هذه السطور لا تأتي، فقط، بدافع من قرابة الدين، والدم، واللغة، والجوار، والقومية.. الخ، بل راجع البصر فيها بمقاييس موضوعية مقارنة، ومُجردة.. نفسية واجتماعية، ستتحقق من هذه الإرادة "الفولاذية" العجيبة لدي أهلنا الفلسطينيين، و"لا يفُل الجُدر الأسمنتية فضلاً عن الفولاذية إلا الفولاذ"، بل إرادة ـ أهلناـ أقوي من الفولاذ، وإليكم الأسباب.
إن التأمل في أحوال الناس والأصدقاء والأهل ـ وعلى رأسهم أهلنا في فلسطين، الداخل والخارج.. غزة، والضفة، والشتات والمنافي والمخيمات ـ لغنيمة للنبهاء، وفائدة للعقلاء، فبخلاف الدرس في المعاهد والمدارس والجامعات، الامتحان يلي الدرس والتعلم والتعليم، لكن في الحياة نواجه الامتحانات أولا فنتعلم الدروس (ولا يُنبئك مثل خبير)، فالذين يضربون المثل، ويتقدمون القافلة، ويحدون الركب، ويعطون الدروس تاركين ثمار تجاربهم لمن أراد أن يذّكر أو يتعلم أو ينجح.
إن تتبع أحوال أهلنا الفلسطينيين كفيل بأن يعلم الكثير من أسرار الحياة، فللحياة نواميسها وسُننها، التي لا تحابي أحداً، أو تتغير إرضاءً لكائن من كان.
إنهم يعطون الدرس عله يُغير من حال المتململين/ المكتئبين/ القلقين من لا شيء، المتكئين علي وسائدهم الوثيرة، تعساء، لا يجدون ما يفعلون أو ما ينشغلون به، أو يتركون أثرا لمن بعدهم. مجتمعات وأفراد يعيشون ـ فيما يبدوـ في بحبوحة من عيش، وأمن في وطن، بلا عدوان أو قصف أو قتل أو جرحي أو اسري أو حصار، أو دمار؟.
إنهم لا يدللون أنفسهم، فتدليل النفس وإعطائها كل ما تهوى، يُصعب فطامها، عندها يكون ضَعَتِهَا وقلة شأنها، أما إذا دُربّت على مغالبة الصعاب فستكون عظيمة ولن تخذل أبداً.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.
إنهم يعطون الدرس؛ لتتغير تلك الصور والمشاهد الشخصية والأسرية والعائلية والاجتماعية لمظاهر الملل والقلق والكآبة، و"الانتحار عبر قوارب الموت إلي شواطئ أوربا"
إن غيرهم قلقين يتوقعون الابتلاءات والمصاعب، وأي ابتلاء وأية مصاعب كأن تفقد روحك وولدك وزوجك وابنك وأباك وأمك وأقربائك في لحظة واحدة، تلك النفسية ليست سلبية غير مبالية.. لا أنهم يضحكون ويفرحون، ويعقدون الأعراس، يتعلمون، ويجتهدون، ويواظبون على الدرس، ويتفوقون ويحصلون على إجازات عليا أينما حلوا أو ارتحلوا للدراسات.. مهاراتهم الفكرية والعلمية والتقنية عالية، يقولون: إذا التبست عليك الأمور، واختلطت فاعلم أن لا حسب ولا نسب ولا منصب ولا لقب يبقى أو ينفع، فالعمل الصالح الذي تقوم به يغنيك عن كل ذلك، فهو الخالد الباقي:
كن ابن من شئتَ واكتسب أدباً *** يغنيك محـمودهُ عن النسب.
إن الفـتى من يقول: هاأنـذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي.
هم عظماء فيما يفكرون، وفيما يعملون، وفيما يهدفون، يرتقون فيرتقى بهم من حولهم.
همومهم على أسراهم، ومرضاهم، وجرحاهم، وأطفالهم.. تقويهم، لكنهم يقفزون عليها، فالسعادة لا تتحقق في غياب المشاكل في حياتنا، فليس ذلك بوارد: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4]، ولكنها تتحقق في مجابهتها، وحسن التعامل معها، والتغلب عليها، كانت الحياة الدنيوية لرسل الله وأنبيائه جميعاً سلسلة من الابتلاءات والشدائد، ومع أنهم صفوة خلق الله وخلاصة أوليائه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أشـد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه شده زيد له في البلاء))
كان الناس يتصورون ويتخيلون أن رجلاً يختاره الله لرسالته، وينزل عليه كلماته، ويؤيده بملائكته، أن يجعل الأشياء كلها طوع يمينه، وأن يغنيه عن كسب العيش الخ، وأن يضع تحت يده الكنوز ينفق منها على نفسه وأهله، وأن يسكنه في أجمل المنازل، ولا يعرضه للمحن والشدائد!!. فإن هذا -في نظرهم- أقل ما يجب أن يعطيه الله ملك السموات والأرض لرسوله الذي سيقوم بتبليغ رسالته للناس، ولكنهم رأوا أن هذا الرجل الذي يقول إنني رسول رب السموات والأرض، ومالك الكون، وخالق كل شيء.. يقاسي من شظف العيش ما يقاسي فقراءهم، وأهل الحاجة منهم، ويتعرض للمضايق والشدائد ما لا يتعرض إليه عامتهم، قال - تعالى -: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً* أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً) [الفرقان: 7-8]، وقال - تعالى -أيضاً: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً* أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا* أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً* أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً* وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا بعث الله بشراً رسولاً).
إن الله قد أنعم بنعم ظاهرة وباطنة، أما الظاهرة، فهي لا تعد ولا تحصى، وأما الباطنة: فمنها الألم، ومنها حرمان من أشياء لنشعر بحاجتنا الدائمة إليه، ومنها تأخير إجابة الدعاء؛ لنكون دائمي الصلة به - سبحانه -، وحتى الموت نعمة رغم أنه مصيبة فهو لقاء مع الله -جل جلاله-، إن الألم الذي نحيد عنه ونخشى منه هو في أصله نعمة لا يعلمها كثير من الناس، فهو يعلم الصبر، ويصقل النفوس نفسك، وينذر بوجود علة في جسدك، ويلزمك بأن تكون واقعياً، فيجعلك تشعر بآلام الآخرين، وفوق هذا فهو يقربك من خالقك، فتشعر بحاجتك الماسة إليه، ومن لطف الله - تعالى- بعباده ألا يجمع عليهم الهموم والمصائب مرة واحدة، بل يكرمهم ويعطيهم ويفرحهم ويقلبهم في النعم، فإذا ابتلاهم مرة صبر القلة، ونكر الكثرة، إن هناك فئة من الناس لا يتعلمون حتى يذوقوا ألم التجربة، ويتكبدوا وعثاء الطريق، بيد أن هناك أخرى أشد ذكاء يتعلمون من صروف الدهر وتقلباته وحوادثه التي يرونها في كل ركن وزاوية من أركان وزوايا هذا العالم.
الفلسطينيون قلوبهم صافية، خالية من القلق، الحقد الحسد والحرص، فكفى أنهم يعرفون ويحددون عدوهم، هم متحررون من الاستعباد بكل صوره.. لدنيا، أو لمال، أو لشهوة، أو لمنصب الذي يكدر حياة الأغنياء/ والمقهورين على حد سواء.
هل رأيت شيوخهم تبدو عليهم تلك العلامات والانكسارات والشعور بالعجز والهزيمة والاستسلام، التي هي سمة شباب آخرين في أوطانهم "المُحررة"؟؟. إن الحياة عزيمة، فمن فقدها بات عاجزا مشلولاً.. يحركه الآخرون على غير رغبة منه ولا إرادة.
الفلسطينيون يعيشون يومهم دون وجل من غد، فالغد بيد الله وحده، ومن كان هذا شأنه فلن يحرص على شيء سيبذل ويعطي، والحب يأتي مع البذل والعطاء، إنه يبذل الروح فهل سيبخل بما دونها؟؟. هم يتركون الغد حتى يأتيهم، لا يشغلون نفسهم بما فيه من حوادث وكوارث ومصائب، ولا يستبقون الأحداث قبل مجيئها، ولا يتوقعون شراً، يشغلون أنفسهم بيومهم فإنه لم ينته بعد.
إن غيرهم ليتساءل: كيف أعيش اليوم تلو الآخر ويملؤني أمل الحياة؟ كيف أجد ذلك الأمل الذي يعطي لحياتي طعماً وشعوراً بأنني من الأحياء؟ أملاً وشعوراً يجعلني أتطلع إلى قادم الأيام القادمة؟ وماذا سأفعله فيها؟، وإلا فلن انهض من مرقدي، ولن أخرج من عزلتي.
أما الفلسطينيون.. فلا يطرحون تلك الأسئلة، فإنهم في كبد الحقيقة، وواقع الحياة، بلا أقنعة، لعل سؤالهم الكبير، يطرحون لتظل القضية حية فاعلة لا يبيعها من يبيع بثمن بخس.. دراهم معدودة، سؤالهم: متى العودة إلى الديار، والأشجار، والأحجار؟ كي تسعد المفاتيح التي نحملها بان تزل الأقفال عن أبواب دورنا التي هٌُجرنا عنها، وأجبرنا على تركها.
إنهم يتحركون ويتنفسون.. يخطئون ويصيبون، ينجحون ويفشلون.. يعرفون غايتهم، ويحددون وجهتم، وينشدون ضالتهم.. وتلك العلامة الفارقة عن غيرهم.. ففرق كبير أن تعيش لهدف وغاية، وأن تعيش كلاً مهملا، لا لهدف ولا لغاية، ولا حرية حتى ولو كنت في وطن.
إن الحاضر هو "السيولة الوحيدة المتوفرة"، لذا فإنه يجب التصرف فيه بحكمة، كما إن: " الزمان لا يثبت على حال كما قال - عز وجل -: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي، والعاقل من لازم أصلاً على كل حال: وهو تقوى الله، والمنكر من عزته، لذة حصلت مع عدم التقوى فإنها ستحول وتخليه خاسراً.
مخطئ من ظن أو يظن أن الجدر الأسمنتية والفولاذية، وقضبان المعتقلات الحديدية ستأسرهم أو تسجنهم أو تعزلهم، إنها تأسر وتسجن وتعزل من يصنعها، ويشيدها ويبنيها، إنه لا أهون ألف مرة أن تكون مظلوماً يحاول الانتصار لنفسه، من أن تكون ظالماً ولو مرة واحدة تسمع أنّات الآخرين، وترى آلامهم ولا تبالي، كما إن لم تستطع أن تحقق أهدافك وما طمحت إليه بسبب خور عزيمة أو ظرف عارض أو قضاء مقدّر، فلا تثني غيرك عما عجزت أنت عن تحقيقه، فهو نسيج مختلف، ونفسية مختلفة، وبظرف مختلف.
أين الجدر الإسمنتية والفولاذية وقضبان المعتقلات الحديدية من إرادة الحرية؟؟. أين الأسلحة الفتاكة، والطائرات المقاتلة، وقنابل النابلم، والفوسفور الأبيض، واليوارنيوم المنضد من إرادة الحياة؟؟. يقول "أبو القاسم الشابي":
إذا الشعب يوماً أراد الحياة *** فلابد أن يستجيب القدر.
ولا بد لليل أن ينجلي *** ولا بد للقيد أن ينكسر.
هذه الأيام يحتفل الحزب الوطني الحاكم في جنوب إفريقيا بمئوية تأسيسه، من كان يظن أن يحكمه تلك البلاد أهلها المحتلين من قبل بقايا الاستعمار، بل الاستخراب، وما مائة سنة في عمر الشعوب بالزمن الكبير.
رحم الله" أستاذنا الكبير الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري" الذي كان كثيرا ما يقارب بين التجربة الاستخرابية الصهيونية، على فرادة بشاعتها العنصرية الاستيطانية الإحلالية، وتجربة "البيض" في جنوب إفريقيا، وما آلت إليه، وستؤول إليه بإذن الله تعالى نظيرتها الصهيونية.
يقولون أن الحياة تشبه كثيراً: "مباراة للملاكمة، لا يهم إذا خسرت 14 جولة، كل ما عليك هو أن تسقط منافسك بالضربة القاضية خلال ثوان، وبذلك تكون الفائز، بالإعداد والتحمل والصبر، و"إنما الشجاعة صبر ساعة"، و"لا ينتهي المرء عندما يخسر، إنما عندما ينسحب".
أنتم، يا أهلنا الفلسطينيين الصابرين الشجعان لستم منكسرين، أو مستسلمين، أنتم تحت الاحتلال أحرار، تواجهون الظلم والطغيان والعدوان، وهل لمنكسر إرادة في مواجهة الظلم والطغيان والعدوان؟.
إن أقصى أماني الطغاة والمستبدين، أن يحصلوا على شعبٍ منكسر، يشعر "بالدونية"، و"لا، ولن يُستثار".. هكذا يصرح مسئولين كبار، أنتم، يا أهلنا الفلسطينيين تعيشون إنسانيتكم وكرامتكم، يقول -جل شأنه-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70]
جملة القول: "لا يفُل الفولاذ إلا الفولاذ"، وإرادتكم ـ أهلنا الصامدين الصابرين المجاهدون المناضلون المكافحون ـ أقوى من الفولاذ، وإذا كان الزعيم الكبير "مصطفي كامل" حياً بيننا اليوم وشاهد ما شاهدناه، وتذكر الذكري الأولي للعدوان الغاشم علي غزة لغير مقولته الشهيرة(مع الأخذ بعين الاعتبار تحفظ المحتفظين من: الوطنية الضيقة): "لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصريا"، لتصبح: "لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون فلسطينياً".