يشكو كثير من المسلمين في أيامناهذه من النكد والهموم وضيق الصدور وافتقاد السعادة والفرح والبهجة، رغم أن قطاعًاغير قليل منهم لا يعيش ضيقًا أو مشكلات مادية، فهو إلى الرغد والوفرة أقرب.
والضيق والاكتئاب والقلق يقولالعلماء إنها أمراض العصر، فوتيرة الحياة أصبحت عالمية ومتشابهة في معظم بلادالعالم، فمخاطر البورصات والمضاربات وشركات التأمين، وقلق الصفقات التجارية وشحنالبضائع وغرق السفن، وسقوط الطائرات وحوادث القطارات والسيارات والبواخر، والأمراضالتي تهبط على الناس بلا مقدمات ... إلخ، كل ذلك جعل توتر الناس يزيد وقلقهم يرتفع.
والعرب والمسلمون في أيامنا هذهيزيد من مآسيهم وأحزانهم الواقع الدولي الذي كرسته إطاحة الولايات المتحدةبالقانون الدولي والشرعية الدولية وتواطأت معها القوى العالمية ونافقتها، وكان ذلككله على حساب القضايا العربية والإسلامية، وهذا الظلم أنتج الشعور يسد منافذالبهجة ويجلب الهم والغم والحزن.
ويضاف إلى ذلك أن حالة الفرقةوالتشرذم والتخلف السياسي والاقتصادي والعلمي المتفشية في العالم الإسلامي، وتفشيالاستبداد والديكتاتورية والفقر ... كل ذلك أوجد كآبة إضافة عند الإنسان المسلم.
وهكذا صيغت حالة الكآبة والهمنتيجة لكثرة الفتن، ولكثرة المسائل التي تؤدي إلى غلظ القلوب وضيقها ونكدها، وأصبحلزامًا علينا أن نبحث عن الأسباب التي تؤدي إلى شرح الصدور واتساعها، وراحة القلوبواطمئنانها.
ونور الإيمان، أهم أسباب شرحالصدور، فهذا النور يقذفه الله في قلب العبد، وهذا النور يشرح الصدر ويوسعه، ويفرحالقلب، وإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجن وأصعبه، وأعظمأسباب نور الإيمان التوحيد الخالص لله تعالى، ولذالك كانت لا إله إلا الله أعلىشعب الإيمان، ولكن دون ذلك شعب كثيرة تقوي الإيمان وتزيده، وتقذف في القلب النور، قالصلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إلهإلا الله، وأدناها أماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) [متفق عليه، رواه البخاري، (9)، ومسلم،(162)].
ومن أسباب شرح الصدر العلمالنافع، فهو يوسع الصدر حتى يكون أوسع من ذي قبل، وأهل العلم النافع أشرح الناسصدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأطيبهم عيشًا.
ومن أسباب شرح الصدر أيضًا،الإنابة إلى الله تعالى ومحبته بكل قلب، والإقبال عليه تعالى، والتنعم بعبادته،وهذا من أعظم أسباب شرح الصدور، حتى قال بعض العابدين وهو يجد هذه اللذة العظيمةفي طاعته وعبادته، ومحبته لله: (إن كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم الذي أنا فيهالآن إنهم لفي عيش طيب) [مجموعالفتاوى، ابن تيمية، (10/647)]، فأي صدر أوسع وأشرح من صدر أمام عابد يقول هذا الكلام، معبرًاعما يجد من لذة العبادة والطاعة؟ وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح،وأشرح، ولا يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن.
إن السعادة شعور داخلي يحسهالإنسان بين جوانبه يتمثل في سكينة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وراحةالضمير والبال نتيجة لاستقامة السلوك الظاهر والباطن المدفوع بقوة الإيمان.
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًامِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، وقال تعالى أيضًا: { فَمَنِ اتَّبَعَهُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُمَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه:123،124].
والسعادة في المنظور الإسلاميليست قاصرة على الجانب المادي فقط، وإن كانت الأسباب المادية من عناصر السعادة؛ ذلكأن الجانب المادي وسيلة وليس غاية في ذاته، لذا كان التركيز في تحصيل السعادة علىالجانب المعنوي كأثر مترتب على السلوك القويم.
يقول إبراهيم بن أدهم وهو في نعيمالعبادة: (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه؛ لجالدونا عليه بالسيوف) [صيد الخاطر، ابن الجوزي، ص(450)].
وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه يحزن على اليوم الذي لا يجد فيهمحتاجًا يقضي له حاجته؛ فيقول: (ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة، إلا علمت أنها منالمصائب التي أسأل الله الأجر عليها) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (3/51)].
وفي تتمة الحديث القدسي يقول ربنا سبحانه وتعالى: (وما تقربإلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) [رواه البخاري، (6137)].
فالنوافل مما يقرب المسلم إلىالله جل جلاله حتى يظفر بمحبته، فإذا أحبه الله سبحانه فلا خوف عليه، كما قالالقائل:
وإذا العناية لا حبظ عيونها نمفالمخاوف كلهن أمان
والسعادة يمكن تلمسها وطلبها فيذكر لله جل وعلا، يقول الله في محكم كتابه: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْبِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، يقول ابن القيم رحمه الله: (حضرتعند ابن تيمية, بعد صلاة الفجر، فجلس يذكر الله سبحانه وتعالى حتى ارتفع النهار،وتعالت الشمس, وتوسطت، ثم التفت إليَّ، وقال: هذه غدوتي, لو لم أتغدّها لم تحملنيقواي) [الوابل الصيب،ابن القيم، ص(1/63)].
إنها ساعات يخلو فيها بربه؛فيناجيه, ويدعوه, ويستغفره، ويبتهل إليه، ويتضرع ويسكب دموع الندم بين يديه؛ فيخرجوقد غسل قلبه بهذه العبادة، وتجددت حياته وروحه وخلاياه وأنسجته، وتجدد عقله وقلبه.
والسعادة يمكن طلبها وتلمسهاأيضًا في القرآن وتلاوته، يقول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَشِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين} [الإسراء:82].
فالقرآن شفاء لأمراض النفوس، وضيقالصدور، وكروب القلوب، بل وشفاء لعلل الأجساد وأمراض الأبدان، والسعادة أيضًا ثمرةمن ثمرات البِر بأنواعه، يقول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم} [الإنفطار:13، 14]؛ والنعيم الذي وعده الله الأبرار هو في الدنيا وفي الآخرة،والجحيم الذي أوعده الله الفجار هو في الدنيا وفي الآخرة.
ويخلص إلى الأبرار في هذه الدنيامن آثار الجنة التي وُعدوا من البر والروح والإشراق والسرور والسعادة ما تهتز لهقلوبهم طربًا وترقص منه أفئدتهم أنسًا وفرحًا حتى يقول قائلهم: (إنا لفي نعمة إنكان أهل الجنة في مثلها فهم في عيش طيب).
وهكذا يخلص إلى الفجار وأهلالتعاسة والشقاء من سموم النار ولهبها ولفحها وهجيرها ما يكدر عليهم صفو عيشهموحياتهم، حتى لا يجدون طعمًا لمالٍ، ولا أهل، ولا نوم، ولا شرب، ولا صحة، ولاشباب، ولا سفر، ولا إقامة!
والسعادة ثمرة من ثمرات الصلاة،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال) [رواه أبو داود، (4987)، وصححه الألبانيفي صحيح سنن أبي داود ، (4985)]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)[رواه النسائي، (3950)، وصححهالألباني في صحيح سنن النسائي، (3940)].
والسعادة موجودة أيضًا في معرفةالله عز وجل، فإن العبد إذا عرف ربه استراح، فيرى أثر الله عز وجل في ملكوته، يرىأثر صنعته وإبداعه, وعلمه, ورحمته, وحكمته في كل شيء.
تحدثت الأخبار عن مدير شركةأمريكية كبيرة جدًا، تجمعت له الأموال, والجاه, والمكانة, والوظيفة، ولكنه كانيشعر بشقاء مرير، ويأوي إلى الفراش؛ فيجلس ساعات يتقلب دون أن يصل النوم إلىعينيه، وقد أعجبه أن من ضمن العاملين العاديين في هذه الشركة شابًا عربيًّا مسلمًافي وظيفة متوسطة، وراتب متواضع، لكن هذا الشاب دائم الإشراق والبشر والابتساموالضحك والسرور، يأكل بسرور، وينام بسرور، ويأتيويذهب طلق المحيا، لم يره يومًا من الأيام مُكفهرًا, أو مُقطبًا، فأحضره في مكتبه،وقال له: ما شأنك؟ لماذا أنت سعيد كل هذه السعادة؟!
قال له: والله لقد عرفت ربي،وعرفت دربي، وآمنت بالله عز وجل، ولذلك استرحت، قال: هل لك أن تهديني, أو تدلني؟! فأخذبيده إلى أحد المراكز الإسلامية، وهناك تعرف على الإسلام، وسمع كثيرًا من الشرحعنه، ثم لُقِّن: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله)، ما إن نطقبها لسانه حتى انهال في بكاء مرير, ودموع حارة.