حديثي ليس عن أبي بكر ولا عن عمر؛ ولكنه عن أبي جهل.
نعم عن ذلك الرجل الهمهيم، ولكن في الشر والفساد، الذكي ولكن في الكيد للحق وأهله، القوي ولكن على أولياء الله وحزبه.
نعم سوف أروي مواقف لهذا الرجل وأقص بعضاً من سيرته، وسوف أقف مع موقفين له، لنتبين مدى قوته وبأسه وعظيم كيده؛ فكان بحق كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أبو جهل فرعون هذه الأمة)] رواه أحمد، ح/3814].
الوقفة الأولى: يرويها لنا المغيرة بن شعبة فيقول: أول مرة لقيت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني كنت أمشي مع أبي جهل في أحد أسوقة مكة، فلقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هيه يا أبا الحكم! أما آن لك أن تجيب داعي الله ورسوله؟ هلم إلى دعوة الله! فقال أبو جهل: يا محمد! هل تريد أن نشهد أنك قد بلَّغت؟ فإنك قد بلَّغت.
والله! لو أعلم أن الذي معك حق ما تبعته.
قال المغيرة: ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومضيت مع أبي جهل، فقال لي أبو جهل: يا مغيرة! والله إني لأعلم أن الذي معه الحق.
إنا تنافسنا وعبد مناف الشرف، قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم.
قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم.
قالوا: فينا السقاية.
قلنا: نعم.
ثم أطعموا فأطعمنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاكَّت الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمن أين نأتي بهذه؟ لا والله! لا نؤمن به ولا نصدقه أبداً.
الوقفة الثانية: لما انتهت معركة بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فتفرق الناس في طلبه فوجده عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه، وأخذ لحيته ليحتز رأسه وقال: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال أبو جهل: أخبرني: لمن الدائرة اليوم؟ قال: لله ورسوله.
وبعد أن دار بينهما الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! هذا رأس عدو الله أبي جهل.
فقال: آلله الذي لا إله إلا هو؟ فرددها ثلاثاً ثم قال: الله أكبر.
صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
انطلقْ أرِنيه.
فانطلقنا فأريته إياه فقال: هذا فرعون هذه الأمة.
ففي الوقفة الأولى نرى أن الرجل يعلم علماً يقيناً أنه يتصدى للحق وينصر الباطل، إنه يعلم أن الذي يدعوه إليه رسول الله هو الحق المبين، فلم يكن الذي رده عن الإسلام هو الجهل أو الشك في الرسالة؛ ولكنه العناد والحسد.
ومن هنا انطلق أبو جهل بكل قوته وفكره وذكائه يعادي الدين وأهله ويحارب الله ورسوله، واستمر على هذا المبدأ طوال حياته مستخدماً كل حيله ودافعاً بماله وصحته بل وأخلاقه فداءاً للعداء لهذا الدين.
فمرة يدفع المال لمن يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومرة أخرى يتعرى من كل معاني الرجولة التي كان يتحلى بها الرجل العربي فيقتل امرأة لأنها قالت: لا إله إلا الله، والعرب كانوا يأنفون من خصام المرأة فضلاً عن قتالها، ولكن أبا جهل نسي كل هذه المعاني؛ لأن فكره وعقله وجميع جوارحه مشغولة عن كل ذلك بالعداء والكيد والحرب لهذا الدين، وينجح في كل هذه الأمور التي كان يصبو إليها؛ ولكن الله ناصر حزبه ودينه.
وتأتي غزوة بدر التي كانت فيها نهاية الطاغية أبي جهل؛ لقد كان في هذه المعركة كالأسد يجول بين الصفوف ويحمس جنده على القتال؛ وهو الرجل الكبير في قومه القوي الفارس الشجاع.
ولكن الله أذل أنفه وأخزاه أمام قومه فيقتله أصغر القوم معاذ ومعوّذ ابنا عفراء، ويقضي عليه راعي الغنم عبد الله بن مسعود.
وفي آخر لحظات حياته وهو يلفظ أنفاسه لم يرجع عن مبدئه وهو المبدأ الباطل وهو الذي يعلم الحق، هكذا كانت نهاية أبي جهل.
أفلا يكون لك أيها المسلم درس في سيرة هذا الرجل الذي أفنى عمره كله، وضحى بكل ما يملك مقابل مبدئه وديانته، وهو لا يجهل بطلان ما يعمل وما يصنع، إنه لحري بك أن تنهج هذا النهج وأنت الذي تسير على الحق وتعلمه، إنه لحري بك أن تقدم كل ما تملك مقابل هذا المبدأ وهذا الدين حتى تموت عليه صامداً قوياً كما كان أبو جهل؛ ولكنك تفرح بهذه النهاية التي مردُّها إلى الجنات والنعيم ونهاية أبي جهل وأمثاله إلى النيران والجحيم قال - تعالى -: [ولا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً][النساء: 104].