أهل البيت(ع) منابع تزخر بالعطاء، ومناهل تروي الظمأ..
على طول الزمان وأنّ لهم في كل وقت منبعاً زخّاراً، يمد الناس بحوائجهم، ويحذرهم
الضياع، وينير لهم الدروب، وييسّر لهم عبور المسالك الصعبة وتجاوز العقبات
والمنحدرات المهلكة.
وهم أحياء ـ يغنون المحبين والناس، ويشاركونهم همومهم،
ويقودونهم إلى برّ الأمان. هؤلاء المناهل الروية فيهم الشاخص المعروف ـ كالأئمة
المعصومين ـ وفيهم ذوو الشأن العظيم عند الله ـ وإن لم يصلوا درجة الإمامة ـ
كالعباس بن علي… والسيدة زينب بنت علي(ع) والسيد عبد العظيم الحسيني… والسيدة
نفيسة(ع)، وكذلك بعض العلماء الأبرار الذين ظهرت على أيديهم الكرامات الجليلة
الدالة على علو شأنهم وارتفاع منزلتهم عند الله. وهذه درجة قلما يصلها إنسان، إلا
من امتحن الله قلبه للإيمان.
من تلك الشخصيات البارزة في ميدان العظمة والجلالة من
الذين أزخروا الحياة بكرامتهم، وكانوا في حياتهم وبعد وفاتهم مصابيح هداية، كانت
السيدة نفيسة.
هذه الشخصية العظيمة، والدرّة المضيئة التي ما فتئت
تنثر الخير والبركات الندية، لتروي المتعطشين لنمير علومها الهادية. هذه السيدة هي
جوهرة من خزائن آل محمد، ودرّة من البيت العلوي الطاهر.
والسيدة نفيسة هي بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن أبى
طالب، فهي سليلة هذه السلسلة الطاهرة والأركان الزاهرة.
فأبوها الحسن الملقّب بـ(الأنور) شيخ بني هاشم في
زمانه، واليه انتهت الرئاسة على بني الحسن، كان إماما عالماً جليلاً.. من كبار أهل
البيت، ومن سادات العلويين وأشرافهم وأجوادهم.
ولي المدينة المنورة للدولة العباسية مرتين، وهذه
الولاية لم تنتقص من تواضعه وخضوعه لله سبحانه. فقد دخل عليه أحد الشعراء، وانشده:
الله فــــــــــــــــــرد وابن
زيد فــــــــرد
فغضب من فوره وقال: هلاّ قلت:
الله فــــــــــــــــــرد
وابن زيد عبــــــــد
ونزل من على سريره وألصق خدّه بالأرض تواضعاً وتذلّلاً
لله، فعل هذا أسوة بجده رسول الله(ص). وكان تقياً صالحاً.. ختم حياته بالحسنى، حيث
مات في طريق الحج قريباً من مكة، فدفن فيها.
استهل نور السيدة نفيسة بولادتها في مكة المكرمة سنة
145هـ في الحادي عشر من ربيع الأول، وما إن أطلت بنورها حتى فرحت بها أمها واستبشر
بها أبوها، وحمدوا الله على هذه النعمة الميمونة. ونشأت نشأة نبوية في بيت الله
الحرام، وعندما دخلت سنتها الخامسة ذهبت في صحبة والدها إلى المدينة المنورة. وأخذ
أبوها يلقّنها ما تحتاجه من أمور دينها ودنياها، وكانت تسمع من شيوخ المسجد النبوي
ما يلقونه من علوم الفقه والحديث.
وهكذا ارتقت في مراتب الكمال، حتى بلغت مبالغ النساء،
تقدم إليها الخطاب من السلالة النبوية الشريفة.. من بني الحسن والحسين(ع)، كما
تقدم إلى خطبتها الكثير من أشراف قريش والمسلمين لما عرفوه من كمالها وصلاحها،
فكان أبوها يأبى إجابة طلبهم.
ثم جاء إسحاق المؤتمن ابن الإمام جعفر الصادق… يخطبها
من أبيها، فصمت ولم يرد جواباً، فقام إسحاق من عنده، وتوجه إلى الحجرة النبوية
الشريفة، وخاطب جده ـ بعد السلام ـ وشكى إليه همومه ورغبته في زواج السيدة نفيسة
لدينها وعبادتها، ثم خرج. فرأى والدها في المنام تلك الليلة رسول الله(ص) وهو يقول
له: (يا حسن! زوّج نفيسة من إسحاق المؤتمن). فزوجه إياها في شهر رجب سنة 161هـ.
وكان إسحاق من أهل الفضل والاجتهاد، والورع والصلاح،
كيف لا! وهو ابن الإمام الصادق…، وقد أخذ عن أبيه الكثير من علومه وآدابه وأخلاقه،
حتى أصبح له شأن ومقام ووثاقة لا تخدش.
وهكذا كان في هذا الزواج المبارك انسجاماً يتوافق مع ما
نشأت عليه السيدة نفيسة من حب الله والانصراف إلى طاعته (جل جلاله). وقد ولدت له
(أبا القاسم) و(أم كلثوم)، وهكذا اجتمع في هذا البيت نور الحسن… ونور الحسين…،
وكان من عقبهم السادة (بنو زهرة) في حلب وأطرافها.
وكانت عليها السلام وهي في المدينة لا تفارق حرم جدّها
المصطفى(ص)، قارئة ذاكرة باكية، راكعة.. ساجدة.. ضارعة داعية، وقد حجت بيت الله
الحرام ثلاثين حجّة، أكثرها مشياً على الأقدام تقرّباً إلى الله، وزلفاً إليه.
تقول زينب بنت يحيى المتوّج: (كانت عمتي نفيسة تأكل في
كل ثلاثة أيام أكلة واحدة، وكانت لها سلّة معلقة أمام مصلاها، فكانت كلما اشتهت
شيئاً وجدته في السلة، وكنت اجد عندها ما لا يخطر بخاطري، ولا أعلم من أين يأتي،
فعجبت من ذلك، فقالت: يا زينب، من استقام مع الله تعالى كان الكون بيده وفي
استطاعته). وليس هذا بغريب بعد قصة مريم بنت عمران(ع) التي نقلها القرآن الكريم:
(كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو
من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) آل عمران/37.
ولا يمكّننا الوقت من ذكر فضائلها الكثيرة، فالكلام عن
زهدها وكرمها ويقينها بالله، وقضائها حوائج المحتاجين اكثر بكثير مما يسعه هذا
المختصر.
فقد كان رسول الله(ص) مرشدها الأول والكوكبة الطاهرة من
أبنائه البررة الأتقياء. وكان الموت والآخرة نصب عينيها، ويكفي دليلاً على ذلك
حفرها قبرها بيديها، وقضاءها فيه شطراً من وقتها.. كل يوم تستلهم منه العظات،
ولعلها كانت تحاسب نفسها وتهيئها للقاء باريها نقية طاهرة وهي تتلو الآية الشريفة
(ربي ارجعون لعلي اعمل صالحاً فيما تركت كلاّ إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ
إلى يوم يبعثون) المؤمنون/100.
شُغف حبّاً أهالي مصر بالسيدة نفيسة، وزاد شوقهم فيها
ورغبتهم إليها عندما علموا أنها في الطريق إلى مصر. فخرج لاستقبالها أهالي القاهرة
وأعيانها، وكانت بصحبة زوجها (إسحاق المؤتمن)، ونزلت في دار كبير التجار، وبعد
فترة استقرت في الدار التي أعدت لها.
وراح الناس بمختلف فئاتهم يترددون عليها وعلى زوجها..
يأخذون عنهما العلم والفقه والحديث، فحصلوا بذلك على الكثير من الثقافة الصحيحة. واستمروا
يتدفقون عليهما، وأصبحت رمزاً للطهارة والقداسة في تلك الديار.
وكان لأخيها يحيى (المتوّج) بنت واحدة اسمها (زينب)
انقطعت لخدمة عمتها، تقول: (لقد خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة، فما رأيتها نامت بليل
أو أفطرت بنهار، إلا في العيد وأيام التشريق) وتقول: (كانت عمتي تحفظ القرآن
وتفسّره وتقرأه وتبكي..) وهكذا عاشت في مصر معزّزة مكرّمة، ينتهل من نمير علومها
أهالي مصر. وكانت مثال الحديث الشريف: (عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم،
وإن متّم بكوا عليكم)، وهكذا ما أن حلّ عام 208هـ - ولم تكد تدخل سنتها الرابعة والستين
- حتى أحست بدنو أجلها، فكتبت إلى زوجها تطلب حضوره.
واشتدت بها العلة، حتى حلّت عليها أول جمعة من شهر
رمضان، فزاد عليها الألم - وهي صائمة - فدخل عليها حُذّاق الأطباء، فأشاروا عليها
بالإفطار لحفظ قوتها، ولتتغلب على مرضها فرفضت، ثم أنشدت:
اصــرفوا عني طبيبي
ودعونــــــي وحبيبي
زاد بـــفي شوقي
إليه وغرامي فـــــي
لهيب
طاب هتكـفي في
هواه بين واش ورقيـــــــب
لا أبالي
بفــــــــــوات
حيـث قد صار نصيبي
ليس من لام
بعـــــذل
عنـــــــه فيه بمصيب
جسدي راضٍ
بسقمي وجفونـــــــي
بنحيبي
فانصرف الأطباء، وقد شدّهم الإعجاب بقوة يقينها وثبات
دينها، فسألوها الدعاء، فقالت لهم خيراً ودعت لهم.
وشاءت السيدة نفيسة أن تختم حياتها بتلاوة القرآن
الحكيم، وبينما كانت تتلو سورة الأنعام، حتى إذا بلغت قوله تعالى (لهم دار السلام عند
ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) الأنعام/ 127 غشي عليها. تقول زينب - بنت أخيها
- فضممتها إلى صدري، فتشهدت شهادة الحق، وصعدت روحها إلى باريها في السماء.
وما إن ذاع خبر وفاتها حتى عج الناس بالبكاء والنحيب،
ودخل الحزن بيت كل محب وعارف لفضل هذا البيت الطاهر. ووصل زوجها (إسحاق المؤتمن)
القاهرة بعد أن كانت قد فارقت روحها الطاهرة البدن المسجّى.
وهكذا، بعد أن تم القرار على دفنها في القاهرة، اجتمع
الناس لتأدية المراسم، فكان يوماً مشهوداً، وازدحم الناس ازدحاماً شديداً.. كلهم
يريد أن ينال شرف الصلاة عليها، وتشييع جنازتها. وأقيمت الصلاة عليها في مشهد ضخم
حافل لم يُرَ له مثيل، ودفنت في قبرها الذي حفرته بيدها - وطالما تمددت فيه أيام
حياتها تتلو القرآن.. تتعض بآياته، وتتأمل الأيام التي لابد من مجيئها.
وهكذا اصبح قبرها علماً ومزاراً.. يزوره المحبّون،
ويتذاكرون بركات هذه السيدة الجليلة على أهالي مصر، وما منحتهم من علوم وآداب وما
أتحفتهم به من فقه وحديث نبوي. ويتذاكرون تلك الكرامات التي بقيت ذكراها بينهم.
وكانت من تلك الكرامات التي لا تمحى من ذاكرة المصريين،
تلك الصبية الكسيحة التي كانت من بيت يهودي..، إذ أنها لا قدرة لها على الحراك،
وكانت أمها تريد الذهاب خارج البيت لقضاء بعض شؤونها، ولم يكن أحد عندها يرعى
طفلتها المشلولة، فحلمتها إلى منزل السيدة نفيسة - الذي كان إلى جوارهم - وطلبت
منها أن ترعاها لحين عودتها، فرحّبت بذلك. وأرادت السيدة الجليلة أن تتوضأ من ماء
بجانبها، فجرى من ذلك الماء على الأرض.. إلى جانب الصبية المقعدة، فجعلت تبلّ يدها
منه وتمرّ به على أعضائها، فزال عنها ما كان بها - بإذن الله - وهبّت تمشي على
رجليها، وكأن شيئاً لم يكن بها.
فجاءت أمها، فرأت ابنتها وقد خرجت إليها ماشية،
فسألتها فأخبرتها الخبر، فعجبت لذلك وأسلمت وأسرتها على يد السيدة نفيسة، وأسلم
كثير ممن سمع بالخبر.