لم يكـن عـفـــواً ولا من قبيل المصادفة أن يبدأ أعداء الإسلام من صليبيين ويهود وعلمانيين ومتفرنجين وعـبّـاد الشـهـــوة والجنس ـ أن يبدؤوا حربهم ضد المرأة بمصر؛ ذلك أن أرض الكنانة هي قبة الإسلام، وقـلـعـتــه ومـركـز ثقله، ولتبوُّؤ أزهرها الصدارة والريادة العلمية والفكرية لأمة الإسلام منذ أن تسلمت مصر زعــامــة الـعـالـم الإســـلامي في القرن السادس الهجري على يد الفاتح صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ.
فـلا غرو إذاً أن يلمس الحاقدون على الإسلام ـ حتى عهد الاستعمار ـ نزوع المصريين الفطري إلى الـتـديُّن وتمسكهم بعرى الدين؛ لا غرو مــن اعتبار هــذه الظاهــرة مصدر قلـق لهــم جعلتهم يبــدؤون بها، حتى إذا ما انتصروا في معركتهم ضد المرأة بمصر سهل بعدئذٍ سقوط حصونها وقلاعها في سائر بلاد المسلمين.
احفظوهـا؛ إنَّ مصر إنْ تَضِـــعْ ضاع في الدنيا تراث المسلمين
وبين يديك ـ أخي الـقـارئ ـ بعض نتائج حركة تحرير المرأة وحصادها(1) بمصر باعتبارها أول حركة تحرير في الـعـالم الإســـلامي قامت على إثْر حركات التحرير في الغرب، وإنما وقع الاختيار على هذه الحركة لأسباب أهمها:
1- عــامل السبق الزماني وطول الـفــتـرة الـزمـنـيـة لفـصول حركة التحرير بمصر؛ حيث استغرقت مائة وواحداً وثلاثين عاماً من حين عودة رفاعة الطـهـطـاوي مــن بـاريـس عــام 1831م ـ وهو الذي بذر البذرة الأولى ـ إلى صـدور الميثاق الوطني عام 1962 في عهد جمال عبد الناصر، وقد احتوى هذا الميثاق على أكبر ما يعدونه تتويجاً للمرأة، ونص على أنه لا بد أن تتساوى بالرجل، ولا بد أن تسقط بقايا الأغلال التي تعوق حركتها الـحـــرة حـتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية في صنع الحياة(2).
2- اكـتـمــال تجربة حركة التحرير بمصر ونضجها؛ حيث كانت الوسائل فعّالة والتركيز عنيفاً.
3- توافر أسباب التدوين وكثرة المراجع والمصادر التي تحدثت عن هذه الحركة من النشأة إلى النهاية.
وفي هــــذا المقال أسلط الضوء على أهم ما حصدوه من المكاسب وما حققوه من المطامع، وفق الأهداف الـتـي رسمـوهــــا مقتصراً على تعدادها، دون العناية بتحليلها ونقدها من منظور شرعي؛ فعندما يكون الخير صرفاً، أو يكون الشر واضحاً لا يكاد يختلف الناس في تحديد مواقفهم، وأحسب أن الـقــارئ الكريم لن يجد عناءاً في التحليل والربط بين حصاد حركة تحرير المرأة بمصر الذي سنـذكــره ـ إن شاء الله ـ وبين نتائج ما تبعها من الحركات وحذا حذوها في مختلف أصقاع عالمنا الإســـلامــي. وما ألصقَ مقولةَ الفاروق عمر بما نحن فيه لمَّا كتب لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنـهما ـ: "اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور".
هل حصاد الحركة نتائج متقدمة أم متأخرة في طريق إصلاح المرأة المسلمة؟
ليس ثـمــة شك في أن حركة تحرير المرأة بمصر قد نجحت نجاحاً باهراً في ضوء الأهداف المتوخاة مـنـهـا، بل حققت هذه الدعوة المضللة أعظم ما كانت تهدف إليه في مدة وجيزة، وبسهولة غير مـتـوقـعـــــة؛ نظراً لسياسة تكسير الموجة، واتباع سياسة (بطيء ولكنه أكيد المفعول) وتفادي التصادم المـبـاشر مع الإسلاميين الذين يمثلون الغالبية العظمى في المجتمع المصري، واستدراج بعض المشايخ المعمَّمين والعلماء ليكونوا في بداية الزحف... إلخ وسائلهم وخططهم(3).
ولـيـس غــريباً أن ننظر ـ نحن الإسلاميين ـ إلى هذه النتائج على أنها حقوق سُلِبَتْها المرأة، ووسائل شقاءٍ جُرّت إليها(4).
بينما يراهــا السفــوريــون التحرريون نتائج متقدمة في طريق الإصلاح، وتعزيزاً للدفاع عن حقوق المرأة، بل إن اتـســـــاع امتياز النساء من أهم الأبعاد الحضارية التي يمكن أن تقاس وتصنَّف المجتمعات والشعوب من خلاله، كما ذكر ذلك الكاتب الفرنسي روجيه جارودي في كتابه: "تتم التطورات الاجـتـمـاعية وتبدلات الزمن وفقاً لتقدم النساء نحو الحرية. إن اتساع امتيازات النساء يشكل الأساس العام لجميع التطورات الاجتماعية"(5).
ويمكن أن نلخص نتائج هذه الحركة في النقاط الآتية:
أولاً: إيـجـاد الـقـابـلـيـة وتهـيـئـة الجو أمام الغزو الثقافي الغربي. ونقصد بالغزو الفكري والثقافي: (الاستلاب الحضاري، وأشكال التفسخ الأخلاقي، مع التهاون بالواجبات والرقة في الدين، فأوجدت جهود دعوة تحرير المرأة عبر منابرها الإعلامية ووسائلها الفعالة التي طالت الريف المصري ـ وهو يشكل مـعـظم مصر(6) ـ، أوجــدت لدى الناس شروط الهزيمة والانكسار، مع تغيب دور الإسلام الفاعل وتجريد تيار دعاة الفـضـيـلـة والـحـجـــاب من الإمكانات فاخترق الفكر الأجنبي والعدوّ الحاقد الصفوف، ليفتك كيف شاء، دون وجـود مقاومة وحصانة قوية تذكر، وفعلت جهود أكثر من مائة عام فعلها في الناس "فالمسألة لـم تـكــن قـاصـــرة على تحرير المرأة كما يتوهم المتوهمون، وإنما كانت إرادة التغيير الجذري والشمولي باقتلاع المجتمع من جذوره"(7).
ثانياً:
قـبـول المجـتـمــــع وإذعانه للتعليم المختلط، وقد كان السَّبْقُ في ذلك على يد مَن يسمُّونه: أستاذ الجيل!! (لـطـفــي السيد)، فهو أول من أدخل الطالبات في قسم الطلاب سافرات الوجوه ولأول مرة في تاريخ الـجـامـعــة المصرية يسانده في ذلك طه حسين وكامل مرسي، وتحت الضغط الخارجي رضيت وزارة المعارف بالأمر الواقع واعتبار هذا من حقوق الفتيات(8).قالت التحررية درية شفيق(9): "في سنة 1932م ظـهـرت صورة للدكتور طه حسين بك في نادي الجامعة وعلى يمينه ويساره الطلبة والطالبات جـلـوســاً يتساءلون ويتناولون الشاي، وقامت القيامة لهذه الصورة البريئة التي تـضــرب المثل للأبوة في وجود العميد والإخوة في جـلـســة الطلبة والطالبات، واتُّخذت الصورة تكأةً يتخلص بها الرجعيون من (طه حسين) و(لطفي السيد)، ووقف الرجعيون في مجلس النواب يحملون على الجامعة ورجالها وفكرة تعليم البنات فيها، ويرون ذلك فضيحة من الفضائح يجب أن تحول دونها الحكومة"(10) (11).
ثالثاً:
إخـضاع الثوابت من الدين والمسلَّمات من الأحكام الشرعية لاجتهاد العلماء وتناول الباحثين ومـناقـشـة الجاهلين والمبطلين، فاستغلها السفوريون وميَّعوها، ولبّسوا على العامة والدهماء وجه الحق فيها.فالأمر الرباني بغضّ البصر عن العورات، وهــــو أمــر مــن الـواجـبــات الشرعية والعدالة والنزاهة، هذا الأمر صوَّروه بأنه عدم ثقة في النفس، ومن مخلّفات القـرون الوسطى المظلمة التي كانت تنظر إلى المرأة على أنها دون الرجل فتخفي بصرها!!(12).
وقـوامة الأب والزوج التي اشـتـرطـهـا الشرع لصحة بعض عقود المرأة وتصرفاتها اعتبروها ممارسات تعكس اضطهاد المرأة وظلمها، وتجسِّدُ ارتهانها لأبيها وأخيها أو زوجها، وهي ظاهرة استغلال الجهات الأقوى اقـتـصــادياً لامتلاك يمين المرأة، وإخضاعها لعملية القهر التاريخية(13) (14).
وقاعدة قرار المرأة في بيتها وأنها الأصل نوزعـت، وجُعِل الأصل هو العمـل دون شـــروط أو قيـــود أو ضوابط(15).
وسـفـــرها دون محرم لبلاد الكفر ألبسوه لباس الابتعاث وطلب العلم والدراسة، وصار من المفاخر الاجتماعية وسمات الأسر المتحضرة والطبقات الراقية.
وإبداء الزينة للرجال الأجانب ـ الذي هو كسابقه محرّم ومعصية ـ صار عند دعاة التحرر من تمام الرشاقة والجاذبية لفتى الأحلام وشريك المستقبل!!(16).
ووجوب نـسـبـة الابن لأبـيــه وحرمة انتسابه لغيره لم تعد موافقة لروح التقدم والفرنجة، فغيَّرن أسماءهن وانتسبن لأزواجهن فصرن: هدى شعراوي بدلاً من هدى بنت محمد سلطان باشا، وصفية زغلول بدلاً من صفية محمد فهمي... إلخ.
أما البيت فهو السجن ودكتاتورية الرجل، وشل للمجتمع عن الحركة، وأما الحجاب فهو كفن من اختراع المتشددات الـمـتـطرفات وعادات القرون البدائية، ثم تأتي (سيزا نبراوي) سكرتيرة هدى شعراوي، فتتزوج مــــــن الفنان مصطفى نجيب، بشرط نقل العصمة إليها، وكتب لها المأذون بذلك في العقد، ونُشِرَ للناس(17).
رابعاً: تسخرُ بعض العلماء (المعممين أدعـيـــاء العلم) واستخدامهم لصالح حركتهم الضالة، واصطياد الأدلة لباطلهم، وليُّ أعناق الـنـصــوص لإضفاء الصبغة الشرعية والتأصيل الفقهي على أفكارهم.
فالـشـيـخ محمد عبده الذي ثبت أنه كتب فصولاً من كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة"، هو الذي خــذل أهل الإسلام يوم أن قاموا بموجة عارمة من المعارضة ضد القضايا التي أثارها كتاب قاسـم أمــيـن، وطلبوا منه فتوى في الكتابين "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، ولكن الأستاذ ظل ملازمــاً للـصـمـت إزاء هذه القضية التي كانت شغل الناس والعامة ـ آنذاك ـ فضلاً عن العلماء والخطباء والفقهاء والدعاة، فكان لامتناعه أعظم الأثر في تمرير أفكار قاسم أمين، مما جعل بعض علماء عصره يرميه بالاتهامات لتواطئه مع دعاة الإباحية والفجور، وما أوضح مواقف أستاذه جمــال الدين الأفغاني الذي كان له أعظم الأثر والدور في إخراج الدين من المعركة تحت دعــوى أن الـحـجــــاب تقاليد قديمة ضد تقاليد حديثـة عصريـة تقدميـة! حتى قال: "وعندي أنه لا مانع من السفور إذا لم يُتخذ مطيةً للفجور"(18).
ومن مكاسبهم استخدامهم لشيخ الأزهر حـســـــن العطار الذي شجع رفاعة وبارك فكرته، وكذلك كسبهم للشيخ علي عبد الرازق، والشيخ سلـيم البشري شيخ الأزهر الذي أيّد قانون الأحوال الشخصية الوضعي عام 1319هـ، حتى إن رفاعة الطهطاوي مفتي البعثة المصرية إلى فرنسا كان يقول: "إن مراقصة النساء للرجال نظيـر المصارعة في موازنة الأعضاء، وإنه نوع من الأناقة والفتوة لا الفسق"(19)!!
خامساً:
الحصول على بعض القرارات الرسمية الوضعية التي أصدرتها الحكومة المصرية وعممتها إرضاءاً للتحرريين ومنها:1- تقييد عدد الطلاق ومنع وقوعه إلا بعد موافقة الحكومة.
2- منع تعدد الزوجات إلا في ظروف توافق عليها الحكومة.
3- تأخير سن زواج الفتاة إلى السادسة عشرة فما فوق.
4- المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث.
5- منح حق الطلاق للمرأة كالرجل.
6- إعـطــــاء ما يسمونه الحق السياسي (20) للمرأة بدءاً بحق الانتخابات ومروراً بعضوية المجالس البـلـديــة والنيابية وكافة الأعمال والحرف كالرجل سواءاً بسواء، وانتهاءاً بحق التمثيل النيابي(21).
سادساً:
حـصـــول التحرريين على الاعتراف الدولي العالمي بالحركة؛ فأول امرأة مصرية تحررية تعترف بـهـــا الـحـكـومة لتمثيلها في المؤتمرات الدولية هي مَلَك حفْني ناصف في حكومة رياض باشا عام 1911م.ثم مثلت هدى شعراوي، ونبوية موسى، وسيزا نبراوي المرأة المصرية في مؤتمر روما الدولي للمرأة عام 1932م والتقت سيزا نبراوي بالزعيم الهندي غاندي عام 1931م في مصر(22).
والـتقـت هدى شعراوي على هامش مؤتمر روما بالقائد الاستعماري موسوليني ثلاث مرات وتبادلا الـعـواطــــف والمشاعر الحارة، وكان مما صرح لها به قوله: "إنني أراقب باهتمام حركات التحرير بمصر"(23).
وفي عام 1935م الـتـقـت هـــدى شعراوي أيضاً بالزعيم الروحـي للتحرريين أتاتورك، كما استضافت الحركة الدكتورة (ريـد) رئـيـســة الاتحاد النسائـي العالمي التي مهدت للمؤتمر العربي الدولي للمرأة عام 1944م، وأقيم على شــرفـهــا وسـط استنكارات الشعوب العربية واحـتـجـاج الـعـلـمـاء، وأرسلت زوجـــة الـرئـيـس الأمـريكـي روزفلت رسالة تبارك فيها المؤتمر(24).
سابعاً: حصول بعض أعضاء الحركة على مناصب حسّاســــة فـي المجتـمـع المصري رغم مهاجمة المجتمع لهم.
فـقـاســـــم أمين ترقى في مناصب المحاكم حتى صار مستشاراً في محكمة الاستئناف وظـل بمنصبه حتى مات بالسكتة القلبية في ليلة 23 إبريل عام 1908م.
سـعــــد زغلول 1273 ـ 1346هـ ظــــل بعد تخرجه من الأزهر في المحاماة، وبعد اتصاله بحزب تركيا الفتاة لمع نجمه في صالون الأميـرة نـازلـي فـاضـل، واشتهر حتى تعرف على اللورد كرومر، فأسند إليه نظارة وزارة المعارف في الحكومة المصرية في ظل الاحتلال.
هـدى شعراوي أصبحت وكيلة الاتحاد النسائي الدولي بجهـود حركات التحرير الأوروبية والمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية(25).
ومنذ نشأة الـحــركــة وحتى اليوم ورئاسة الاتحاد النسائي المصري لا تخرج عن تلميذات هذه الحركة(26) والـزعـيـمـــــة الحالية للاتحاد هي د. نوال سعداوي من أنشط المنظرات للتحلل والسفور.
ثامناً:
صـبـغ القـضـيـة بالصبغة القومية لكسب جميع العرب من مختلف الأديان والملل، واستنفار طاقاتهم من الصليبيين الحاقدين أمثال: فهمي مرقص، وجرجي زيدان، وسلامة موسى.وبعدُ ـ أخي القارئ ـ فما أشبه الليلة بالبارحة! ففي كل عصر ومصر تطل من جديد حركة تحرير المرأة مكرِّرة فصولها، وأدوارها، مع تغيير للافتات والأسماء والوسائل، أما الأهداف والـغـايــات والنتائج والـمـنـطــلـقـات فهي هي، ومن هنا كان لا بد أن نقصد البحر وندع السواقي، ونعيد فتح ملف الحركة الأولى التي آتت أكلها بعد مائة وثلاثين عاماً من العمل الدؤوب والتخطيط المدروس... نعـيد فتح ملفها لنقرأه قراءة ناقدة باصرة تساعدنا في إبطال المؤامرة على المرأة المسلمة وحـجــابهـا، ووأد الـفـكــرة في مـهـــدهـا، والذب عن الحدود والمحارم، ونفي تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهـلـين السفوريين ((واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [يوسف:21].