دخل على الخليفة أبي جعفر المنصور, العالم الجليل سفيان الثوري، و لما أخذ مكانه في مجلسه قريباً منه، سأله المنصور أن يرفع إليه حاجته.
فأجابه: اتق الله فقد ملأت الأرض ظلما وجورا.
فطأطأ المنصور رأسه ثم أعاد السؤال عليه, فأجابه: إنما نزلتَ هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار, وأبناؤهم يموتون جوعا, فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم. فطأطأ المنصور شاكراً ثم كرّر السؤال, ولكن سفيان تركه وانصرف.
وتأكد لأبي جعفر المنصور أن ما من عالم يوثق به غير سفيان الثوري لتولي القضاء، فدعاه ليوليه القضاء في إحدى ولاياته، فلما مثل سفيان بين يديه، قال له المنصور: إنا نريد أن نوليك القضاء في بلدة كذا، فأبى سفيان، وأبو جعفر يكرر عليه ويأبى سفيان الثوري.
فقال له المنصور: إذن نقتلك، قال سفيان: افعل ما شئت.
فصاح المنصور: يا غلام النطع والسيف، فاقبلوا بالنطع ( وهو جلد يوضع تحت الذي يٌقتل حتى لا تتسخ الأرض بدمه)، ثم أقبلوا بالسيف، فلما رأى سفيان السيف، علم أن الأمر جدي، فقال سفيان: أيها الخليفة أنظرني إلى غدٍ آتيك بزي القضاة.
فلما أظلم عليه الليل، ركب دابته وخرج من الكوفة هاربا.
فلما أصبح أبو جعفر انتظر سفيان الثوري أن يقدم إليه، فلم يقدم عليه حتى وقت الضحى، فأمر رجاله أن يلتمسوه، فرجعوا إليه يقولون له إن سفيان الثوري قد خالفك وهرب في ظلمة الليل.
فغضب أبو جعفر، وأرسل إلى جميع الولاة بأنه من يأتي بسفيان الثوري حيا أو ميتا له كذا وكذا.
هرب سفيان الثوري وذهب إلى اليمن، وفي طريقه احتاج إلى المال، فأجر نفسه عند صاحب بستان على طريق اليمن، فأخذ يشتغل فيه أياماً، وبعد عدة أيام جاء صاحب البستان، فسأله: من أين أنت يا غلام؟؟؟ ( وكان لا يعرف أنه سفيان الثوري العابد الزاهد، عالم المسلمين)، فأجابه سفيان: أنا من الكوفة، فسأله صاحب البستان: أرطب الكوفة أطيب أم الرطب الذي عندنا؟؟
فأجابه سفيان: أنا ما ذقت الرطب الذي عندكم!!!
قال صاحب البستان: سبحان الله!! الناس جمعيهم صغيرهم وكبيرهم بل حتى الحمير والكلاب اليوم تأكل الرطب من كثرته، وأنت ما أكلت الرطب ؟! لمَ لم تأكل من المزرعة الرطب وأنت تعمل فيها؟
قال سفيان: لأنك لم تأذن لي بذلك فلا أريد أن أدخل في جوفي شيئاً من الحرام.
فعجب صاحب البستان من ورعه، وظن أنه يتصنع الورع، فقال لسفيان: أتتصنع الورع، والله لو كنت سفيان الثوري!!! (وكان لا يعرف أنه سفيان الثوري) فسكت سفيان، فخرج صاحب البستان إلى صديق له، فقال له: إن لي غلام يعمل في البستان ومن شأنه كذا وكذا، وأنه يتصنع الورع والله لو أنه سفيان الثوري.
سأله صاحبه: وما صفته؟؟ قال : من صفته كذا وكذا.
قال صاحبه: هذه والله هي صفة سفيان، فتعال نقبض عليه ونحوز على جائزة الخليفة.
فلما أقبلوا على البستان، فإذا سفيان قد أخذ متاعه وفر إلى اليمن. وقد اشتغل عند أناس ما لبث حتى اتهموه بالسرقة. فحملوه إلى والي اليمن، فلما دخل على الوالي، ونظر إليه، رأى رجلاً وقوراً.
فسأله: هل سرقت؟؟ قال سفيان: لا والله ما سرقت.
قال الوالي: هم يتهمونك أنك سرقت، رد سفيان: تهمة يتهموني بها فليلتمسوا متاعهم أين يكون؟
فأمرهم والي اليمن بالخروج من عنده، حتى يحقق مع سفيان الثوري لوحده ويسأله.
فسأله: ما اسمك؟
قال سفيان: أنا اسمي عبد لله.
قال الوالي: أقسمت عليك أن تقول اسمك فكلنا عبيدٍ لله.
قال: أنا اسمي سفيان.
قال: سفيان ابن من؟
رد سفيان: اسمي سفيان بن عبد لله.
قال الوالي: أقسمت عليك أن تخبرني باسمك واسم أبيك وان تنتسب.
قال: أنا اسمي سفيان بن سعيد الثوري.
فأنتفض الوالي وقال: أنت سفيان الثوري!!! ، قال: نعم، قال: أنت بغية أمير المؤمنين، رد سفيان: نعم، قال: أنت الذي فررت من بين يدي أبي جعفر المنصور، قال: نعم، قال: أنت الذي أرادك على القضاء فأبيت، قال: نعم، قال: أنت الذي جعل فيك الجائزة، قال: نعم.
عندها خفض الوالي رأسه قليلاً ثم رفعه، ثم قال: يا أبا عبد الله أقم كيف شئت وارحل كيف شئت، فو الله لو كنت مختبئأ تحت قدمي ما رفعتها عنك.
عندها خرج سفيان ورحل إلى مكة، وسمع أبو جعفر أن سفيان في مكة، وكان حينها وقت الحج، فأرسل أبو جعفر الخشابين وقال لهم :انصبوا الخشب واقبضوا عليه، وعلقوه على باب الحرم حتى آتي أنا وأقتله بنفسي وأُذهب ما في قلبي من غيظ عليه.
دخل الخشابون الحرم، وبدأوا يصيحون: من لنا بسفيان الثوري؟ فلما علم بهم سفيان، فإذا هو بين العلماء أحاطوا به يسألونه وينهلون من علمه، فلما سمع العلماء بالخشابين ينادون به، قالوا لسفيان: يا أبا عبد الله لا تفضحنا فنُقتل معك.
عندها قام سفيان وتقدم حتى وصل إلى الكعبة، ثم رفع يديه وقال: اللهم إني أقسمت عليك أن لا يدخلها أبو جعفر، اللهم إني أقسمت عليك أن لا يدخلها أبو جعفر (أي أن لا يدخل أبو جعفر مكة)، وأخذ يكرر دعاءه. فإذا بهذه الدعوات تقرع أبواب السماوات، فينزل ملك الموت فيقبض روح أبو جعفر المنصور وهو على حدود مكة، ويدخل أبو جعفر مكة ميتاً.
لهذه القصة دلالات، لعل من أهمها: الخشية من الله سبحانه وتعالى، والخوف من الوقوع في الخطأ والظلم أو الإكراه في التحابي لإرضاء السلطان، والوقوع في معصية الرحمن والتعرض لعقابه يوم الحساب.