ومما يزيد الطين بلة أن الإنسان العامي – أي الذي ليس لديه المعرفة الكافية - لا يكتفي بفساد تصوراته، بل هو حريص على أن يوصي بها، وينقلها وربما كَذَّب المتخصصين إذا خالفوا قوله الباطل.
فالواجب على المتخصصين في كل علم، أو فن أن يعتنوا دائماً بإزالة ما علق بعلمهم من باطل، وأن يُعلِّموا الناس الحق والصحيح، فالحق يزيل الباطل ويدحضه وإلا دخلوا في قوله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار"، وروى ابن ماجة: ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار.
وعلم الرؤيا علم شريف قلَّ عالموه، وكَثُر جاهلوه، وتخبط الناس في الكلام عليه، فكل الناس يفتي فيه، وكل الناس يعبرون الرؤى، فاجتمعت عند الناس بخصوص هذا الفن أخطاء كثيرة، واعتقادات فاسدة، أدت إلى ضرر وشرور كثيرة، فلذا رأيت أن أفرد هذه المقالة بذكر قطرة من بحر الأخطاء التي غرق فيها الناس، مما يخص هذا الفن الشريف، وهو فن الرؤيا فأقول:
(1) الكابوس والسكين:
من أخطائهم: اعتقاد بعض الناس أن الكابوس الذي ينتابه لا يذهب إلا بوضع السكين تحت وسادته، وبعضهم يضع المصحف الشريف، وهذا حديث خرافة، وفيه إهانة لكتاب الله، والصواب في علاج الكابوس أن يلتزم الشخص بأن ينام متوضئاً، ويتلو أذكار النوم الصحيحة الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبخاصة "آية الكرسي"، وقد روى البخاري معلقاً عن أبي هريرة قال: وكَّلني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالاً، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: دعني، فإني محتاج، وعلي عيال، ولا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك وسيعود.. فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود ثم تعود.. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي حتى تختم الآية فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت : قال لي: إذا أويت إلى فراشك فأقرأ آية الكرسي حتى تختم الآية وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح – وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أما إنه قد صدقك وهو كذوب!! تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال :ذاك الشيطان.
وكذلك المعوذات، لأن الكابوس من مكايد الشيطان، فهو يسعى في أذية الإنسان في اليقظة والمنام، فإذا رأى الإنسان ما يكرهه فليتعوذ من شرها، ومن شر الشيطان، ويتفل عن يساره ثلاثاً، ولا يذكر ما رآه لأحد، ويتحول عن جنبه إلى الجنب الآخر، وإن قام فتوضأ، وصلى ركعتين فقد جمع الخير من أطرافه، وهذا كله قد ورد في أحاديث صحاح، وراجِعهَا في آداب الرؤيا.
(2) الاستخارة والرؤيا:
ومن أخطائهم: اعتقاد بعض الناس أنه إذا استخار بصلاة ركعتين ودعا بدعاء الاستخارة المعروف الثابت في الحديث أنه لا بد أن يرى بعد ذلك رؤيا في منامه تدفعه للفعل أو الترك وهذا غير صحيح، وحديث الاستخارة ليس فيه ذكر لرؤيا ولا لغيره، بل فيه: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع.. الحديث.
وهذا معناه أنني إذا أردت فعل أمر استخرت الله، ثم انطلق إلى ما كنت فيه فإن كان خيراً فسيكون التيسير والإعانة، وإن كان غير ذلك فلن يتيسر بمشيئة الله، وصحيح أن بعض الناس ربما يرى رؤيا تدفعه أو تثبطه للأمر، ولكن هذا وإن كان يقع أحياناً فليس بشرط كما يعتقد عامة الناس فانتبهوا.
(3) التفسير الخاطئ:
ومن أخطائهم: المسارعة إلى تعبير الرؤيا دون معرفة أو خبرة وهذا جهل مركب، وقد كان لا يفسر من الصحابة إلا القليل، وكان ابن سيرين - رحمه الله - وهو من أشهر المعبرين يترك من تعبير الرؤى شيئاً كثيراً، ومن العجيب أن يدرك الملك الكافر ما لا يدركه بعض المسلمين، فعندما رأى الملك رؤيا كما في سورة يوسف قال: "يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون" فاشترط أن يكونوا معبرين لهم خبرة، وأجابه هؤلاء الذين سألهم بقولهم: "أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين"، وهم كفار أيضاً، فالأولى بالمسلم أن يقول: "وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين" إذا لم يكن من أهل تعبير الرؤى.
(4) كتب ابن سيرين:
ومن أخطائهم: اعتقادهم أن الكتب المطبوعة المنسوبة إلى ابن سيرين أنها من تأليف ابن سيرين - رحمه الله - الذي هو من كبار التابعين، وتوفي سنة 110هـ، ولا تصح نسبة هذه الكتب إليه كما ذكره المحققون كالعلامة الكتاني - رحمه الله - في كتابه "التراتيب الإدارية"، وكذلك الشيخ مشهور حسن آل سلمان في كتابه القيم: " كتب حذر منها العلماء"، وإنما جمع هذه الكتب بعض الوعاظ والمؤلفين، ونسبوها إلى ابن سيرين - رحمه الله - حتى تروج، ولذلك ستجد في بعض هذه الكتب: قال أبو سعيد، أو أبو سعد الواعظ، وستجد فيها حكايات وقصصاً من القرن الثاني والثالث الهجري، وقد أعلمتك أن ابن سيرين - رحمه الله - توفي في بداية القرن الثاني للهجرة، فهل كتب هذه الكتب بعد وفاته؟! وهل حكى عن أناس عاشوا في القرن الثاني والثالث؟!
(5) اقتناء كتب الرؤى:
ومن أخطائهم: اعتقاد بعض الناس أنه إذا اقتنى كتاباً من الكتب المنسوبة إلى ابن سيرين، أو كتاب "تعطير الأنام في تعبير المنام" للنابلسي أنه يستطيع بذلك أن يفسر الرؤيا بالرجوع إلى الكتب، وما أشبه هذا بمن اقتنى كتاباً في الطب وهو جاهل به، وظن أنه بالنظر في هذا الكتاب سينافس أمهر الأطباء، أو كالتي تجهل فن الطبخ، واشترت كتاباً في الطبخ واعتقدت أنها بهذا الكتاب أصبحت طباخة ماهرة، فتعبير الرؤيا يحتاج إلى دراسة، وموهبة من عند الله، قال الله تعالى: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث…" الآية.
والمراد بتأويل الأحاديث هنا تعبير الرؤيا، وقد عبر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو من هو – بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، والحديث في الصحيحين."
وقال الإمام القرافي - رحمه الله - في كتاب "الفروق "(4/249-250) : اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته، وتشعبت وتنوعت تعريفاته بحيث صار الإنسان لا يقدر أن يعتمد فيه على مجرد المنقولات لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين، وعلم المنامات منتشر انتشاراً شديداً، لا يدخل تحت ضبط، فلا جرم احتياج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفس المعينة على الفراسة، والإطلاع على المغيبات، بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطئ بسبب ما يخلقه الله - تعالى - في تلك النفوس من القوة المعينة على تقريب الغيب أو تحققه، ومن ليس له قوة نفس في هذا النوع صالحة لعلم تعبير الرؤيا لا يصح منه تعبير الرؤيا ولا يكاد يصيب إلا على الندرة، فلا ينبغي له التوجه إلى علم التعبير في الرؤيا، ومن كانت له قوة نفس، فهو الذي يُنتفع بتعبيره، وقد رأيت ممن له قوة نفس مع هذه القواعد فكان يتحدث بالعجائب والغرائب في المنام اللطيف، ويخرج منه الأشياء الكثيرة، والأحوال المتباينة، ويخبر فيه عن الماضيات والحاضرات والمستقبلات، وينتهي في المنام اليسير إلى نحو المئة من الأحكام بالعجائب والغرائب حتى يقول من لا يعلم بأحوال قوى النفوس: أن هذا من الجان، أو المكاشفة، أو غير ذلك، وليس كما قال، بل هو قوة نفس يجد بسببها تلك الأحوال عند توجهه، وليس هو صلاح ولا كشف، ولا من قبل الجان، وقد رأيت أنا من هذا النوع جماعة أو خبرتهم، فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير، ولا ينبغي أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة، وحفظ الكتب إذا لم تكن لك قوة نفسٍ، فلا تجد ذلك أبداً، ومتى كانت لك هذه القوة، حصل ذلك بأيسر سعي وأدنى ضبطٍ. فاعلم هذه الدقيقة، فقد خفيت على كثيرٍ من الناس...أهـ ."
وخلاصة كلامه – رحمه الله - أن القدرة على التعبير لا بد لها من شيئين: موهبة، ودراسة.
والموهبة هي التي يسميها القرافي قوة النفس، وهي التي أشار إليها قوله تعالى:"وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث" فتأمل.