أيها المسلم:
لا يزالُ لسانُكَ رطباً بذكر الله، فإنّ ذِكرَ الله هو السّرُّ الذي يمدُّ قلبك بالطاقة و أوصالَكَ بالحياة و قبرَكَ بالسّعة و ميزانَكَ بالحسنات و آخرتَك بالجنّة. و ليكنْ قلبُك مهبطاً لشهود خالقك، و لتكنْ روحُك منـزلاً لوارداتِ الحضورِ و الحبّ. يقول محمّد إقبال - رحمه الله - في ديوانه (و الآن ماذا نصنعُ يا أمم الشّرق؟): (و اعلم أن الحياة الكريمة تبدأ من حرارة ذكر الله، و العيشة الرّاضية لا تتأتّى إلا بحرارة ذكر الله و الثقة بنصره، فلا سبيل إلى الحريّة إلا بنقاء الفكر من همزات الشّياطين و إغراء المفسدين، و عفّته من أدناسِ الشّرك و صفائهِ من أثر الاستعمار). و إنّ في ذكرك لله استحضاراً لحبّ الله في قلبك، و طمأنينةً تغشى طوايا القلب و حلاوةً تغمر الجوارح. و لن يبرأ القلبُ من النـزغات و تصفوَ الرّوحُ من النّـزعات إلا بذكر الله - عز وجل -، فاجعلْ من وقتكَ خميلةً فيها أشجارُ الذّكر بواسقْ، و أثمارُ التّسبيحِ يوانعْ، و أزهارُ التّكبير و التّهليل روائعْ، و أريجُ الحمدِ و الشّكر سابقْ. يقول سيّد قطب - رحمه الله - في الظّلال: (لا بدّ من فتراتٍ ينخلعُ فيها القلبُ من شواغل المعاشِ و جواذب الأرض، ليخلوَ إلى ربّه و يتجرّدَ لذكره و يتذوّقَ هذا الطّعمَ الخاصّ للتّجرّد و الاتّصال بالملأ الأعلى و يملأ قلبَه و صدرَه من ذلك الهواء النّقيّ الخالص العطر و يستروح شذاه). و كما يطيبُ الذّوقُ بجنى الأثمار آنَ القطاف، و تطيبُ النسائمُ بتراتيل الحمائم، و تميدُ الأغصانُ إذا عرَضتْ بها الرّقائقُ اللّطاف، كذلك يفعلُ ذكرُ الله فعلَهُ في القلوبِ إذا مرَّ بها و طاف. تُجتلى الأنوارُ من مضامين الغيوب، و تستقرُّ أوصافُ الجمالِ و أطيافُ الجلال في زجاجاتِ القلوب. تختلبُ العيونَ شاهداتُ الهدى، و تنسابُ في الجوارح فصولُ النّدى، و تجذبُ الأرواحَ عائداتُ التّقوى، و تسكرُ النّفوسَ هاتفاتُ النّجوى، فتطربُ القلوبُ و كأنّها أُحلّتْ دارَ المُقامة من فضله، و تنتشي الأرواحُ و كأنّها أُدخلتْ جنّةَ المأوى. فالهدايةُ سِدرُها مخضود، و العنايةُ طلحُها منضود، و الرّحمةُ ظلُّها ممدود، سَألتِ القلوبُ فاستُجيبت الأمانيّ، و طلبتِ الأرواحُ فبُثّتْ على رفوفِ العطاءِ الزّرابيّ. و طارتْ بالخواطر الأشواق، و غابت في خيال محبوبها الأذواق، فاليدُ البيضاءُ حاضرةُ العطاء، و كأسُ السّرورِ دهاق. هنا صار العذابُ عذباً و صار العذبُ أعذب، و كان رَبعُ النّور ما أقصاهُ، صارَ الرّبعُ أقرب، و تهادى رَوْحُ النّعيم في مطارفِ الرّوحِ و تشعّب، فبأيّ آلاءِ الإله يُكذّب؟ صحّ بالفقر الغنى، و قوبلتْ بالقَبولِ المُنى، و نادى بالأرواحِ هاتفُ الرّحمن قائلاً (ثمّ دنا). شهداءُ عِرفـانِ الهدى شهداءُ دمُهم على أكفـانهم عُرفاءُ فـإذا حَيوا فبذكره و إذا همُ مـاتوا ففي فردوسهِ أحياءُ فكأنّما نشرُ الشّذا من نشرهم وكـأنّهم في غـيرهم آلاءُ.