اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم
، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد
فإن الصحابة رضوان الله عليهم هم نَقَلة الدين، وحُرَّاس الشريعة، ثبتت بهم حجةُ الله تعالى على المسلمين، وهم خير القرون، وخير أمة أُخرجت للناس؛ ثبتت عدالتهم جميعًا بثناء الله عز وجل عليهم، وثناء رسوله ، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منه؛ قال الله تعالى ذكره مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود الفتح.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اطَّلَعَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ؛ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَخَصَّهُ، أَوْ قَالَ بَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ اطَّلَعَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِهِ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ» الطبراني في الكبير ، وحسنه الألباني في شرح الطحاوية.
فالصحابة آمنوا بالنبي حين كفر الناس، وصدقوه حين كذبه الناس، وعزروه، ونصروه، وآووه، وواسوه بأموالهم وأنفسهم، وقاتلوا غيرهم على كفرهم؛ حتى أدخلوهم في الإسلام ، فهم أقوام باعوا أنفسهم لله ورسوله، تركوا أوطانهم وأموالهم وأولادهم؛ ليهاجروا إلى رسول الله ، وقاتلوا معه حتى افتدوه بأنفسهم، وأحبوه حبًّا ملك عليهم شغاف قلوبهم؛ فبذلوا لأجله الغالي والنفيس، حتى كانوا يقتتلون على فضل وضوئه البخاري.
فأصحاب محمد هم أفضل أصحابٍ لأفضل نبيٍّ، وخاصة الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، ومن بعدهم بقية العشرة، ثم أصحاب بيعة الرضوان، ثم بقية الآل والأصحاب رضي الله عنهم أجمعين.
قال الله تعالى: "وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ" التوبة.
قال ابن كثير رحمه الله «أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم» تفسير ابن كثير.
وقال الله تبارك وتعالى عن المهاجرين: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" الحشر.
وقال سبحانه وتعالى عن الأنصار:"وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" الحشر
وقال عن الذين جاءوا من بعدهم من المؤمنين وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" الحشر
والصحابة صفوة خلق الله تعالى بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام فعن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: "قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى" النمل ، قال أصحاب محمد رواه الطبري ، والقرطبي وانظر الاستيعاب ، وبذلك فسرها سفيان الثوري، انظر الحلية لأبي نعيم ، وابن عساكر
وقال سفيان في قوله عز وجل: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ" الرعد ، قال هم أصحاب محمد رواه سعيد بن منصور
وقال قتادة في قوله تعالى: "يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِه" البقرة هم أصحاب محمد آمنوا بكتاب الله، وعملوا بما فيه فتح الباري
وفضائلهم في السُّنّة أكثر من أن تُحصى، لكن أشير لبعضها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ» رواه البخاري ، ومسلم واللفظ له
وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة، وضيق الحال، بخلاف غيرهم؛ ولأن إنفاقهم كان في نصرته ، وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم وسائر طاعتهم
وقال تبارك وتعالى : "لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً" الحديد ، وهذا كله مع ما كان فيهم في أنفسهم من الشفقة، والتودد، والخشوع، والتواضع، والإيثار، والجهاد في الله حق جهاده، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل، ولا تُنال درجتها بشيء، والفضائل لا تُؤخذ بقياسٍ، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء اهـ شرح مسلم للنووي ، وشرح سنن ابن ماجه ، وتحفة الأحوذي.
ومعنى الحديث «لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أُحُد ذهبًا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مُدّ طعام أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص، وصدق النية مع ما كانوا عليه من القلة، وكثرة الحاجة والضرورة» اهـ فتح الباري
وقيل «السبب فيه أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام، وإعلاء كلمة الله ما لم يثمر غيرها، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين؛ لقلة عدد المتقدمين، وقلة أنصارهم، فكان جهادهم أفضل؛ ولأن بذل النفس مع النصرة، ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها» ا هـ تحفة الأحوذي.
ومما جاء في فضلهم رضي الله عنهم حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» رواه البخاري ، ومسلم
«وإنما صار أول هذه الأمة خير القرون؛ لأنهم آمنوا به حين كفر الناس، وصدقوه حين كذبه الناس، وعزروه، ونصروه، وآووه، وواسوه بأموالهم وأنفسهم، وقاتلوا غيرهم على كفرهم حتى أدخلوهم في الإسلام» ا هـ التمهيد ، فيض القدير
ومما جاء في فضلهم ما رواه أبو بردة رضي الله عنه قال قال رسول الله «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ؛ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي؛ فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي؛ فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» مسلم.
وفي الحديث إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة؛ من طمس السنن، وظهور البدع، وفشو الفجور في أقطار الأرض تحفة الأحوذي ، فيض القدير.
أما ما حصل بين الصحابة من الاختلاف والاقتتال فيجب علينا الكفّ عنه، مع اعتقاد أنهم أفضل الأمة، كما يجب علينا محبتهم والترضي عنهم، وعلى هذا تتابعت كلمة أهل السنة والجماعة.
فقد سُئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن علي وعثمان والجمل وصفين وما كان بينهم؟ فقال «تلك دماء كفَّ الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها» الطبقات الكبرى.
وسأل رجلٌ الإمام أحمد بن حنبل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه، فقيل له يا أبا عبد الله، هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: اقرأ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي ص .
وقال الإمام أحمد أيضًا بعد أن قيل له ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ قال «ما أقول فيهم إلا الحسنى» مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي ص.
وقال الميموني قال لي أحمد بن حنبل يا أبا الحسن، إذا رأيت رجلاً يذكر أحدًا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام
وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله يُسأَل عن رجل تنقَّص معاويةَ وعمرو بن العاص، أيُقَال له رافضيّ؟ فقال إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحدٌ أحدًا من الصحابة إلا وله داخلة سوء انتهى البداية والنهاية.
وقال أبو زرعة الرازي: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة» انتهى الكفاية في علم الرواية ص
وقال القرطبي «لا يجوز أن يُنسَب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به؛ إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكفّ عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر؛ لحرمة الصحبة، ولنهي النبي عن سبّهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم» انتهى تفسير القرطبي.
وقال ابن أبي زيد القيرواني وهو بصدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله ، وما ينبغي أن يُذكَروا به قال «وأن لا يُذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذِكْر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يُلتمس لهم أحسن المخارج، ويُظن بهم أحسن المذاهب» انتهى عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام.
وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة «ومن بعد ذلك نكفّ عما شجر بين أصحاب رسول الله ؛ فقد شهدوا المشاهد معه، وسبقوا الناس بالفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرك بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه، وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون، وإنما فضلوا على سائر الخلق؛ لأن الخطأ والعمد قد وُضع عنهم، وكل ما شجر بينهم مغفور لهم» كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص .
وقال أبو عثمان الصابوني وهو بصدد عرض عقيدة السلف وأصحاب الحديث
«ويرون الكفّ عما شجر بين أصحاب رسول الله ، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبًا ونقصًا فيهم، ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم» عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية «من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" الحشر
وطاعة النبي في قوله «لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ» البخاري ، ومسلم واللفظ له
وللحديث بقية إن شاء الله وقدر، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
أخوكم حسانين دحروج