المتابع لما يُطرح في الساحة الفكرية والإعلامية اليوم حول الهجوم على منهج السلف؛ يجد أن الهجوم متعدد الأطياف، متنوع الأهداف ـ ولكل من هؤلاء وجهة هو موليها، والله حسيبه عليها ـ وفي هذه القضية جال في نفسي خطرات وإشارات سريعة، وقد انتظمت في القضايا التالية:
أولاً: قضية العلم والمعرفة:
أكبر مشكلة تواجه الكثير من السلفيين في أثناء نقاشهم مع منتقديهم هي: ضعف التكوين الشرعي لدى الطرف المنتقد، فتجد استدلالاً بالعموميات، أو بأحاديث ضعيفة، أو رمي التُّهم جُزافاً على الجميع، أو تضخيم خطأ عين، أو الاعتراض بأدلة وأقيسة فاسدة لا تصلح للاحتجاج والقياس العلمي، ونحو ذلك من الحجج والبراهين السائبة!
والمتأمل في المنتديات والحوارات يجد في ذلك كيل بعير في عدة مسائل: سواء في القضايا الفقهية: كالاختلاط والغناء والحجاب.. أو القضايا العقدية: كمحبة الكافر غير المحارب، والتقارب مع الطوائف المبتدعة، والأعياد الوافدة، والنزعة الإنسانية.. أو قضايا السياسة الشرعية: كتصور نظام الحكم في الإسلام أو مفهوم العدل والمساواة والحريات، وغيرها.
وغاية المراد في ذلك: أن تراعى في هذه القضية الأصول العلمية للنقد، وأن لا تكون التُّهم ملقاة بلا زمام، وأن يبني الناقد فكرته على أدلة صحيحة معتبرة؛ ليعرف الآخر كيف يجيبه، فهذا أدعى للإنصاف والموضوعية، هذا إذا كان الناقد صادقاً يريد أن يبني بنقده، أمَّا إذا أراد هدم المشروع السلفي وإزالته، فهذا له كلام آخر، حيث إن لهم في ذلك مشاريع وأفكار تجدونها مفصَّلة في تقارير مؤسسة راند الأمريكية، وفي كتابات بعض السطحيين من بني جلدتنا!
ثانياً: قضية الأصول والقواعد:
من المعلوم أن لكل منهج ومذهب أصولاً وقواعد يبني عليها منهجه ومذهبه، وقواعد وأصول المنهج السلفي واضحة ومعلومة، لكن كثيراً من المنتقدين لا تعرف كيف تحاجّه وكيف تجادله؛ لأن أصوله وقواعده مضطربة، ومنهجه ((مطاطي)) فإلى ماذا تحاكمه؟ وكيف تحاوره وتناقشه؟ فإذا كانت أصوله الكتاب والسنة، فما أدواته المعرفية لفهم نصوصهما؟! وما ضوابطهما؟! وكيف نعرف أنه أصاب أم أخطأ؟! وهل يعرف النصوص بمحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها؟! إلى غيرها من الأصول العلمية المعتبرة، ومن أمثلة هذه القضية:
بعض المنتقدين قد يحتج عليك بكلام الإمام أحمد، أو ابن تيمية أو ابن القيم.. الخ، ثم تُسلم له، فإذا اعترضت على رأي آخر له، بكلام لنفس العلماء الذين احتج بهم، غاض وفاض، وقال أنتم أيها السلفيون تعتبرون أحمد بن حنبل هو الإسلام! وابن تيمية السنة! وهكذا دواليك.. فلا تعرف كيف تحاجه؟ وكيف تحتكم معه في اختلاف فهم نص؟! أو تضعيف حديث؟! أو اعتراض على قياس؟! أو نحوهما من القواعد والأصول العلمية لفهم الكتاب والسنة!
ومن المفارقات، أن علماء السلف السابقين عندما ناقشوا مخالفيهم ومنتقديهم، نقدوهم من خلال أصولهم وقواعدهم، واحتجوا بكلام رجالهم وأهل مذهبهم، مثل أقوال الباقلاني والفخر الرازي والجويني بالنسبة للأشاعرة، وأقوال أرسطو وسقراط وأفلاطون بالنسبة إلى الفلاسفة وهلم جرَّا.
ثالثاً: قضية التحدث باسم السلفية:
لا أحد يزعم من السلفيين أنه متحدث باسمها، يدخل من شاء في السلفية ويخرج من شاء، وذلك لأن السلفية هي الإسلام الصافي النقي الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بكافة تعاليمه بغير ابتداع ولا غلو ولا جفاء، ومن سمات المنهج السلفي ومميزاته، أنه واضح مطرد يستطيع كل متبع له، عالم بأصوله وقواعده وضوابطه، أن يعرف المنهج المخالف له، سواء في العقيدة أو المعاملة أو السلوك، أمَّا بما يتعلق بتنزيل ذلك على الأعيان، فالمنهج السلفي هو المنهج الأكثر عذراً واحتياطاً في هذه المسألة، كما هو مقرَّر في أبجدياته وأدبياته من كثير من المذاهب والاتجاهات الأخرى، فهل ترك لنا المتحامل من رباع أو دور؟!؟
رابعاً: قضية الممارسات الخاطئة من بعض السلفيين لمنهج السلف:
هذه القضية بالذات لو تأملها المنتقد لوجدها ميزة لهذا المنهج، كيف يكون ذلك؟
أولاً: يدل هذا على أن منهج السلف واضح معروف، فإذا شذ فيه من شذ أو خالفه أحد وعُرِفَ، صار المخالف ـ ولو كان متبعاً لمنهج السلف ـ يستوجب النصح والرَّد حسب قواعد وأصول المنهج السلفي.
ثانياً: إن من الظلم والإجحاف أن يعمم خطأ الفرد على المنهج نفسه، وهذا أمر بدهي قرَّره كثيرٌ من أهل العلم والمعرفة في القديم والحديث، فليس من المقبول شرعاً أن تعمم بعض الممارسات الفردية الخاطئة على المنهج ورجاله وأتباعه، وهذا للأسف مطروح من بعض المنتقدين حتى إنهم في كل مرحلة يقفزون أعلى، فالتشنيع أولاً على خطأ فردي من شيخ، ثم إذا تبين أنه متبع لرأي لعالم معتبر مثل ابن تيمية، شنع على ابن تيمية، ثم إذا تبين أنه إجماع من السلف شنع على الإجماع وأنه غير معتبر، وهكذا في سلسلة فجَّة من التعميم والإجحاف والظلم، وما قضية الاختلاط عنا ببعيد!
خامساً: معرفة الدليل قبل الاعتقاد وإصدار الأحكام:
وأحسب أن هذه القضية مهمة جداً، فالاعتقاد قبل الاستدلال منهج للهوى، فالسلفيون يريدون من منتقديهم ومخالفيهم أن ينظروا أولاً في الأدلة، ثم يعتقدوا ويستدلوا، ووالله ما وقع من وقع في بعض الإشكالات الفكرية والأخطاء العقدية إلا بهذا السبب، حيث تجد أن الرأي أو الفكرة تبلورت لديه وفق تصورات معينة، فبدأ يبحث لها من النصوص والأقوال والآراء ما يوافقها، ثم وقع في خطأ علمي فادح، أو منهج جديد قادح! وأجدني قبل انتهاء هذه النقطة مضطراً إلى سوق كلام لأبي إسحاق الشاطبي المالكي (ت: 79) في كتابه الاعتصام: (2/42) حيث يقول: "ولذلك سمى أهل البدع أهل الأهواء، لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها بل قدموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ومن مال إلى الفلاسفة..". أ. هـ
أخيراً: اعتقد أن الهجوم على منهج السلف يمرُّ وفق مؤامرة كبرى لا يدرك أبعادها كثير ممن ينتقد التيار السلفي من الداخل!
والمتأمل في نتيجة تصويت الحلقة الماضية من برنامج البيان التالي: (ظاهرة الهجوم على منهج السلف)، يجد أن التصويت حسم مسألة المؤامرة، وقد سمعنا كثيراً من يقرِّر أنكم دائماً تعيشون فكرة المؤامرة، وأقول: صحيح! المبالغة في ذلك غير مبررة، وفي المقابل أيضاً، فإن إغفال ذلك من السطحية والتغافل، وينبغي التنبه إلى أن المؤامرة لا تأتي من عدو خارجي فقط، مثل المنظمات والهيئات الصهيوصليبية ونحوها، بل هناك عدو أخطر من ذلك، وهو ماكر مخادع له حيل كثيرة، ومصائده ومكائده لا ينجو منها أحد إلا من رحمه ربه، تأمل معي قوله - تعالى -: (إن الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عدوًا) وقوله: (إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينًا) فهذا الشيطان الرجيم قد يوحي للمرء بشبه وحجج يزينها ويحسنها له فيوقعه في المزالق المهلكة، حمانا الله وإياكم من همزات شياطين الإنس والجن!
وفي الختام: لا شك أن باب النقد والتصويب مفتوح لكل أحد، والحق ضالة المسلم أينما وجده فهو أحق به، ولكن ينبغي أن يكون هذا النقد موضوعياً، وأن يكون صاحب هذا النقد يقظاً؛ بحيث لا يوظف هذا النقد توظيفاً سيئاً يفرح به الأعداء والشامتون؛ وقد يكون بعض النقد مثل بيع السلاح في زمن الفتنة، والله المستعان!
ومن باب الحق والإنصاف، فإن هناك شخصيات نقدوا واختلف معهم، ولكنهم فعلاً يستحقون الاحترام والتقدير؛ لأن نقدهم موضوعي منصف، تحسُّ فيه النصح والغيرة واليقظة، وفعلاً تستفيد منهم، فهنيئاً لهم هذه الخصلة العزيزة.
أدرك أن هذه الإشارات قد لا "تروق" للكثيرين، وأحسب أني في هذا المقال السريع لم أقصد أحداً بعينه، لكنها خطرات وإشارات دونت من خلال متابعه الساحة الفكرية والإعلامية وما يحصل أيضاً في أثناء اللقاءات من حديث حول هذه القضية، ولكن أتمنى ممن لا يوافقني الرأي أن يتأمل هذا المقال ويقرأه بعيداً عن الشحن النفسي، والتصورات الصادرة مسبقاً، وما كتبت هذا المقال إلا أرادة التوضيح والنصح، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، والله أعلم.