الحمدُ لله، حمدًا طيبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي بعثه اللهُ هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد فإن لبر الوالدين فضائل كثيرة، أحببت أن أُذكِّر بها نفسي وإخواني الكرام، فأقول وبالله تعالى التوفيق
عِظَم حق الوالدين
قال ابنُ الجوزي غير خافٍ على عاقلٍ حقُّ المُنْعِم، ولا مُنْعِم بعد الحق تعالى على العبد كالوالدين، فقد تحملت الأم بحمله أثقالاً كثيرة، ولقيت وقت وضعه مزعجات مثيرة، وبالغت في تربيته، وسهرت في مداراته، وأعرضت عن جميع شهواتها، وقدمته على نفسها في كل حال وقد ضم الأب إلى التسبب في إيجاده محبته بعد وجوده، وشفقته، وتربيته بالكسب له والإنفاق عليه
والعاقل يعرف حق المُحسِن، ويجتهد في مكافأته، وجهل الإنسان بحقوق المنعم من أخسّ صفاته، لاسيما إذا أضاف إلى جحد الحق المقابلة بسوء المنقلب وليعلم البارّ بالوالدين أنه مهما بالغ في برهما لم يفِ بشكرهما كتاب البر والصلة لابن الجوزي صـ
اقتران توحيد الله بالإحسان إلى الوالدين
قال الله تعالى وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا النساء
في هذه الآية يأمر الله تعالى بعبادته وحده؛ فإنه هو الخالق، الرازق المنعم المتفضل على جميع خلقه، ثم قرن الدعوة إلى توحيده ببر الوالدين والإحسان إليهما، وكثيرًا ما يقرن الله بينهما كقوله تعالى أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ لقمان
وكقوله سبحانه وتعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الإسراء
الله تعالى يحثّ الأبناء على بر الآباء
قال الله تعالى في محكم التنزيل وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ للأَوَّابِينَ غَفُورًا الإسراء
رضا الوالدين الصالحين من رضا الله تعالى
يجب أن نعلم أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين رضا الله ورضا الوالدين الصالحين، ولذا يجب على الأبناء أن يحرصوا على رضا الوالدين وطاعتهم؛ لينالوا رضوان الله عليهم في الدنيا والآخرة، ولقد أرشدنا إلى هذه المسألة المهمة نبينا محمد في كثير من أحاديثه الشريفة
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ قَالَ «رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ» حديث صحيح، صحيح الترمذي للألباني، حديث
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَتَاهُ فَقَالَ إِنَّ لِيَ امْرَأَةً، وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلاقِهَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ»؛ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ حديث صحيح، صحيح الترمذي للألباني، حديث
دعوة الوالدين الصالحين مستجابة
إن من إكرام الله تعالى للوالدين الصالحين، استجابة دعائهما لأبنائهما أو على أبنائهما؛ وخاصة إذا بلغا من الكبر عتيًّا، وهذا أمر متحقق وواقع أمام أعيننا في حياتنا الدنيا ولقد نبَّهنا إلى ذلك صاحبُ الشفاعة العظمى، نبينا محمدٌ
فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي قال «ثلاث دعوات مستجابات دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» حديث صحيح، صحيح الأدب المفرد للألباني، حديث
يقول الحسن البصري دعاء الوالدين يُثَبِّتُ المالَ والولدَ، ودعوة الوالدين على الولد يستأصل المال والولد البر والصلة لابن الجوزي صـ
وقفة تأمل صادقة مع النفس
تدبَّر يا عبد الله، وقِفْ مع نفسك لحظات تتأمل فيها كيف يكون حالك عندما تقصِّر في بعض حقوق والديك، وتضيق بهما كل السبل، فيقوم أحدهما أو كلاهما في ثلث الليل الآخر؛ فيصلي لله تعالى ركعتين، خاليًا في جوف الليل، وقد انهمرت دموعه على خديه، رافعًا يديه إلى السماء متذللاً، ومتوسلاً إلى خالقه ومولاه، أن ينتقم له منك؛ لأنك قد أسأت معاملته، وكم من دعوة للوالدين الصالحين كانت سببًا في سعادة أبنائهما أو شقائهما في الدنيا والآخرة
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» البخاري، ومسلم
بر الوالدين مقدم على نوافل العبادات
يجب على كل مسلم أن يعلم أنه إذا تعارض بر الوالدين مع تطوع من صلاة، أو صدقة، أو حج أو عمرة، أو جهاد في سبيل الله أو غير ذلك من أنواع التطوع؛ فإنه يجب تقديم بر الوالدين على كل ذلك لما يلي
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ «الصَّلاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» البخاري ، ومسلم
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ ؛ فَقَالَ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ قَالَ «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ نَعَمْ، بَلْ كِلاهُمَا قَالَ فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» مسلم
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» البخاري ، ومسلم
قال ابنُ حجر العسقلاني تعليقًا على هذا الحديث يَحْرُم الْجِهَاد إِذَا مَنَعَ الأَبَوَانِ أَوْ أَحَدُهمَا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ؛ لأَنَّ بِرّهمَا فَرْض عَيْن عَلَيْهِ، وَالْجِهَاد فَرْض كِفَايَة، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَاد فَلا إِذْن فتح الباري
بر الأم مقدم على بر الأب
قال الله تعالى وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلى الْمَصِيرُ لقمان
وقال جل شأنه وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الأحقاف
قال ابنُ كثير إنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة، وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهارًا، ليُذكِّر الولدَ بإحسانها المتقدم إليه تفسير القرآن العظيم لابن كثير
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ» البخاري ، ومسلم
قَالَ ابنُ بطال مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُون لِلأُمِّ ثَلاَثَةُ أَمْثَال مَا لِلأَبِ مِنَ الْبِرّ، قَالَ وَكَانَ ذَلِكَ لِصُعُوبَةِ الْحَمْل ثُمَّ الْوَضْع ثُمَّ الرَّضَاع، فَهَذِهِ تَنْفَرِد بِهَا الأُمّ وَتَشْقَى بِهَا، ثُمَّ تُشَارِك الأَب فِي التَّرْبِيَة فتح الباري لابن حجر العسقلاني
وقال القاضي عياض ذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّ الأُمّ تَفْضُل فِي الْبِرّ عَلَى الأَب فتح الباري لابن حجر العسقلاني
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ، وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ فَقَالَ «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَالْزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا» حديث حسن صحيح، صحيح النسائي للألباني
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ» حديث صحيح، مسند أحمد جـ حديث
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه شهد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، ورجل يماني يطوف بالبيت، وحمل أمه وراء ظهره يقول
إني لها بعيرها المُذَلَّلُ
إن أُذْعِرَتْ ركابها لم أذعر
ثم قال يا ابن عمر أتراني جزيتها ؟ قال لا، ولا بزفرة واحدة صحيح الأدب المفرد للألباني حديث
الإحسان إلى الوالدين الكافرين
إن شريعتنا الغراء لا تهمل الإحسان إلى الوالدين، ولو كانا كافرين، فضلاً عن الوالدين العاصيين ولقد حثنا القرآن العظيم بأسلوب رائع بليغ على بر الوالدين، وإن كانا مشركين، عسى أن تكون هذه المعاملة الطيبة سببًا في هدايتهما
قال الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه العزيز وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلى ثُمَّ إلى مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لقمان
قال ابن كثير إن حَرَصَا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما، فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفًا، أي محسنًا إليهما تفسير القرآن العظيم لابن كثير
قال تعالى لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ الممتحنة
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ، قُلْتُ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ» البخاري ، ومسلم
قال ابن حجر العسقلاني وهي رَاغِبَة، أي طَالِبَة فِي بِرِّ اِبْنَتِهَا لَهَا، خَائِفَة مِنْ رَدِّهَا إِيَّاهَا خَائِبَة فتح الباري لابن حجر
كيف نعامل الوالدين عند الكبر ؟
يقول الله تعالى في محكم التنزيل وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا الإسراء
قال الإمام القرطبي خص الله تعالى حالة الكبر؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره؛ لتغير الحال عليهما بالضعف والكِبَر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كَلاًّ عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، فلذلك خص هذه الحالة بالذكر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا قال مجاهد إذا رأيت منهما في حال الشيخوخة، الغائط والبول، الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف جامع البيان لابن جرير الطبري
فائدة جليلة
قال الإمام القرطبي قال علماؤنا وإنما صارت قولة «أف» للأبوين أردأ شيء؛ لأنه رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية، وردَّ الوصية التي أوصاه في التنزيل و«أف» كلمة مقولة لكل شيء مرفوض، ولذلك قال إبراهيم لقومه أف لكم ولما تعبدون من دون الله أي رفض لكم، ولهذه الأصنام معكم الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
وقوله تعالى وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أي لينًا لطيفًا، أحسن ما تجد بأدب وتوقير وتعظيم مثل يا أبتاه ويا أماه
قال سعيد بن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظّ الغليظ جامع البيان لابن جرير الطبري
قوله تعالى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ قال ابن جرير الطبري كن لهما ذليلاً، رحمة منك بهما، تطيعهما فيما أمراك به، مما لم يكن لله معصية، ولا تخالفهما فيما أحبَّا جامع البيان لابن جرير الطبري
كيف نَبَرُّ الوالدين بعد موتهم ؟
الإحسان إلى الوالدين لا يكون في حياتهما فقط، بل يمتد الإحسان إليهما بعد موتهما أيضًا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» مسلم
قال الإمام النووي إنَّ عَمَل الْمَيِّت يَنْقَطِع بِمَوْتِهِ، وَيَنْقَطِع تَجَدُّد الْجَوَاب لَهُ، إِلاَّ فِي هَذِهِ الأَشْيَاء الثَّلاَثَة؛ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبهَا؛ فَإِنَّ الْوَلَد مِنْ كَسْبه، وَكَذَلِكَ الْعِلْم الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيم أَوْ تَصْنِيف، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة الْجَارِيَة، وَهِيَ الْوَقْف مسلم بشرح النووي
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ؛ فَيَقُولُ أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» حديث حسن، صحيح ابن ماجه للألباني
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ» مسلم
تطبيق عملي
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ، وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ؛ إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ أَلَسْتَ ابْنَ فُلانِ بْنِ فُلانٍ؟ قَالَ بَلَى، فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَقَالَ ارْكَبْ هَذَا، وَالْعِمَامَةَ قَالَ اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، أَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ، وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ» مسلم
والله الموفق، وهو من وراء القصد، وهو يهدي السبيل