استنادًا لما شهده المسجد الأقصى من اقتحامات وانتهاكات بحق الفلسطينيين خلال الأيام القليلة الماضية، وفي ضوء الترتيبات النهائية لمسار "التسوية" المزعوم، الذي تريد حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة فرضه على الفلسطينيين والعرب والمسلمين لإنهاء وتصفية القضية الفلسطينية عبر حلول أحادية الجانب، عاد تأكيد هدف حسم مصير القدس كأولوية لدى المجتمع السياسي الصهيوني لاسيما منذ تشكيل تلك الحكومة ووصولها إلى سدة الحكم في مارس من العام الماضي، حيث تسارعت وتيرة "تهويد" المدينة على كافة الأصعدة وأصبحت فكرة خلق "أورشليم" بشكلها النهائيّ تتصدّر لائحة أولويات الحكومة الإسرائيلية في المرحلة الراهنة.
والمتابع للسياسة الإسرائيلية يلحظ أن حكومة نتنياهو تعتمد أربعة مسارات متوازية ومتزامنة لتنفيذ استراتيجية "تهويد" القدس، تتلخص في عناوين: الهوية ببعديها الديني والثقافي، والجغرافيا، والديموغرافيا، إضافة إلى المسار الإجرائي بتنويعاته الاقتصادية والتشريعية والإعلامية.
صراع الهوية.. بين "القدس" و"أورشليم"
ويبقى الصراع على هوية القدس هو لب استراتيجية "التهويد" في العقلية الصهيونية التي تمثلها عن جدارة الحكومة المتطرفة الحالية بزعامة نتنياهو، والتي تسعى إلى حسم ذلك الصراع بين "القدس" العربية الإسلامية من جهة، و"أورشليم" العبرية اليهودية المزعومة من جهة أخرى، وذلك عبر سياقين أساسيين يتقاطعان ويتكاملان من الناحية العملية، يتعلق أولهما بالهوية "الدينية" للمدينة، بينما يتعلق السياق الثاني بالهوية "الثقافية" لها.
وتهدف إسرائيل في هذا الإطار إلى تحويل هوية القدس العربية الإسلامية "دينًا" و"ثقافة" إلى هوية أخرى بديلة يهودية "الديانة" عبرية "الثقافة"، ربما تتجلى في كلمة واحدة هي "أورشليم". ولتحقيق هذا الهدف تستخدم إسرائيل وسائل وأساليب عدة، ربما تكون قد زادت من كثافتها وحِدّتها في ظل الحكومة الحالية بالنظر إلى كونها حكومة "جديدة" لم يمر على توليها سدة الحكم سوى عام واحد.
وتتمحور هذه الأساليب في مشروع "تطوير الحوض المقدس" والذي يعني خلق مدينة يهودية مقدسة مزعومة موازية للبلدة القديمة بمقدساتها ومشتركة معها في المركز ذاته أو القلب من تلك المقدسات وهو المسجد الأقصى المبارك. ومن ثم العمل على تحقيق وجود يهودي كثيف في المسجد ومحيطه عبر آلية الاقتحامات المتكررة لمجموعات من اليهود المتطرفين تارة، ولجنود من الجيش والشرطة تارة أخرى، إضافة إلى الإكثار من تدشين العديد من الكنس بالقرب من أسوار المسجد الأقصى وفي محيطه.
وإلى جانب تكثيف الوجود اليهودي الرمزي والفعلي في المدينة، تعمل إسرائيل على "تفريغ" الأحياء الفلسطينية المحيطة بالمسجد الأقصى من سكانها بطرق شتى سنذكرها لاحقًا، والحد من قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى المسجد الأقصى والبلدة القديمة من القدس.
والأخطر مما سبق في مخطط "التهويد" الثقافي والديني للقدس، هو محاولات "تهويد" فلسطينيّ المدينة ذاتهم من خلال التعليم في المدراس، حيث تسعى المؤسسات الإسرائيلية المختلفة وبدعم من حكومة نتنياهو إلى تحقيق سيطرة مطلقة على قطاع التعليم العربي في المدينة. ويشار إلى أن إسرائيل تشرف بالفعل على نحو 66% من مؤسسات قطاع التعليم العربي في مدينة القدس. وتقوم وزارة المعارف الإسرائيلية بتدريس مناهج تعليمية "مخصوصة" تزيف حقائق التاريخ والجغرافيا والهوية والدين، الأمر الذي من شأنه تشويش قضايا الصراع في عقول الناشئة من أبناء الفلسطينيين بالمدينة.
المساران الجغرافي والديموغرافي
وعلى الرغم من مساعي "التهويد" الثقافي والديني التي تحاول إسرائيل إسباغها على واجهة مدينة القدس، فإن العامل الديموغرافي يظل هو الهاجس المسيطر على الصهاينة منذ استيلائهم على كامل مدينة القدس منذ العام 1967. وتبلغ نسبة الفلسطينيين في المدينة اليوم وفقًا للإحصاءات الإسرائيلية نفسها 35% من جملة السكان، ومن المتوقع أن تصل نسبتهم إلى 40% بنهاية العقد القادم.
لذا فإن عامل تعديل التوازن الديموغرافي يأتي على رأس سلم الأولويات في استراتيجية "تهويد" القدس، وربما تسعى حكومة نتنياهو إلى تفعيل قانون عام 1973م الذي يقضي بأن لا تزيد نسبة الفلسطينين في القدس عن 22% من إجمالي السكان بالمدينة.
وتسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تحقيق ذلك عبر أدوات ديمغرافية وجغرافية عدة، أهمها تكثيف عمليات "الاستيطان" بالقدس والتوسع فيها رأسياً وأفقيًا، وذلك عبر زيادة أعداد السكان اليهود في الدينة من خلال الترويج للقدس كمركز جذب سكاني. ويذكر في هذا الإطار أن الحكومة السابقة كانت قد صادقت عام 2007 على مي**** خطة تهدف لجذب السكان اليهود للانتقال والعيش في مدينة القدس بقيمة 200 مليون دولار.
وتأتي استراتيجية مصادرة أراضي المقدسيين وتطويقهم بجدار الفصل العنصري "العازل" الذي استقطعت به إسرائيل أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية كأحد الأدوات الفاعلة في تفعيل استراتيجية "التهويد"، وقد حققت به الحكومة الصهيونية مكاسب جغرافية ومن ثم ديمغرافية مهمة، باعتبار أن الهدف الأول لتدشين الجدار في القدس هو ضم أكبر مساحة ممكنة من الأرض إلى الحدود البلدية للمدينة، مع طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين منها.
وهذا ما تحقق لإسرائيل بشكل كبير، حيث أدت هذه الآلية الجغرافية - الديمغرافية الفاعلة إلى عزل أكثر من 154 ألف من المقدسيين عن مدينتهم، إضافة إلى مصادرة أكثر من 163 كيلو مترًا مربعًا من الأراضي الفلسطينية دخلت في حزام الجدار "العازل".
ويلاحظ في هذا الإطار أن الحكومة الإسرائيلية تستخدم المؤسسات الخاصة والجمعيات والمنظمات الصهيونية غير الحكومية لتمرير مخططات "التهويد" الجغرافي والديمغرافي في القدس، وذلك خروجًا من الحرج الدولي والضغوطات الدولية، باعتبار أنه قد صدرت العشرات من القرارات الدولية المختلفة إزاء قضية القدس تمحورت جميعها حول ضرورة عدم تغيير أوضاع مدينة القدس، ورفض وبطلان كافة الإجراءات الإسرائيلية التي تهدف بها إسرائيل إلى تغيير "هوية" المدينة المقدسة.
فقد بدأت الحكومة الإسرائيلية في التنازل عن دورها المباشر لصالح المنظمات الخاصة لمصادرة الأراضي والاستيلاء على العقارات وتخطيط وتنفيذ المشاريع الاستيطانية وإدارة وتنظيم وتنفيذ كافة أشكال العدوان المختلفة على القدس والأقصى وسائر المقدسات بالمدينة. بينما تمحور دورها في هذه المرحلة في مواجهة المجتمع الدولي بأكذوبة كبيرة وخطيرة تقوم على الزعم أن الاستيطان والتهويد في القدس ليس "مشروع دولة " وإنما "مشاريع خاصة" يقوم عليها أشخاص وجمعيات غير حكومية. وأنها لا تملك منع هذه الجهات المستوفية "للشروط القانونية " من تنفيذ مثل هذه المشاريع، لأن إسرائيل دولة يحكمها "القانون"!!.
الأدوات الإجرائية.. ومكملات مسارات "التهويد"
وتأتي الأدوات "الاقتصادية" و"التشريعية" و"الإعلامية" كمكملات "إجرائية" لما سبق من مسارات لتنفيذ الاستراتيجية الصهيونية لـ"تهويد" القدس. فعلى الجانب الاقتصادي فإن الأوضاع المعيشية المزرية التي يعانيها الفلسطينيون من سكان القدس تدفع عددًا متزايدًا منهم – لاسيما في القدس الشرقية - إلى الوقوع في شرك الإغراءات المادية التي تعرضها جمعيات المستوطنين كأثمان باهظة مقابل بيع بيوتهم وأراضيهم في المدينة.
كما تروج حكومة نتنياهو لمشروعها التضليلي المسمى بـ "السلام الاقتصادي"، والذي يبشر بالكيان الاقتصادي الفلسطيني الواعد في محاولة لابتزاز الشعب الفلسطيني المحاصر والمهدد في حياته اليومية ولقمة عيشه ومصير أطفاله والحالة المزرية التي وصل إليها، وذلك بهدف تركيع الشعب الفلسطيني وقتل إرادته وإثناءه عن موقفه المدافع عن أرضه ومقدساته، وحمله على القبول بالأمر الواقع لضمان العيش الرغد والأمن المزعوم.
وعلى الجانب التشريعي تعمل إسرائيل على تكبيل الفلسطينيين في القدس الشرقية بقيود قانونية وإجرائية جائرة، والتفنن في فرض إجراءات تعجيزية بحقهم تمس حياتهم اليومية من قبيل تراخيص البناء وتراخيص العمل وتجديد الهويات وغيرها، وذلك بهدف حملهم على الهجرة من ديارهم راغمين أو القيام بردود فعل انعكاسية يتم استغلالها من قبل الصهاينة كمبرر أمام الرأي العام العالمي لتنفيذ مؤامرة الترحيل أو الوطن البديل التي يتبناها رموز الحكومة الحالية وعلى رأسهم وزير الخارجية المتطرف أفيغدور ليبرمان الذي لم يتورع أن يدعو صراحة إلى رمي الفلسطينيين في البحر.
وإعلاميًا تدير إسرائيل معركة "التهويد" بطريقة لا تقل أهمية وتأثيرًا عما تقوم به على الأرض، حيث تروج للقدس عالميًا كمدينة يهودية، وذلك من خلال تنظيم الجولات السياحية في المدينة وفق مسارات يتجاهل المقدسات الإسلامية بالمدينة، إضافة إلى إقامة جعلها منطلقًا ومقرًا لإقامة المهرجانات والاحتفالات بالمناسبات اليهودية الدينية والقومية.
كما تروج حكومة نتنياهو إعلاميًا لأحقية اليهود في إقامة صلواتهم بالمسجد الأقصى، و إن محاولات الجماعات الدينية المستمرة لدخول الأقصى إنما ينبع من حرصهم على إقامة شعائرهم دونما رغبة منهم في استفزاز الفلسطينيين الذين لا يحترمون كون المدينة متعددة الثقافات والأديان، وذلك كخطوة خبيثة تهدف إلى تدشين أمر واقع جديد يتمثل فيما يتم الترويج له حاليًا من تقسيم الأقصى مناصفة بين المسلمين واليهود على غرار ما آل إليه حال الحرم الإبراهيمي بالخليل، أو تدويله باعتباره تراثًا إنسانيًا مشتركًا لا يخص العرب أو المسلمين وحدهم.