي، لاسيما الغربي، وفي أحداث أسطول الحرية أظهرت أهم الصحف العالمية أن نسبة كبيرة من الرأي العام العالمي قد اقتنعت بالرواية الصادرة من الناشطين الإنسانيين على متن السفينة.. وكان المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه انتبه مثل صاحبه بودريار، للقدرة المسيطرة للصورة العولمية، وكتب: «إذا كان أساس السلطة هو الإقناع، فإن الصورة توفر اليوم قدرة إقناعية لم يسبق لها مثيل، فمن يتحكم بإنتاج وتسويق الصورة يتحكم بالمجتمع كله».
والخطورة هنا، أن القوى المتقدمة عسكرياً وتكنولوجياً، ستتبع إستراتيجية جديدة للسيطرة على الصورة بسرعة إنتاجها وبثها وفقاً لما يناسبها.. مما يعني أنها يمكن أن تمارس تزييفاً أشد تضليلاً مما كان قبل عولمة الصورة، وهذا ما حاولت أن تفعله إسرائيل، بإدعائها أن هؤلاء الناشطين كانوا من الإرهابيين، وحاولت عبر الصورة أن تثبت ذلك، لكنها فشلت؛ لأنها تأخرت بضع ساعات عن النشر الذي قام به الناشطون.. وفشلت؛ لأنها لم تستطع رصد حتى الحماقات الصغيرة المتوقعة التي تنشأ عادة جراء المعمعة واضطراب الأحداث..
لذا جهزت إسرائيل نفسها قبل أمس لمواجهة السفينة راشيل كوري، وصورت الأحداث من كل الزوايا لكي تبث ما يناسبها، كما أنها زعمت بأن ثمة فرقاً بين الناشطين المتحضرين بهذه السفينة وأولئك الهمجيين بسفينة مرمرة، إلا أن الناشطة كويزا باتولي تحدثت باسم راشيل كوري رافضة هذا التمييز العنصري البغيض الذي تحاوله إسرائيل للتفريق بين سفينة قادمة من تركيا وأخرى من أيرلندا..
رغم ذلك علينا أن ننتبه إلى أن الصورة هي جزء بسيط من أحد مستويات الحقيقة المرئية أو البصرية.. فطغيان الحالة المشهدية والسيطرة الباهرة للصورة على الأحداث ينذر بخطورة اختلاط الحقائق وقدرة البعض على التزييف.. حيث يتراجع التحليل السياسي المنهجي والتفكير العقلاني والأدلة اللاحقة فتغدو الصورة مع بضع كلمات هي كل شيء: المعلومة والأدلة والتحليل والاستنتاج والقرار.. مثلاً، لم يلتفت إلا القليل لما نشرته قبل أمس الجاردين من أن تشريح الجثث أظهر أنها أُمطرت بوابل من الرصاص.. وما كشفته صحف بريطانية من اعتراف جندي إسرائيلي بأنه قتل بنفسه ستة ناشطين!!
شئنا أم أبينا، الصورة الآن توجه عقولنا..وعلى الناشطين والمناضلين العزل الذي لا يملكون سوى كاميرات الهواتف المحمولة أن يتيقظوا لمحاولة إسرائيل من استعادة سيطرتها على الصورة!