فشلت أنظمتنا السياسية الحديثة ـ المسماة بالوطنية ـ والتي وُجدت قي فترة ما بعد الاستعمار الأوروبي، في أن تنهض بمجتمعاتنا على أي مستوى من مستويات النهضة، وإنما كان الفشل هو السمة الغالبة لهذه الأنظمة.
فالفشل كان واضحًا على المستوى السياسي في ملفين أساسيين: الملف الأول هو ملف الصراع العربي الصهيوني، وعدم قدرة هذه الأنظمة على وقف الخطر السرطاني الصهيوني، بل إن الدولة الصهيونية تضخمت ونمت، وأصبح العرب غير قادرين مجتمعين على مواجهته.
أما الملف الثاني فكان ملف إقامة نظم سياسية ديموقراطية ومستقرة وعادلة، تحترم القانون والمؤسسات، وقد فشلت أنظمتنا فشلًا ذريعًا في هذا الملف، وبدلًا من ذلك أسست للاستبداد المطلق والديكتاتورية وتوريث الحكم.
وعلى المستوى الاقتصادي أورثتنا هذه النظم حياة تعيسة مليئة بالتضخم والعجز والتدهور الاقتصادي؛ نتيجة عدم الاستقلال السياسي، ونتيجة تهريب أموال البلاد للخارج، ونتيجة سرقة أراضي البلاد، ونتيجة انتشار الفساد ... إلخ، وأخيرًا انعكس الفشل السياسي والاقتصادي ووصل إلى المستوى الاجتماعي، فرأينا الطبقة الفقيرة تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم، ورأينا البطالة تنتشر، والمخدرات في كل مكان، ثم رأينا كارثة سكنى الفقراء في المقابر، بعد أن اسودت الدنيا في وجوههم، وأصبحوا بلا مأوى، ولم تستطع الحكومات المتعاقبة توفير المسكن الآدمي لهم.
ففي مدينة مثل القاهرة؛ يبلغ عدد ساكني المقابر أكثر من مليون ونصف مليون شخص، بحسب تقديرات غير رسمية، أما الأرقام المتداولة في الأوساط الحكومية فهي تهون من الكارثة، وتتحدث عن مئات الألوف.
أهل العلم الشرعي منقسمون في الأمر، فطائفة مع كراهة السكن في القبور، وطائفة ذهبت إلى التحريم، مستدلين بما رواه مسلم وغيره، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: (لأَن يجلس أحدكم على جمرة فتُحرِق ثيابَه، فتخلُصَ إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر) [رواه مسلم، (2292)].
وبما روى أحمد بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا متكئًا على قبر، فقال له: (لا تؤذِ صاحب هذا القبر) [رواه أحمد، (28425)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (2960)]، والساكن في المقبرة يُظَن به إيذاء أصحاب القبور، بالجلوس عليها، أو غير ذلك مما يُعَدُّ من الإيذاء.
واستدل من ذهبوا للتحريم أيضًا بما روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفُر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) [رواه مسلم، (1860)]، وفي هذا دليل على أن المقابر ليست محلًا للسكن، ولا للصلاة وقراءة القرآن.
ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلُّوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) [رواه مسلم، (2295)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، قالت عائشة رضي الله عنها: يحذِّر ما صنعوا [متفق عليه، رواه البخاري، (1330)، ومسلم، (1212)]، والمُقيم في القبر يحتاج إلى الصلاة، لاسيما النساء.
ويتحدث المركز المصري لحقوق الإنسان عن نسبة تتعدى 48% من هؤلاء لا عمل ثابت لهم، فيما زال 30% منهم في خانة البطالة، ويؤكد واقع العيش في المقابر أن ألوف الأشخاص ـ بل العائلات ـ تسكن في المقابر منذ عشرات السنين، وتستشري في هذه البيئة مختلف الأمراض الصحية والاجتماعية، وهي في نفس الوقت بيئة تشكل تربة خصبة للإجرام والخروج على القانون.
المقابر والعشش بؤر شديدة التخلف على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، ونظرًا لأن هذه التجمعات السكانية تقوم بدون تراخيص؛ فلا يتم السماح لها بتوصيل المرافق؛ كالمياه أو الصرف الصحي أو الكهرباء أو التليفونات أو رصف الطرق المؤدية إليها.
الدراسات تؤكد أن 60% من أطفال هذه العشوائيات محرومون تمامًا من أيٍّ من الخدمات التعليمية، بجانب انخراطهم في سوق العمل في سن مبكرة؛ لإعالة أسرهم، حيث نجدهم يعملون في الورش أو كباعة جائلين، وعادة ما تلتقطهم العناصر القريبة من المخدرات، سواء للتعاطي أو الاتجار.
لقد بحث ساكنوا المقابر عن مأوى بعد الهجرة من الريف، فلم يجدوا سوى المقابر تضمهم وتشجعهم على ذلك، وأحيانًا لوجود أقارب لهم هناك، وكان الاكتظاظ السكاني لمدينة القاهرة مع ما يشمله من مشكلات المساكن الآيلة للسقوط والانهيارات الفعلية هو السبب الرئيسي لهذه المأساة.
وينقسم سكان المقابر إلى فريقين: الأول فريق "يعمل"، والثاني "لا يعمل"، والذي يعمل ينقسم إلى نطاقين: الأول داخل المقابر، والثاني خارجها، أما التقسيم المهني لساكني المقابر فهناك أولًا الحرفيون، وهذه الفئة تمثل أبرز المهن، حيث تبلغ نسبتهم 37% من إجمالي السكان العاملين، ثم ثانيًا الموظفون، وتنخفض نسبتهم حتى تصل إلى 9.4%، أما نسبة المشاركين في أعمال التجارة فتنخفض نسبتهم كثيرًا لتصل إلى 1.7%، وأخيرًا أصحاب الأعمال المتصلة بمنطقة المقابر، حيث تبلغ نسبة هذه العمالة نحو 5.5%.
الدراسات تؤكد أيضًا أن المشاكل التي تواجه ساكني القبور هي الخوف من الحياة في منطقة المقابر، مثل الخوف من بعض المعتقدات والخيالات؛ مثل العفاريت والجن التي تطرق على الأبواب ليلًا، ولكن هذا الخوف ليس هو المشكلة الوحيدة التي يعانيها سكان المقابر، فهم يعيشون في خوف مزدوج من الموتى تارة ومن الأحياء أخرى، حيث يستغل اللصوص هذا الاعتقاد الخرافي لدى السكان فيطرقون أبوابهم ليلًا لتخويفهم، وذلك ليتمكنوا من سرقتهم، أو دفعهم لترك المنطقة نتيجة إحساسهم بالخوف وعدم الأمان.
في دراسة للدكتور أبو زيد راجح ـ رئيس مركز بحوث الإسكان والبناء والتخطيط العمراني سابقًا ـ حول "إسكان محدودي الدخل"، يقول: إن 18% من الأسر المصرية تعيش في غرف مشتركة وغير آدمية، وإن معدل التكدس يبلغ 7 أفراد في غرفة واحدة، والدراسة كانت داخل بعض الحارات بالقاهرة؛ مثل "السكرية"، وكشفت أن عشرات الأسر يشتركون في دورة مياه واحدة، الأمر الذي يعني غياب سياسة واضحة للإسكان.
وتشير بيانات وزارة الإسكان نفسها، أن إسكان محدودي الدخل أنواع؛ منها سكان العشش، أو ما يُسمى بالإسكان المشوه، ويشمل 18 منطقة سكنية، ثم سكان المقابر، وعدد سكانها نصف مليون مواطن في القاهرة وحدها، وفي أحواش المقابر 1150 أسرة تؤجر أحواش المدافن التي تقيم فيها، و3088 أسرة ليس لديهم مطابخ و1233 أسرة لديهم مرحاض مشترك، ولا يوجد حتى الآن إحصاء شامل لهم، بينما يمثل سكان العشوائيات نمط آخر لمحدودي الدخل، وهؤلاء يبلغ تعدادهم نحو ثمانية ملايين مواطن، موزَّعين على 497 منطقة سكنية على مستوى الجمهورية.