وكانت وصايا حمزة البسيوني لزبانيته:
ألا يدعونا ننعم بالهدوء، وراحة البال، وطيب الخاطر، وأن يجتهدوا في التفتيش عن أسباب (التكدير)
والإيذاء لنا،
فإن لم يجدوا سببا اختلقوه اختلاقا، على طريقة الذئب مع الحمل، حين قال له: قد عكرت علي الماء، والذئب في
الأعلى، والحمل في الأسفل!
من ذلك أن بعض الإخوة احتاجوا إلى الماء لضرورة الشرب،
فقرعوا باب الزنزانة ليسمعهم الحراس، ويطلبوا منهم أن يمدوهم بقليل من الماء، الذي جعل الله منه كل شيء حيا.
وكان هذا سببا كافيا لإشعال معركة مع هؤلاء الإخوة، ومع
الدور الذي كانوا فيه، وقد كانوا في الدور الأرضي.
ولا أنسى المعركة التي نصبت للأخ الصبور البطل محمد حلمي
مؤمن من إخوان دمياط.
الضرب الوحشي للأخ محمد حلمي مؤمن:
وأنا أنقل هذه الواقعة من كتاب (الإخوان المسلمون: أحداث
صنعت التاريخ) للأستاذ محمود عبد
الحليم الجزء الثالث حيث قال: نعرض هنا لأخ كريم كان إذ
ذاك في مقتبل شبابه، وقد هاله ما يلقاه كرام الإخوان على
يد هؤلاء الوحوش الآدمية التي تسمى عساكر.. رأى الأخ محمد مؤمن وهو من إخوان دمياط
منظرا حز في
نفسه، ولذع كبده.. وكثر وتكرر هذا المنظر أمامه، فهانت عليه الحياة، وأسر في نفسه أن يمنع تكرار هذا المنظر،
أو يموت دونه.
والمنظر المثير يتلخص في أن يأمر العساكر أن يصفع الإخوان
بعضهم وجوه بعض وبطريقة قاسية، وإلا أذاقهم هؤلاء العساكر ألوان العذاب.
وطوى الأخ محمد جوانحه على هذا العزم. وطرأ طارئ جديد زاد
نار هذا العزم اشتعالا،
ذلك أن إدارة السجن منعت الماء عن الإخوان، واتخذت من الإجراءات التعسفية ما يكاد يصل إلى حد منعهم من
قضاء حاجتهم في دورة المياه.
وفي خلال هذه المأساة استطاع أحد الإخوان ـ وهو الأخ حسن
عبد الفتاح من إخوان
كرداسة وأحد زملاء الأخ محمد مؤمن في الزنزانة ـ أن يحصل على قليل من الماء، وبينما هو في دورة المياه ضبطه
أحد العساكر فأخذ منه الماء، وأخرج زملاءه في الزنزانة، وأمرهم بصفعه في وجهه. وتصادف أن كان الأخ محمد هو
أول الصف، فامتنع عن
تنفيذ الأمر.. فهجم عليه العسكري ليصفعه ويضربه كالمعتاد،
فقاومه الأخ محمد مقاومة شديدة، انتهت بوقوع العسكري على
الأرض.. وكان في نية الأخ محمد أن يقتل العسكري دفاعا عن كرامة الإنسانية أو حتى
الآدمية، ولكن
الإخوان حالوا بينه وبين العسكري.. فما كان من العساكر الآخرين إلا أن اجتمعوا على الأخ محمد لينتقموا منه؛
فجاءوا به إلى السارية، وأردوا أن يربطوه إليها بحبل، فرفض الأخ محمد، وقال لهم: إنني سأحتضن السارية دون حبل، واضربوني كما تشاءون.
واحتضن الأخ محمد مؤمن السارية، وجاء كل عسكري بكل ما
يضرب به من كرابيج وقطع من الخشب وعصي، وظلوا يضربونه حتى تعبوا جميعا.. فألقوا ما
بأيديهم متعجبين
ذاهلين.. والذي أذهلهم وأدخل اليأس في نفوسهم هو أن الأخ محمد ـ مع كل هذا الضرب القاتل ـ لم يتأوه، ولم
ينبس ببنت شفة، وهو أمر لا عهد لهم به.. بل إننا نحن الإخوان كنا في دهشة من هذا الصبر العجيب.. حتى إننا سألنا الأخ محمد بعد ذلك كيف استطاع أن
يصبر على هذا الضرب المميت دون أن يصرخ أو يتأوه؟ فقال: إن الذي أقدم على ما أقدم عليه وهو ينتظر الموت؛
إذا جاء ما هو دون
الموت، فإنه لا يكاد يحس له بألم.
واعتقد هؤلاء العساكر ـ بسذاجتهم ـ أن الأخ محمد وليّ من
أولياء الله؛ ولهذا
لم يحس بألم الضرب، واعتقدوا أنهم إذا لم يعتذروا إليه، ويطلبوا منه الصفح عنهم، فسيصيبهم شر مستطير. فذهبوا
إليه في الزنزانة التي كان ملقي بها يتشحط في دمه، واعتذروا إليه، وأحضروا له الأخوين: الدكتور أحمد
الملط والدكتور كامل
سليم، فضمدا جروحه. أ.هـ
وأود أن أعلق على كلام الأخ محمود عبد الحليم على اعتقاد
الجنود في الأخ محمد حلمي مؤمن ـ لسذاجتهم ـ أنه ولي من أولياء الله الصالحين، فأقول:
بل هو بالعقل ولي من
أولياء الله بالمعنى القرآني، لا بالمعنى الخرافي، الشائع
لدى المسلمين، وهو أن كل مؤمن تقي هو ولي من أولياء الله،
فلم لا يكون الأخ
مؤمن من أولياء الله تعالى، وقد رضي بمثوبة الله غاية، وبالقرآن دستورا ومنهاجا، وبالرسول قدوة وزعيما،
وبالجهاد سبيلا، وثبت على ذلك، وصبر على ما يلقاه في سبيل الله؟! وقد قال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا
خوف عليهم ولا هم
يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون) يونس.
وهكذا كلما مرت فترة هدوء وحمدنا الله فيها على السلامة،
سرعان ما يخترعون لنا من الأسباب، ما يبقي النار حية متأججة، وهم أبدا يلقون عليها
بالوقود، حتى
لا تخبو وتستحيل إلى رماد.
أجهزة تمويل الأسر:
وكان مما ينفخ في الجمر فيتوقد: القبض على بعض الإخوة
الذين يساعدون أسر المعتقلين، ويطلقون على كل مجموعة منهم اسم (جهاز التمويل) أي تمويل
الأسر، حتى
لا تموت من الجوع والعري والمرض والحاجة.
فقد رسموا سياستهم على إذلال هذه الأسر، حتى تقهرها
الحاجة، ويكسر أنفها الجوع، والجوع كافر، ويتعرض الأطفال للضياع، والنساء لمد الأيدي، وكاد الفقر أن يكون كفرا.
ولا عجب أن كان يزعجهم كل الإزعاج أن يجدوا من شباب
الإخوان من نذر نفسه ليأخذ المساعدات من أهل الخير من الإخوان، ويوصلها لهذه الأسر
المتعففة، فكانوا
يأخذون المحسنين إذا عرفوهم، والمحصلين للمال من الشباب، ومعظمهم من طلاب الجامعات.
وفي كل عدة أشهر نستقبل فوجا من هؤلاء، الذين كنا نسمع
صراخهم وهم يعذبون، في مكاتب التحقيق، وصوت أم كلثوم يغطي على صيحات العذاب والآلام بأغنية يذيعها ميكروفون السجن، وتتكرر كل ليلة،
وهي أغنية (شمس الأصيل ذهبت روس النخيل يا نيل. تحفة ومتصورة في صفحتك يا جميل).
ومن غرائب الطرائف:
أن يكلف أحد الإخوان الرسامين البارعين في رسم الصور الشخصية، أن يرسم بيده صورة زيتية كبيرة على جدار السجن الحربي
بأمر حمزة البسيوني،
وأن يكتب تحت هذه الصورة عبارة عبد الناصر الشهيرة: ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد!
وكانت هذه الكلمة موضع السخرية والتنكيت من الإخوان،
فهذا يقول: كان الواجب
أن يكتبوا تحت الصورة: ارفع رجلك يا أخي فأنت في عهد الكرباج! وآخر يقول:
ارفع رأسك يا أخي لنقطعها، فنحن في عهد الإطاحة بالرءوس!
إلى آخر هذه التعليقات
التي يتقنها المصريون؛ فهم شعب الفكاهة والنكتة حقا.
حتى إني اقترحت يومًا أن يتتبع أحد الباحثين النكات
السياسية التي قيلت منذ
أول عهد الثورة حتى اليوم، منذ عهد عبد الناصر والسادات ومبارك، فسيجد كمًّا هائلاً، يمكن أن يكون
مجالاً لدراسات أدبية وفلكلورية ونفسية وسياسية واجتماعية.
وقد بلغني أن بعضهم جمع شيئًا غير قليل في ذلك
.
طعام السجن
:
كان طعامنا في السجن ـ كما أشرت من قبل ـ قليلاً من حيث
الكمية، رديئا من
حيث الكيفية. كان فطورنا غالبا من العدس المليء بالحصى والرمل، ولا أدري:
أذلك لرداءة نوع العدس أم هم يتعمدون إلقاء الرمل فيه،
ليحرمونا لذة الطعام؟
وأحيانا يأتون لنا بالفول بدل العدس، ولا أسوأ من هذا
إلا هذا. فالسوس يطفو
على سطحه بكثرة تلفت النظر، حتى قال بعض الظرفاء من إخواننا: هذا لا يقال له: فول مسوِّس، بل سوس مفوِّل!
فصارت مثلا.
وفي الغَداء كانت الفاصوليا الجافة مع الأرز، هي الطعام
اليومي المقرر
إجباريا
علينا. وقد كانت الفاصوليا هي طعامنا اليومي حينما اعتقلنا في الطور سنة 1949 في عهد الملكية.
ومن الطريف هنا أني حينما تزوجت قلت لامرأتي: هناك طعام
عندي مخزون منه
يكفيني لنصف قرن، فلا أريد أن تطبخيه أبدا؟ قالت: ما هو؟ قلت لها:
الفاصوليا الناشفة.
وفعلا، نفذت ما اتفقنا عليه، ولا أحسب أننا طبخنا هذه
الفاصولية أو دخلت بيتنا إلى يومنا هذا
!
وفي العشاء كانوا يأتوننا بطعام لعله من بعض الخضار
المطهو، أو من شيء لا نعلمه
.
وكل زنزانة يغرف لها نصيبها في صحن متوسط الحجم، أو قل:
في صحنين، صحن للفاصوليا أو الخضار، وصحن للأرز
.
أما خبزهم فكان عجيبا حقا، لا ندري من أي مادة عجنوه
وخبزوه، حتى نحسبه أحيانا كأنما صنع من مادة الإسمنت
.
ومع هذا، كان هذا الطعام يؤكل ولا يبقى منه شيء؛ لأن
قلته وعدم كفايته
جعلته مرغوبا، ومن أكل أي طعام وهو جائع شعر بلذته، وإن لم يكن من الطيبات المستلذات. وقد قيل لبضعهم: أي
الطعام أطيب؟ قال: الجوع أعلم.
وأكل أعرابي يوما على مائدة الحجاج فقال له الحجاج: كل،
إنه طعام طيب. قال
: والله ما طيبه
خبازك ولا طاهيك، ولكن طيبه الجوع والعافية!
ولقد مر علينا شهر رمضان ـ وكان في عز الصيف ـ ونحن على
هذا الحال من
التقشف
والإقلال، وقد مر بنا ـ بحمد الله ـ خفيفا ظريفا، رقيقا كنسمات الفجر، لا أذكر أننا شكونا فيه
جوعا أو عطشا، رغم ما هو معلوم من طول أيام الصيف وشدتها، ولم نشعر بأنَّا فقدنا شيئا كبيرا حين مر علينا
رمضان بلا تمر ولا
زبيب ولا تين، ولا قمر الدين، ولا كنافة ولا قطائف. وأشد من هذا كله وأقسى أننا قضيناه بعيدًا عن
أسرنا وأهلينا، ولا نستطيع أن نصلي التراويح جماعة في زنازيننا، فهذا محظور.
واستعضنا عن طيب المأكولات بطيب الأذكار والدعوات،
وبتلاوة ما نحفظ من القرآن بعد أن أخذوا منا المصاحف
.
ومن الذكريات الأليمة في هذا الرمضان: مرور حمزة
البسيوني علينا فيه، بوجهه
الأغبر، وشعره الأشعث، وجبينه المقطب، وخده المشجوج، وشاربه المتهدل، ولسانه الذي يسيل بالكلمات
البذيئة سيلا، كأنما لا يعرف من اللغة غير السباب والشتم وسوء الأدب، وقد كان يوم مروره ـ كما هو دائما ـ
يوما أسود، لأنه لا
يصدر عنه إلا الأذى، كما لا يصدر عن العقرب إلا أن تلدغ وتؤذي، ولا عن الأفعى إلا أن تعض وتنفث
السم، وكل إناء بالذي فيه ينضح. ونحمد الله تعالى أننا لم نر وجهه في رمضان كله إلا هذا اليوم، لا أرانا
الله وجهه!)
تمزق الملابس
:
وكان الكثير منا لم يحمل معه ملابس كافية، فلم نكن نقدر
أن الزمن سيطول
بنا، ولم نكن نحسب أننا سنمنع من زيارة أهلينا وأقاربنا، وبعضنا أُخذ من عمله أو منزله أو من الطريق، على
أساس أنه مطلوب لخمس دقائق، ولم يصْدُقوه فينبئوه بما نووه وصمموا عليه من سجن طويل.
ولهذا بدأت ثياب الإخوان تتخرق وتبلى، وطفق الإخوان
يرقعون ما معهم من
ملابس، وهذا يحتاج إلى إبرة وخيط ورقعة وصنعة أيضا، فليس كلنا يحسن ترقيع ملابسه، وأنا من هؤلاء، ولم يعد
منظرا غريبا أو شاذا أن تجد أخا يلبس جلبابا مرقوعا، كما كان سيدنا عمر رضي الله عنه.
بل ذكر الأخ محمود عبد الحليم أنه كان في منامته
(بيجامته) أكثر من ثلاثين رقعة
.
كنت شخصيا ممن حمل معه من الملابس ما يكفي لسنة على
الأكثر، وكانت من
الملابس المستعملة لا الجديدة، وبعد سنة بدأ البلى يظهر على الثياب،
وخصوصا مع بدء
الشتاء الثاني في السجن، وقد رآني بعض الإخوة الأصدقاء من جيران زنزانتنا أنتفض من البرد،
فأسعفني وأتحفني بجلباب من عنده من الكستور المصري المحلاوي، ذلكم هو الأخ محمد كمال إبراهيم، وكان الأخ
كمال أسمن مني بكثير،
فكان ثوبه فضفاضا علي، ولكن المطلوب في تلك الفترة هو الستر لا التجميل.
روح معنوية عالية
:
ومع هذا كله وما هو أكثر منه مما لم يذكر، كانت روح
الإخوان عالية،
ومعنوياتهم قوية، وإيمانهم راسخا، وثقتهم بالله لم تضعف أبدا، وأملهم في فرج الله ونصره لم تنقطع خيوطه
من قلوبهم يوما.
كانوا يؤمنون بأن هذه سُنة أصحاب الدعوات، وحمَلة
الرسالات، وأن الطريق إلى
النصر في الدنيا، وإلى الجنة في الآخرة، مفروش بالأشواك، مضرج بالدماء، مليء بجثث الشهداء، وأن الأمر
كما قال ابن القيم:
يا مخنث العزم! الطريق تعب فيه آدم، وناح نوح، وألقي في
النار إبراهيم،
وتعرض للذبح إسماعيل، وأوذي فيه موسى، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح فيه
السيد الحصور
يحيى… إلى آخر ما قال.
وحسبنا ما ذكره القرآن: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ
وَلَمَّا
يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ
نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}
(البقرة:214).
كان عامة الإخوان يقابلون هذه الأهوال بصدور منشرحة،
وقلوب منفتحة، وثغور
مبتسمة، فتراهم داخل الزنازين يضحكون وينكتون، ويرددون المُلَحَ والطرائف، ويتفننون في ذلك مما لا يخطر على
بال.
فهناك الشعراء الذين ينشئون القصائد، مثل قصيدتي
(النونية). وهناك الزجالون الذين يؤلفون الأزجال، مثل زجل أحد الإخوة
:
اللي ما شافش السجن الحربي مهما اتربّى ما تربّاش
وهناك الذين يقلبون الأغنيات المشهورة لتصبح لأمته
بالحال، ويتغنون بها،
مثل أحد الإخوة الذي كان يقلد أغنية أم كلثوم الشهيرة: يا ظالمني. وكان يغير عباراتها وينشدها بصوته
العذب، فيقول:
وتضربني وتؤذيني
وتنفخني وتكويني
وتزعل لما أقول لك
يوم: يا ظالمني
وكان قليل من الإخوة هم الذين قصرت طاقتهم عن احتمال هذه
الألوان من الأذى
والعذاب البدني والنفسي. وهم في هذا معذورون، لأن هذا فوق طاقتهم، ولا
يكلف الله نفسا
إلا وسعها. والشاعر يقول:
ما كلف الله نفسا فوق طاقتها
ولا تجود يد إلا بما تجد
حكى لي الأخ الشيخ عبد التواب هيكل وكان رفيقنا في
السجن، كما كان زميلي في
كلية أصول الدين، أن أحد الإخوان في زنزانتهم كان رجلا رقيقا جدا، مرهف الإحساس، لا يتحمل الضرب بحال من
الأحوال، إذا وقع له، ويرتعد خوفا منه قبل أن يقع، وكان رفقاؤه من الإخوان في زنزانة يحاولون تصبيره
وتسكينه والتخفيف
عنه، فيستجيب لهم، ولكن طبيعته تغلبه، حتى إنه نذر على نفسه نذرا لله تعالى إذا خرج من السجن حيا
أن يضرب أبناءه بالسياط حتى يتعودوا الضرب، ويتحملوا ألمه، ولا يشق عليهم، كما شق عليه، إذا ابتلوا بمثل
ما ابتلي أبوهم...)
وفى فجر الجمعة 20 أغسطس 1965 اقتحم رجال الطاغوت
منزلي، ولما طلبت منهم إذنا بالتفتيش ، قالوا: إذن ! أي إذن يا مجانين ؟
نحن في عهد عبد الناصر، نفعل ما نشاء معكم يا كلاب
. . !
وأخذوا يقهقهون في صورة هستيرية وهم يقولون : الإخوان
المسلمون مجانين ،
قال إيه ، يريدون إذن تفتيش في حكم عبد الناصر! ودخلوا البيت وأتلفوا ما فيه بالتمزيق تارة وبالتكسير
تارة أخرى حتى لم يتركوا شيئا سليما . وكنت أنظر إليهم باحتقار وهم يمزقون فراش المنزل . وأخيرا قبضوا على
ابن أخي الطالب في
كلية المعلمين محمد محمد الغزالي، وكان يقيم معي كابني وقالوا لي
: لا تغادري البيت . قلت : أفهم من ذلك أن إقامتي محددة
. قالوا : إلى حين صدور أوامر أخرى، واعلمي أن البيت تحت الحراسة فإذا تحركت فسيقبض عليك
. وظننت أن الأمر سيقف عند تحديد الإقامة، وجاء لزيارتي
شقيقتي وأولادها وزوجها، وكنت أعد حقيبتي استعدادا للقبض على . ورجوت زوج شقيقتي مغادرة المنزل حتى لا يقبضوا عليه إن
عادوا ووجدوه كما فعلوا مع ابن أخي. ولكنه أصر على البقاء رغم محاولاتي المتكررة في إفهامه أن الوقت ليس
وقت مجاملة أو نحوه .
وبينما كنا نتناول الغداء اقتحم المنزل زبانية الطاغوت وأتوا على البقية الباقية واستولوا على ما
في الخزانة . واستولوا على ما يزيد على نصف مكتبتي، ولم تفلح محاولاتي في إنقاذ بعض
المؤلفات القديمة في التفسير والحديث والفقه والتاريخ
مما يعود تاريخ طبعه إلى أكثر من مائة عام
، كما لم تفلح محاولاتي في الاحتفاظ بمجموعات
ثلاث من مجلة السيدات المسلمات التي أوقفت بأمر عسكري سنة 1958 ، فقد صادروا كل ما أرادوا وللخزانة وقتها قصة عجيبة . فقد
كانت الخزانة لزوجي إلا أن بها أشياء تخصني أيضا. فلما طلبوا المفتاح قلت لهم : إنه مع زوجي وهو مسافر في
مصيفه ، فإذا بهم
يهتفون برجل منهم يأمرونه بفتح الخزانة ، وتقدم هذا الرجل وفتح الخزانة بآلات ومفاتيح كانت معه
، كأي لص متمرس ! ! ولما طلبت منهم إيصالا بما أخذوه قالوا في سخرية : "أنت مجنونة . أنت فاكرة نفسك
شاطرة، إخرسي بلاش
دوشة" . وقبضوا على وأدخلوني عربة وجدت فيها ابن أخي الذي قبضوا عليه في الفجر، وشابا من شباب الدعوة،
سألت ابن أخي : إيه يا محمد؟ فلم يجبني ففهمت أن التعليمات إليه أن لا يتكلم ، وكانوا قد أتوا به ليرشدهم إلى المنزل لأن هؤلاء كانوا غير زوار
الفجر. . وأخذت العربة تنهب بنا الطريق حتى وصلت إلى السجن الحربي، عرفت ذلك من اللوحة الموجودة على بوابته ، واقتحمت السيارة البوابة المرعبة
، وبعدما ابتلعت البوابة السيارة ومن فيها . أنزلت منها واتجه بي وغد غليظ إلى حجرة استجوبني فيها وغد آخر، وأدخلت منها إلى حجرة أخرى . ووقفت أمام
رجل ضخم الجثة مظلم الوجه قبيح اللفظ ، فسأل الذي يمسك ذراعي عنى فأجابني بسباب غلف فيه أسمي، ومع ذلك التفت هو إلى في غلظة وسألني من أنت ! .
قلت : "زينب الغزالي الجبيلي" . فانطلق يسب ويلعن بما لا يعقل ولا يتصور. وصرخ الذي يمسك بذراعي قائلا :
"دا رئيس النيابة يا
بنت الــ . . . ردى على سعادته "، وكان الآخر قد صمت
قلت : لقد اعتقلوني أنا وكتبي وكل ما في الخزانة، فأرجو
حصر هذه الأشياء
وتسجيلها فمن حقي أن تعاد إلى . أجاب رئيس النيابة المزعوم الذي وضح فيما بعد أنه شمس بدران ، أجاب في
فجور وجاهلية متغطرسة: "يا بنت الـــ . . . نحن سنقتلك بعد ساعة، كتب إيه ؟ وخزنة إيه ؟ ومصاغ إيه ؟ أنت
ستعدمين بعد قليل ، كتب
إيه وحاجات إيه اللي بتسألي عليها يا بنت الـــ . . . ، إحنا سندفنك كما دفنا عشرات منكم يا كلاب هنا في السجن الحربي"
لم أستطع أن أجيب ،
لأن الكلمات كانت بذيئة الألفاظ سافلة، والسباب والشتائم منحطة إلى الحد الذي لا يستطيع فيه الإنسان أن
يسمعها فضلا عن أن يجيب عنها.
وقال هذا المتغطرس للذي يمسك ذراعي : خذها . . . قال :
إلى أين ؟ أجاب ؟ هم
عارفون . وجذبني الفاجر في وحشية وهو يقول : يا بنت الـ . . . وعند الباب نادى صاحب الجثة الغليظة المظلمة
على الشيطان الممسك بذراعي فالتفت إليه ، فكأني أرى ظلمة من دخان غليظ أسود تغرقه ، قلت في سرى : أعوذ
بالله من الشيطان
الرجيم ، ثم تضرعت إلى الله قائلة:
اللهم أنزل على سكينتك وثبت قدمي في دوائر أهل الحق ،
واربط على قلبي بذكرك وارزقني الرضا بما يرضيك
. وقال الممسك بذراعي للشيطان : نعم يا معالي الباشا .
قال له : تروح رقم 24 وبعد ذلك
تأتوني . وانصرف بي الشيطان الشقي الممسك بذراعي وأدخلني حجرة ، فرأيت رجلين يجلسان إلى مكتب في
يد أحدهما مفكرة كنت أعرفها،
وهى خاصة بالأخ الشهيد عبد الفتاح إسماعيل ، كان يخرجها
في حلقات القران ونحن نتدارس ويدون بها بعض ملاحظاته
، فعرفت أنه اعتقل وبعض الإخوان إذ كان عنده
اجتماع بهم في ذلك الوقت ، وأحدث ذلك رعدة في نفسي خشيت أن يلاحظها بعض الشياطين ، وكان أذان العصر يخترق سمعي، وترك الشيطان رقبتي
ولكن ظللت في مكاني فصليت إلى الله ،وما أن انتهيت من الصلاة حتى انكب الشيطان على في وحشية، قيل له :
اذهب بها إلى 24)
خرج بي الشيطان وهو ممسك بذراعي، وسار معنا اثنان من
الشياطين سود الوجوه
ممسكان بالكرابيج ، ساروا بي في أنحاء متعددة من السجن الحربي
. .
ورأيت الإخوان المسلمين معلقين على الأعواد والسياط تلهب
أجسادهم العارية،
<