فضل الله -تعالى- الرسل بعضهم على بعض، وفاوت بينهم في كثرة أتباعهم وقلتهم، وقوة هؤلاء الأتباع وضعفهم، وقد عُرضت الأمم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((حتى رفع لي سواد عظيم قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد يملأ الأفق ثم قيل لي: انظر ها هنا وها هنا في آفاق السماء فإذا سواد قد ملأ الأفق قيل: هذه أمتك)) رواه الشيخان(1) ولذلك غبط موسى - عليه السلام - نبينا محمداً - عليه الصلاة والسلام - على كثرة أتباعه.
وأفضل الناس في كل أمة من الأمم هم من صحبوا رسولهم مؤمنين به، مدافعين عنه، داعين إلى دينه، ومن جاء بعدهم ممن لم يدركوا الرسول فآمنوا به أُلحقوا بهم في الفلاح والفوز العظيم بدليل قول الله - تعالى -: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(التوبة: 100)، وقالت الأنصار - رضي الله عنهم -: ((يا رسول الله لكل نبي أتباع وإنا قد اتبعناك فادع الله أن يجعل أتباعنا منا فدعا به))(2).
من أخبار الصحابة - رضي الله عنهم -:
لما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أصحاب أفضل نبي - عليه الصلاة والسلام- كانوا أفضل الأصحاب، وخير هذه الأمة، فهم السابقون إلى الإيمان والهجرة، والجهاد والنصرة.. صدّقوا حين كثر المكذبون، واتبعوا إذ قل المتبعون، وتحملوا في سبيل ذلك هجر الأوطان، ومفارقة الأهل والولدان، ومعاداة العشيرة والخلان، ومهما عمل من بعدهم فلن يبلغوا مبلغهم، ولن يحوزوا فضلهم، أو يدركوا سبقهم؛ ولكنهم يلحقون بهم في الفوز والجنة، لا في الفضل والدرجة، وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه))(3)، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يقول: ((لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره))(4).
إنهم - رضي الله عنهم - أعظم هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - إيماناً ويقيناً، وأكثرهم تضحية وبذلاً، فاستحقوا ما نالوا بفضل الله - تعالى -عليهم، ورحمته بهم، واصطفائه لهم؛ ليكونوا أحباب خاتم رسله - عليه الصلاة والسلام -.
وأخبارهم -رضي الله عنهم- غزيرة في تصديقهم ومحبتهم، ووفائهم وفدائهم له -عليه الصلاة والسلام-، ودفاعهم عنه، وتقديمه على كل محبوب سوى الله - تعالى-، ومن قصصهم وأخبارهم في ذلك:
أولاً: في باب محبته - صلى الله عليه وسلم -
1- قدم الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- قرابة النبي -صلى الله عليه وسلم- على قرابته، وما ذاك إلا لمحبته الصادقة.
2- أخبر الفاروق عمر -رضي الله عنه- النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه يحبه أكثر من كل شيء حتى من نفسه، وبناء على هذه المحبة العظيمة أحب عمر إسلام العباس -رضي الله عنهما- أكثر من محبته لإسلام الخطاب لو أسلم مع أنه والده؛ لمكان العباس من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
3- سئل علي -رضي الله عنه-: "كيف كان حبّكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ"(5).
4- قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: "ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه"(6).
ثانياً: التضحية بالقرابة من أجله - عليه الصلاة والسلام -
من شدة محبتهم -رضي الله عنهم- للنبي -عليه الصلاة والسلام- فإنهم قدموه على آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم، ومن أمثلة ذلك:
1- أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول كاد أن يقتل أباه لما بلغه أنه يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه كان من أشد الناس براً بأبيه.
2-لما اعتزل النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه وبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - دخل على ابنته حفصة - رضي الله عنها - مغضباً فقال: "لقد بلغ من شأنك أن تؤذي الله ورسوله، ولقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحبك ولولا أنا لطلقك، فبكت أشد البكاء، فاستأذن عمر في الدخول عليه، فلم يجب بشيء، فقال عمر للبواب: يا رباح استأذن لي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني أظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقها لأضربن عنقها"(7).
ثالثاً: تضحيتهم بأنفسهم فداء للنبي -عليه الصلاة والسلام-
لم تكن هذه المحبة العظيمة من الصحابة -رضي الله عنهم- للنبي -عليه الصلاة والسلام- زعماً كاذباً، أو ظناً مشكوكاً فيه، أو مجرد دعوى ليس عليها برهان؛ إذ لما جدَّ الجد، ودارت رحى الحرب، وحضرت المنايا ميدان المعركة تخطف من أمرت به كانت أجساد الصحابة -رضي الله عنهم- فداء لنبيهم -عليه الصلاة والسلام-، وسيوفهم أسبق إلى المشركين من أن يصل الأذى للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي المغازي من بدر إلى حنين مواقف مشهورة، وبطولات مشهودة، تبرهن أن القوم صدقوا في محبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وليست تلك المحبة، والتضحيات في سبيلها موقوفة على مواطن العز والانتصار، بل ظهرت حتى في حال الهزيمة والانكسار، ومن أمثلة ذلك:
1- ما وقع في غزوة أحد إذ استمات سبعة من الأنصار -رضي الله عنهم- في الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أحاط به المشركون حتى قتلوا عن آخرهم، ولهم الجنة بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة))(8) فكان هؤلاء السبعة هم ممن ردوا المشركين عنه حتى جادوا بأرواحهم فداء له - عليه الصلاة والسلام -.
2-شُلَّت يد طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- في أحد من شدة صموده دفاعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم-(9).
3-كان أبو طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- رجلاً رامياً شديد النزع كسر في أحد قوسين أو ثلاثاً وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((انثرها لأبي طلحة))، ويشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى القوم وأبو طلحة يحميه ويدرأ عنه المشركين بالنبال، فيقول أبو طلحة: ((بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك))(10).
4-الشاعر منهم كان يدافع عنه -عليه الصلاة والسلام- بالشعر كما كان حسان -رضي الله عنه- يفعل، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: ((اهجهم وجبريل معك))(11).
وللصحابيات نصيب من محبته - عليه الصلاة والسلام -:
لم تكن محبة النبي - عليه الصلاة والسلام - حكراً على الرجال من الصحابة - رضي الله عنهم -، بل كان لنسائهم -رضي الله عنهن- حظ أوفى من تلك المحبة ابتداء بأمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- حين خيرهن الله - تعالى- بين البقاء معه -عليه الصلاة والسلام- والصبر على شظف العيش، وقلة المؤنة، وشدة الحال، وبين الفراق والتمتع بطيبات الدنيا، فاخترنه -عليه الصلاة والسلام- على متاع الدنيا، قالت عائشة - رضي الله عنها -: "فبدأ بي أول امرأة فقال: ((إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت - رضي الله عنها -: قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك، ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: إن الله - تعالى -قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29).
(الأحزاب 28-29) قالت عائشة - رضي الله عنها -: أفي هذا أستأمر أبوي؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيّر نساءه، فقلن مثل ما قالت عائشة))(12).
فرضي الله عن أمهات المؤمنين وأرضاهن، اخترنه -عليه الصلاة والسلام- على الدنيا وزينتها، فلا عجب حينئذ أن يمرَّ شهران كاملان لا توقد النار للطبخ في بيوتهن وما يجدن إلا التمر والماء، وما شبعن من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض النبي -عليه الصلاة والسلام-، وما ضجرن ولا اشتكين لأنه الأمر الذي اخترنه، ونعم الاختيار اختيارهن!!
وللصحابيات الأخريات -رضي الله عنهن- حظهن من محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقديمه على الآباء والأزواج والأبناء والإخوان، كما فعلت إحدى الأنصاريات لما قتل أقرب الناس إليها في أحد، فما سألت إلا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال أنس - رضي الله عنه -: "لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة قالوا: قتل محمد حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة، فاستُقبلِت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم استقبلت به أول، فلما مرت على آخرهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك أخوك زوجك ابنك، وهي تقول: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: أمامك، حتى دفعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب"(13).
قوة إيمانهم سبب محبتهم للنبي -عليه الصلاة والسلام-:
الصحابة -رضي الله عنهم- ما أحبوا النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه المحبة الصادقة إلا لأنهم آمنوا به وصدقوه، وأيقنوا أنه رسول الله - تعالى- إليهم، ولو أخبرهم بما لم يعتادوا وقوعه لصدقوا خبره، ومن أمثلة ذلك:
1- أن أبا بكر -رضي الله عنه- أولهم تصديقاً به وله -عليه الصلاة والسلام- حتى نعت بالصديق على إثر حادثة الإسراء والمعراج؛ إذ كذب المشركون ذلك واستعظموه، واستهزؤوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا لأبي بكر - رضي الله عنه -: "هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أَوَتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة"(14).
2- روى أبو هريرة - رضي الله عنه - فقال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس فقال: ((بينا رجل يسوق بقرة؛ إذ ركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تكلم، فقال - عليه الصلاة والسلام -: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هُمَا ثَمَّ، وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه فقال له الذئب: هذا استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري، فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم، قال - عليه الصلاة والسلام -: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم))(15).
وقول الراوي عن أبي بكر وعمر: (وما هما ثمّ)، أي: ليسا حاضرين يوم حدَّث النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث.
وكانوا - رضي الله عنهم- أسرع الناس امتثالاً لما يقول، روى نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تركنا هذا الباب للنساء، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات))(16).
رابعاً: تأدبهم مع النبي -عليه الصلاة والسلام-
كان من توقير الصحابة -رضي الله عنهم- للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمهم له: أنهم يلتزمون الأدب بحضرته، ولا يتكلمون أو يفعلون الفعل إلا بإذنه، ومن أمثلة ذلك:
1- أن الراوي يُشبِّه هدوءهم وسكينتهم عنده -عليه الصلاة والسلام- بمن على رؤوسهم الطير قال البراء بن عازب - رضي الله عنه - يصف حضورهم جنازة يجهز لحدها: "فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير"(17).
2-لم تكن سكينتهم تلك حال حضور الجنازة فحسب، أو لمكان القبر من القلب؛ إذ كان ذلك حالهم حتى في مجلسهم معه أثناء تحديثهم وتعليمهم أمور دينهم، قال أسامة بن شريك - رضي الله عنه -: "كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن على رؤوسنا الرَخَم، ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه ناس من الأعراب فقالوا: يا رسول الله أفتنا في كذا، أفتنا في كذا" (18).
3-إذا حدث الواحد منهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذته هيبة عظيمة، حتى بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إجلالاً لحديثه، كما روى عمرو بن ميمون فقال: "ما أخطأني عشية خميس إلا آتي عبد الله بن مسعود فيها، فما سمعته بشيء قط يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان ذات عشية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نكس فرفع رأسه، فرأيته محلول أزرار قميصه، قد انتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال: أو فوق ذلك أو دون ذلك أو قريباً من ذلك أو شبه ذلك"(19).
4- بلغ من أدبهم - رضي الله عنهم - معه - عليه الصلاة والسلام - أنهم يقرعون بابه إن أرادوه بالأظافير.
5- أنهم - رضي الله عنهم - ما كانوا يرفعون أصواتهم بحضرته - عليه الصلاة والسلام -، ومن كان جهوري الصوت منهم جاهد نفسه على خفض صوته بعد نزول آية الحجرات:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (الحجرات 2) قال ابن الزبير - رضي الله عنهما -: "فما كان عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه خشية حبوط العمل"(20).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: "يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه فقال له: ما شأنك؟ فقال: شرٌ كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال كذا وكذا، فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: ((اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة))(21).
خامساً: خوفهم من مراجعته - عليه الصلاة والسلام -
كان الصحابة - رضي الله عنهم - مأذوناً لهم في مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لا يزيد على ثلاث مرات، ولربما وُفق بعضهم في إصابة الحق كما أصابه عمر - رضي الله عنه - غير مرة، ومع هذا الإذن لهم في المراجعة فإنه كان أشدّ شيء على الواحد منهم أن يراجعه في أمر ثم يكون الحق بخلافه، وقد وقع ذلك لعمر - رضي الله عنه - الذي كان يصيب الحق كثيراً؛ إذ راجع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية فكان الحق على خلاف ما أراد، يقول عمر - رضي الله عنه -: "فأتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا، فقال - عليه الصلاة والسلام -: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري"(22)، وفي رواية يقول عمر - رضي الله عنه -: "ما زلت أصوم وأتصدق وأصلى وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً"(23).
سادساً: تفقدهم لأحواله - عليه الصلاة والسلام -
كان الصحابة - رضي الله عنهم - يتفقدون أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتألمون لآلامه، ويبذلون الغالي والنفيس لأجله، ومن أمثلة ذلك:
1- في غزوة الخندق رأى جابر - رضي الله عنه - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الجوع فانكفأ إلى امرأته وقال: "هل عندك شيء، فإني رأيت برسول الله - صلى الله عليه وسلم- خمصاً شديداً،(24) وإذ ذاك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عصب بطنه بالحجارة، ولم يذق طعاماً ثلاثة أيام مما جعل جابراً يقول لامرأته: "رأيت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ما كان في ذلك صبر فعندك شيء"(25)، ثم ضيفه جابر فضيف النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الخندق كلهم على وليمة جابر وطرح الله - تعالى -البركة في طعامهم فشبعوا".
2- في غزوة أخرى أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسير كل الليل، قال أبو قتادة - رضي الله عنه -: "فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حتى إبهار الليل وأنا إلى جنبه قال: فنعس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته قال: فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأوليين حتى كاد ينجفل فأتيته فدعمته، فرفع رأسه فقال: ((من هذا؟ قلت: أبو قتادة، قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: حفظك الله بما حفظت به نبيه))(26).
3-ربما بكى أحدهم لحال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما وقع من عمر - رضي الله عنه - يقول - رضي الله عنه -: "دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع على حصير قال: فجلست فإذا عليه إزار ليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظ في ناحية الغرفة وإذا أفيق -وهو الإهاب الذي قد ذهب شعره ولم يدبغ- فابتدرت عيناي فقال: ((ما يبكيك يا ابن الخطاب))، قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك ولا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك قال: ((يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى))(27).
سابعاً: توقيرهم لمن يشبه النبي - عليه الصلاة والسلام -
من عجيب ما يروى في محبة الصحابة - رضي الله عنهم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً من أهل البصرة في خلافة معاوية - رضي الله عنه - يقال له: كابس بن ربيعة كان يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجه إليه معاوية، فأشخصه لذلك، فنظر إليه، وقبَّل بين عينيه، وأقطعه المرغاب(28)، وكان إذا قدم على معاوية قام له، فقيل له: أتقوم لهذا الشيخ وأنت أمير المؤمنين؟ قال: نعم؛ لأني رأيت فيه مشابهاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا أقوم لذلك لا له"(29)، وكان أنس بن مالك - رضي الله عنه - إذا رآه بكى وقال: "هذا أشبه الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم –"(30).
فرضي الله - تعالى -عن صحابة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، واجزل لهم الأجر والمثوبة، ورضي الله - تعالى -عمن أحبهم وتولاهم وترضى عنهم، ولعنة الله - تعالى -على من أبغضهم، أو عاداهم، أو لعنهم.