إن نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ياأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون﴾.
﴿ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا﴾.
﴿ياأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا﴾.
أما بعد: فإن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: ﴿ياأيّها الّذين ءامنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرًا ﴾.
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ياأيّها الّذين ءامنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون ﴾.
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ولا يجرمنّكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتّقوا الله إنّ الله شديد العقاب ﴾.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكّرون ﴾.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ﴾.
أهل السنة أسعد الناس بهؤلاء الآيات وما أشبههن من الأدلة، فهم إن كتبوا كتبوا ما لهم وما عليهم، وإن خطبوا ذكروا ما لهم وما عليهم، يلازمون العدالة مع القريب والبعيد، والعدو والصديق، وإنك إذا نظرت في كتب الجرح والتعديل تجدها غاية من العدالة، يجرحون الرجل إذا كان يستحق الجرح وإن كان رأسًا في السنة، ويثنون على المبتدع بما فيه من الخير إذا احتيج إلى ذلك، بخلاف أهل الأهواء فإنّهم يثنون على من يوافقهم على بدعهم وإن كان لا يساوي فلسًا، ويذمون من خالفهم وإن كان رأسًا في الدين، وأعظم المبتدعين إطراءً لمن وافقهم هم الرافضة والصوفية، وهكذا في الذم لمن خالفهم، فمن ثم لا يقبل أهل الجرح والتعديل كلام هؤلاء في الرجال، بل لا يقبلون رواية الرافضة.
وإليك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ج1 ص59) من ((منهاج السنة)): وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب.
قال أبوحاتم الرازي: سمعت يونس بن عبدالأعلى يقول: قال أشهب بن عبدالعزيز: سئل مالك عن الرافضة؟ فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم، فإنّهم يكذبون.
وقال أبوحاتم: حدثنا حرملة. قال: سمعت الشافعي يقول: لم أر أحدًا أشهد بالزور من الرافضة.
وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية، إلا الرافضة فإنّهم يكذبون.
وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكًا يقول: أحمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة فإنّهم يضعون الحديث ويتخذونه دينًا. وشريك هذا هو شريك بن عبدالله القاضي قاضي الكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة، وهو الذي يقول بلسانه: أنا من الشيعة. وهذه شهادته فيهم.
وقال أبومعاوية: سمعت الأعمش يقول: أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين يعنى أصحاب المغيرة بن سعيد قال الأعمش: ولا عليكم أن تذكروا هذا فإني لا آمنهم أن يقولوا: إنا أصبنا الأعمش مع امرأة.
وهذه آثار ثابتة قد رواها أبوعبدالله بن بطة في ((الإبانة الكبرى)) هو وغيره وروى أبوالقاسم الطبراني: كان الشافعي يقول: ما رأيت في أهل الأهواء قومًا أشهد بالزور من الرافضة. ورواه أيضًا من طريق حرملة، وزاد في ذلك: ما رأيت أشهد على الله بالزور من الرافضة. وهذا المعنى وإن كان صحيحًا فاللفظ الأول هو الثابت عن الشافعي، ولهذا ذكر الشافعي ما ذكره أبوحنيفة وأصحابه أنه رد شهادة من عرف بالكذب كالخطابية.
وردّ شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء، وتنازعوا في شهادة سائر أهل الأهواء هل تقبل مطلقًا أو ترد مطلقًا أو ترد شهادة الداعية إلى البدع؟ وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث، لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته، ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات كالصحاح، والسنن، والمسانيد، الراوية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة، كالخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، وذلك لأنّهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم، ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه، بخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته، ومن هجْره ألاّ يؤخذ عنه العلم، ولا يستشهد.
وكذلك تنازع الفقهاء في الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور، منهم من أطلق المنع، والتحقيق أن الصلاة خلفهم لا ينهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها، لكن لأنّهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يهجروا، وألاّ يقدموا في الصلاة على المسلمين، ومن هذا الباب ترك عيادتهم، وتشييع جنائزهم، كل هذا من باب الهجر المشروع في إنكار المنكر للنهي عنه.
وإذا عرف أن هذا من باب العقوبات الشرعية علم أنه يختلف باختلاف الأحوال من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السنة وخفائها، وأن المشروع هو التأليف تارة، والهجران أخرى، كما كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يتألف أقوامًا من المشركين، ومن هو حديث عهد بالإسلام، ومن يخاف عليه الفتنة، فيعطى المؤلفة قلوبهم ما لا يعطي غيرهم. وقال في الحديث الصحيح: ((إني أعطي رجالاً والذي أدع أحبّ إليّ من الذي أعطي، أعطي رجالاً لما في قلوبهم من الهلع والجزع، وأدع رجالاً لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم: عمرو بن تغلب)). وقال: ((إني لأعطي الرّجل وغيره أحبّ إليّ منه، خشية أن يكبّه الله في النّار على وجهه)). أو كما قال.
وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح، ومن عرف هذا تبين له أن من رد الشهادة والرواية مطلقًا من أهل البدع المتأولين، فقوله ضعيف، فإن السلف قد دخلوا بالتأويل في أنواع عظيمة.
ومن جعل المظهرين للبدعة أئمة في العلم والشهادة لا ينكر عليهم بهجر ولا ردع، فقوله ضعيف أيضًا، وكذلك من صلى خلف المظهر للبدع والفجور من غير إنكار عليه ولا استبدال به من هو خير منه مع القدرة على ذلك، فقوله ضعيف، وهذا يستلزم إقرار المنكر الذي يبغضه الله ورسوله مع القدرة على إنكاره، وهذا لا يجوز.
ومن أوجب الإعادة على كل من صلى خلف ذي فجور وبدعة فقوله ضعيف، فإن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين صلوا خلف هؤلاء وهؤلاء، لما كانوا ولاة عليهم، ولهذا كان من أصول أهل السنة أن الصلاة التي تقيمها ولاة الأمور تصلى خلفهم على أي حالة كانوا، كما يحج معهم، ويغزى معهم، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر الطوائف من أهل القبلة، ومن تأمل كتب الجرح والتعديل المصنفة في أسماء الرواة والنقلة وأحوالهم مثل كتب يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم الرازي، والنسائي، وأبي حاتم بن حبان، وأبي أحمد بن عدي، والدارقطني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي، ويعقوب بن سفيان الفسوي، وأحمد بن صالح العجلي، والعقيلي، ومحمد بن عبدالله بن عمار الموصلي، والحاكم النيسابوري، والحافظ عبدالغني بن سعيد المصري، وأمثال هؤلاء الذين هم جهابذة ونقاد، وأهل معرفة بأحوال الإسناد، رأى المعروف عندهم الكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف، حتى إن أصحاب الصحيح كالبخاري لم يرووا عن أحد من قدماء الشيعة مثل: عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، وعبدالله بن سلمة وأمثالهم، مع أن هؤلاء من خيار الشيعة، وإنما يروون عن أهل البيت كالحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وكاتبه عبيدالله بن أبي رافع أو عن أصحاب ابن مسعود كعبيدة السلماني، والحارث بن قيس، أو عمن يشبه هؤلاء، وهؤلاء أئمة النقل ونقاده من أبعد الناس عن الهوى وأخبرهم بالناس وأقولهم بالحق لا يخافون في الله لومة لائم.اهـ كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
هذا وبما أنّها قد ساءت ظنون المجتمع بالكاتبين والخطباء، بسبب الدعايات الملعونة من الشيوعيين، والبعثيين، والناصريين، والشيعة، فإذا رأوا الرجل يخطب محذّرًا من الرافضة قالوا: هذا مدفوع من قبل البعثيين، فإني أذكر إخواني المسلمين بقول الله عز وجل: ﴿ياأيّها الّذين ءامنوا اجتنبوا كثيرًا من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم ﴾.
وقال الإمام البخاري رحمه الله (ج10 ص484): حدّثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إيّاكم والظّنّ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تحسّسوا، ولا تجسّسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)).
الذي لا يعلم أن أمريكا وروسيا تريدان القضاء على الإسلام والمسلمين فهو مغفل أشبه بالبهائم، فكيف يرجى منهما أن يساعدا الدعاة إلى الله وهم رءوس المسلمين وحماة الإسلام، وقل أن يدخل أعداء الإسلام بلدة إلا ويبدءون بحصاد العلماء والمفكرين الإسلاميين، بل يوعزون إلى الحكومات التي تطيعهم بالقضاء على الدعوات، ويوهمونها أنّها تشكل خطرًا على المجتمع، وكذبوا، فالدعاة إلى الله دعاة إلى الله وليسوا دعاة فتن وإراقة للدماء، وإنما هم دعاة إصلاح يرون عملهم الذي يقومون به أرفع من الكراسي والمناصب، كما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ومن أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنّني من المسلمين ﴾.
ويرون المناصب والمسلمون على هذه الحالة عذابًا على أصحابها، لكثرة الخيانات والطمع والانقلابات، ولا يرون أن أحدًا يشارك الدعاة إلى الله الجامعين بين العلم والعمل في الخير الذي هم فيه إلا من وفّق لمثل ما هم فيه: ﴿يرفع الله الّذين ءامنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات ﴾.
فالعلم عندنا أرفع من الملك والرئاسة، و الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
هذا وأما حكام المسلمين نسأل الله أن يصلحهم فإنّهم في واد والدعاة إلى الله في واد، الحكام يهمهم المحافظة على كراسيهم، والدعاة إلى الله يهمهم إصلاح المجتمع والدفاع عن الإسلام، ويتقربون إلى الله بحماية الدين والذب عن حياضه أن يلوثها أعداء الإسلام، ويسألون الله أن يصلح حكام المسلمين فإنّهم قد ابتلوا بالدعاة إلى الله، وابتلي بهم الدعاة إلى الله، ولا يصلح الجميع إلا التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولا تزول النفرة التي بينهم إلا بالاعتصام بكتاب الله، وتحكيم شرع الله، وفق الله الجميع لذلك.
وإياك إياك أن تظن أني ألفت هذا الكتاب من أجل صدام البعثي الملحد، فمعاذ الله، فحزب البعث كافر، وما كان الدعاة إلى الله ليكونوا آلة يومًا من الدهر لأعداء الله، ولكني ألّفته غضبًا لله وتحذيرًا لإخواني أهل السنة من المزالق، وسيأتي إن شاء الله بيان السبب الذي ألفته من أجله.
والدعاة إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مبتلون بالاتّهامات إذا خالفوا الناس وابتغوا الدليل، وإليك ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله في ((الاعتصام)) متوجعًا من أهل عصره، بسبب مخالفته الناس فيما يراه حقًا. قال رحمه الله (ج1 ص27): وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارةً نسبْت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزي إلي بعض الناس بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارةً نسبْت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص إذ لم يكن ذلك شأن أحد من السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب، وقد سئل (أصبغ) عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. قيل له: فدعاؤه للغزاة والمرابطين؟ قال: ما أرى به بأسًا عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئًا يصمد له في خطبته دائمًا فإني أكره ذلك. ونص أيضًا عزالدين بن عبدالسلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.
وتارة أضاف إلى القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذًا في المذهب الملتزم أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط في كتاب ((الموافقات)).
وتارةً نسبت إلى معاداة أولياء الله وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها وهي الناجية ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. وسيأتي بيان ذلك بحول الله.
وكذبوا عليّ في جميع ذلك أو وهموا و على كل حال، فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبدالرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال: عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقًا أو مخالفًا دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان سماني موافقًا، وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفًا، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب بخلاف ذلك وارد سماني خارجيًّا، وإن قرأت عليه حديثًا في التوحيد سماني مشبّهًا، وإن كان في الرؤية سماني سالميًّا، وإن كان في الإيمان سماني مرجئيًّا، وإن كان في الأعمال سماني قدريًّا، وإن كان في المعرفة سماني كراميًّا، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيًّا، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيًّا، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريًّا، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيًّا، وإن أجبت بتأويل سماني أشعريًّا، وإن جحدتهما سماني معتزليًّا، وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شفعويًّا، وإن كان في القنوت سماني حنفيًّا، وإن كان في القرآن سماني حنبليًّا، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار -إذ ليس في الحكم والحديث محاباة- قالوا: طعن في تزكيتهم.
ثم أعجب من ذلك أنّهم يسمونني فيما يقرءون علي من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئًا، وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم. اهـ
أما السبب الذي حملني على تأليف هذا الكتاب فهو أني لما انتهيت من كتاب ((إرشاد ذوي الفطن لإبعاد غلاة الروافض من اليمن)) أردت أن أستريح من الكتابة يومًا أو يومين، ثم أعود إلى بحثي الذي أنا مستمر فيه وهو ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين )) فأخذت الجزء الأول من ((العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين)) للإمام تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي رحمه الله، فقرأت الباب الثامن والثلاثين في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام، وها أنا أسوق الباب كله لتشاركني فيما أفزعني وحملني على تأليف هذا الكتاب.
قال رحمه الله (ج1 ص183):
الباب الثامن والثلاثون:
في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام
لا ريب في كثرة الأخبار في هذا المعنى وأكثر ذلك خفي علينا لعدم العناية بتدوينه في كل وقت، وقد سبق مما علمناه أمور كثيرة في مواضع من هذا الكتاب، ويأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك بعد هذا الباب.
والمقصود ذكره في هذا الباب: أخبار تتعلق بالحجاج لها تعلق بمكة، أو باديتها، وحج جماعة من الخلفاء والملوك في حال ولايتهم ومن خطب له بمكة من الملوك وغيرهم في خلافة بني العباس وما جرى بسبب الخطبة بمكة بين ملوك مصر والعراق، وما أسقط من المكوسات المتعلقة بمكة.
فمن الأخبار المقصود ذكرها هنا: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حج بالناس سنة اثنتي عشرة من الهجرة.
ومنها: أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حج بالناس في جميع خلافته إلا السنة الأولى منها.
ومنها: أن ذا النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه حج بالناس في جميع خلافته إلا في السنة الأولى والأخيرة.
ومنها: أن في سنة أربعين من الهجرة، وقف الناس بعرفة في اليوم الثامن من ذي الحجة وضحوا في اليوم التاسع، وليس كل إنسان اتفق له ذلك، والذين اتفق لهم ذلك طائفة كانوا مع المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
ومنها: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما حج بالناس سنتين.
ومنها: أن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما حج بالناس في جميع خلافته إلا السنة الأخيرة منها، وهي سنة اثنتين وسبعين لحصر الحجاج بن يوسف الثقفي له فيها، وحج بالناس سنة ثلاث وستين، فيكون حجه بالناس تسعًا بتقديم التاء.
ومنها: أن عبدالملك بن مروان حج بالناس سنتين.
ومنها: أن الوليد بن عبدالملك حج بالناس سنتين على ما قيل.
ومنها: أن سليمان بن عبدالملك حج بالناس مرة، وكذلك أخوه هشام ابن عبدالملك.
ومنها: أن في سنة تسع وعشرين ومائة وافى بعرفة أبوحمزة الخارجي على غفلة من الناس فخافوا منه فسأله عامل مكة في المسألة، فوقع الاتفاق على أنّهم جميعًا آمنون حتى ينقضي الحج، ثم استولى -بغير قتال- أبوحمزة على مكة بعد الحج، لفرار عاملها عنها.
ومنها: أن أبا جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين حج بالناس أربع سنين، ورام الحج في سنة ثمان وخمسين فما ناله لموته ببئر ميمون ظاهر مكة.
ومنها: أن المهدي بن المنصور العباسي حج بالناس سنة ستين ومائة. وقيل: إنه حج بالناس سنة أربع وستين أيضًا.
﴿ياأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون﴾.
﴿ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا﴾.
﴿ياأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا﴾.
أما بعد: فإن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: ﴿ياأيّها الّذين ءامنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرًا ﴾.
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ياأيّها الّذين ءامنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى واتّقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون ﴾.
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ولا يجرمنّكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتّقوا الله إنّ الله شديد العقاب ﴾.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكّرون ﴾.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ﴾.
أهل السنة أسعد الناس بهؤلاء الآيات وما أشبههن من الأدلة، فهم إن كتبوا كتبوا ما لهم وما عليهم، وإن خطبوا ذكروا ما لهم وما عليهم، يلازمون العدالة مع القريب والبعيد، والعدو والصديق، وإنك إذا نظرت في كتب الجرح والتعديل تجدها غاية من العدالة، يجرحون الرجل إذا كان يستحق الجرح وإن كان رأسًا في السنة، ويثنون على المبتدع بما فيه من الخير إذا احتيج إلى ذلك، بخلاف أهل الأهواء فإنّهم يثنون على من يوافقهم على بدعهم وإن كان لا يساوي فلسًا، ويذمون من خالفهم وإن كان رأسًا في الدين، وأعظم المبتدعين إطراءً لمن وافقهم هم الرافضة والصوفية، وهكذا في الذم لمن خالفهم، فمن ثم لا يقبل أهل الجرح والتعديل كلام هؤلاء في الرجال، بل لا يقبلون رواية الرافضة.
وإليك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ج1 ص59) من ((منهاج السنة)): وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب.
قال أبوحاتم الرازي: سمعت يونس بن عبدالأعلى يقول: قال أشهب بن عبدالعزيز: سئل مالك عن الرافضة؟ فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم، فإنّهم يكذبون.
وقال أبوحاتم: حدثنا حرملة. قال: سمعت الشافعي يقول: لم أر أحدًا أشهد بالزور من الرافضة.
وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية، إلا الرافضة فإنّهم يكذبون.
وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكًا يقول: أحمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة فإنّهم يضعون الحديث ويتخذونه دينًا. وشريك هذا هو شريك بن عبدالله القاضي قاضي الكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة، وهو الذي يقول بلسانه: أنا من الشيعة. وهذه شهادته فيهم.
وقال أبومعاوية: سمعت الأعمش يقول: أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين يعنى أصحاب المغيرة بن سعيد قال الأعمش: ولا عليكم أن تذكروا هذا فإني لا آمنهم أن يقولوا: إنا أصبنا الأعمش مع امرأة.
وهذه آثار ثابتة قد رواها أبوعبدالله بن بطة في ((الإبانة الكبرى)) هو وغيره وروى أبوالقاسم الطبراني: كان الشافعي يقول: ما رأيت في أهل الأهواء قومًا أشهد بالزور من الرافضة. ورواه أيضًا من طريق حرملة، وزاد في ذلك: ما رأيت أشهد على الله بالزور من الرافضة. وهذا المعنى وإن كان صحيحًا فاللفظ الأول هو الثابت عن الشافعي، ولهذا ذكر الشافعي ما ذكره أبوحنيفة وأصحابه أنه رد شهادة من عرف بالكذب كالخطابية.
وردّ شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء، وتنازعوا في شهادة سائر أهل الأهواء هل تقبل مطلقًا أو ترد مطلقًا أو ترد شهادة الداعية إلى البدع؟ وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث، لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته، ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات كالصحاح، والسنن، والمسانيد، الراوية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة، كالخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، وذلك لأنّهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم، ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه، بخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته، ومن هجْره ألاّ يؤخذ عنه العلم، ولا يستشهد.
وكذلك تنازع الفقهاء في الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور، منهم من أطلق المنع، والتحقيق أن الصلاة خلفهم لا ينهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها، لكن لأنّهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يهجروا، وألاّ يقدموا في الصلاة على المسلمين، ومن هذا الباب ترك عيادتهم، وتشييع جنائزهم، كل هذا من باب الهجر المشروع في إنكار المنكر للنهي عنه.
وإذا عرف أن هذا من باب العقوبات الشرعية علم أنه يختلف باختلاف الأحوال من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السنة وخفائها، وأن المشروع هو التأليف تارة، والهجران أخرى، كما كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يتألف أقوامًا من المشركين، ومن هو حديث عهد بالإسلام، ومن يخاف عليه الفتنة، فيعطى المؤلفة قلوبهم ما لا يعطي غيرهم. وقال في الحديث الصحيح: ((إني أعطي رجالاً والذي أدع أحبّ إليّ من الذي أعطي، أعطي رجالاً لما في قلوبهم من الهلع والجزع، وأدع رجالاً لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم: عمرو بن تغلب)). وقال: ((إني لأعطي الرّجل وغيره أحبّ إليّ منه، خشية أن يكبّه الله في النّار على وجهه)). أو كما قال.
وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح، ومن عرف هذا تبين له أن من رد الشهادة والرواية مطلقًا من أهل البدع المتأولين، فقوله ضعيف، فإن السلف قد دخلوا بالتأويل في أنواع عظيمة.
ومن جعل المظهرين للبدعة أئمة في العلم والشهادة لا ينكر عليهم بهجر ولا ردع، فقوله ضعيف أيضًا، وكذلك من صلى خلف المظهر للبدع والفجور من غير إنكار عليه ولا استبدال به من هو خير منه مع القدرة على ذلك، فقوله ضعيف، وهذا يستلزم إقرار المنكر الذي يبغضه الله ورسوله مع القدرة على إنكاره، وهذا لا يجوز.
ومن أوجب الإعادة على كل من صلى خلف ذي فجور وبدعة فقوله ضعيف، فإن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين صلوا خلف هؤلاء وهؤلاء، لما كانوا ولاة عليهم، ولهذا كان من أصول أهل السنة أن الصلاة التي تقيمها ولاة الأمور تصلى خلفهم على أي حالة كانوا، كما يحج معهم، ويغزى معهم، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر الطوائف من أهل القبلة، ومن تأمل كتب الجرح والتعديل المصنفة في أسماء الرواة والنقلة وأحوالهم مثل كتب يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم الرازي، والنسائي، وأبي حاتم بن حبان، وأبي أحمد بن عدي، والدارقطني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي، ويعقوب بن سفيان الفسوي، وأحمد بن صالح العجلي، والعقيلي، ومحمد بن عبدالله بن عمار الموصلي، والحاكم النيسابوري، والحافظ عبدالغني بن سعيد المصري، وأمثال هؤلاء الذين هم جهابذة ونقاد، وأهل معرفة بأحوال الإسناد، رأى المعروف عندهم الكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف، حتى إن أصحاب الصحيح كالبخاري لم يرووا عن أحد من قدماء الشيعة مثل: عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، وعبدالله بن سلمة وأمثالهم، مع أن هؤلاء من خيار الشيعة، وإنما يروون عن أهل البيت كالحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وكاتبه عبيدالله بن أبي رافع أو عن أصحاب ابن مسعود كعبيدة السلماني، والحارث بن قيس، أو عمن يشبه هؤلاء، وهؤلاء أئمة النقل ونقاده من أبعد الناس عن الهوى وأخبرهم بالناس وأقولهم بالحق لا يخافون في الله لومة لائم.اهـ كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
هذا وبما أنّها قد ساءت ظنون المجتمع بالكاتبين والخطباء، بسبب الدعايات الملعونة من الشيوعيين، والبعثيين، والناصريين، والشيعة، فإذا رأوا الرجل يخطب محذّرًا من الرافضة قالوا: هذا مدفوع من قبل البعثيين، فإني أذكر إخواني المسلمين بقول الله عز وجل: ﴿ياأيّها الّذين ءامنوا اجتنبوا كثيرًا من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم ﴾.
وقال الإمام البخاري رحمه الله (ج10 ص484): حدّثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إيّاكم والظّنّ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تحسّسوا، ولا تجسّسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)).
الذي لا يعلم أن أمريكا وروسيا تريدان القضاء على الإسلام والمسلمين فهو مغفل أشبه بالبهائم، فكيف يرجى منهما أن يساعدا الدعاة إلى الله وهم رءوس المسلمين وحماة الإسلام، وقل أن يدخل أعداء الإسلام بلدة إلا ويبدءون بحصاد العلماء والمفكرين الإسلاميين، بل يوعزون إلى الحكومات التي تطيعهم بالقضاء على الدعوات، ويوهمونها أنّها تشكل خطرًا على المجتمع، وكذبوا، فالدعاة إلى الله دعاة إلى الله وليسوا دعاة فتن وإراقة للدماء، وإنما هم دعاة إصلاح يرون عملهم الذي يقومون به أرفع من الكراسي والمناصب، كما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ومن أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنّني من المسلمين ﴾.
ويرون المناصب والمسلمون على هذه الحالة عذابًا على أصحابها، لكثرة الخيانات والطمع والانقلابات، ولا يرون أن أحدًا يشارك الدعاة إلى الله الجامعين بين العلم والعمل في الخير الذي هم فيه إلا من وفّق لمثل ما هم فيه: ﴿يرفع الله الّذين ءامنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات ﴾.
فالعلم عندنا أرفع من الملك والرئاسة، و الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
هذا وأما حكام المسلمين نسأل الله أن يصلحهم فإنّهم في واد والدعاة إلى الله في واد، الحكام يهمهم المحافظة على كراسيهم، والدعاة إلى الله يهمهم إصلاح المجتمع والدفاع عن الإسلام، ويتقربون إلى الله بحماية الدين والذب عن حياضه أن يلوثها أعداء الإسلام، ويسألون الله أن يصلح حكام المسلمين فإنّهم قد ابتلوا بالدعاة إلى الله، وابتلي بهم الدعاة إلى الله، ولا يصلح الجميع إلا التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولا تزول النفرة التي بينهم إلا بالاعتصام بكتاب الله، وتحكيم شرع الله، وفق الله الجميع لذلك.
وإياك إياك أن تظن أني ألفت هذا الكتاب من أجل صدام البعثي الملحد، فمعاذ الله، فحزب البعث كافر، وما كان الدعاة إلى الله ليكونوا آلة يومًا من الدهر لأعداء الله، ولكني ألّفته غضبًا لله وتحذيرًا لإخواني أهل السنة من المزالق، وسيأتي إن شاء الله بيان السبب الذي ألفته من أجله.
والدعاة إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مبتلون بالاتّهامات إذا خالفوا الناس وابتغوا الدليل، وإليك ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله في ((الاعتصام)) متوجعًا من أهل عصره، بسبب مخالفته الناس فيما يراه حقًا. قال رحمه الله (ج1 ص27): وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارةً نسبْت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزي إلي بعض الناس بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارةً نسبْت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص إذ لم يكن ذلك شأن أحد من السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب، وقد سئل (أصبغ) عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. قيل له: فدعاؤه للغزاة والمرابطين؟ قال: ما أرى به بأسًا عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئًا يصمد له في خطبته دائمًا فإني أكره ذلك. ونص أيضًا عزالدين بن عبدالسلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.
وتارة أضاف إلى القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذًا في المذهب الملتزم أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط في كتاب ((الموافقات)).
وتارةً نسبت إلى معاداة أولياء الله وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها وهي الناجية ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. وسيأتي بيان ذلك بحول الله.
وكذبوا عليّ في جميع ذلك أو وهموا و على كل حال، فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبدالرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال: عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقًا أو مخالفًا دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان سماني موافقًا، وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفًا، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب بخلاف ذلك وارد سماني خارجيًّا، وإن قرأت عليه حديثًا في التوحيد سماني مشبّهًا، وإن كان في الرؤية سماني سالميًّا، وإن كان في الإيمان سماني مرجئيًّا، وإن كان في الأعمال سماني قدريًّا، وإن كان في المعرفة سماني كراميًّا، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيًّا، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيًّا، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريًّا، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيًّا، وإن أجبت بتأويل سماني أشعريًّا، وإن جحدتهما سماني معتزليًّا، وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شفعويًّا، وإن كان في القنوت سماني حنفيًّا، وإن كان في القرآن سماني حنبليًّا، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار -إذ ليس في الحكم والحديث محاباة- قالوا: طعن في تزكيتهم.
ثم أعجب من ذلك أنّهم يسمونني فيما يقرءون علي من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئًا، وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم. اهـ
أما السبب الذي حملني على تأليف هذا الكتاب فهو أني لما انتهيت من كتاب ((إرشاد ذوي الفطن لإبعاد غلاة الروافض من اليمن)) أردت أن أستريح من الكتابة يومًا أو يومين، ثم أعود إلى بحثي الذي أنا مستمر فيه وهو ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين )) فأخذت الجزء الأول من ((العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين)) للإمام تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي رحمه الله، فقرأت الباب الثامن والثلاثين في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام، وها أنا أسوق الباب كله لتشاركني فيما أفزعني وحملني على تأليف هذا الكتاب.
قال رحمه الله (ج1 ص183):
الباب الثامن والثلاثون:
في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام
لا ريب في كثرة الأخبار في هذا المعنى وأكثر ذلك خفي علينا لعدم العناية بتدوينه في كل وقت، وقد سبق مما علمناه أمور كثيرة في مواضع من هذا الكتاب، ويأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك بعد هذا الباب.
والمقصود ذكره في هذا الباب: أخبار تتعلق بالحجاج لها تعلق بمكة، أو باديتها، وحج جماعة من الخلفاء والملوك في حال ولايتهم ومن خطب له بمكة من الملوك وغيرهم في خلافة بني العباس وما جرى بسبب الخطبة بمكة بين ملوك مصر والعراق، وما أسقط من المكوسات المتعلقة بمكة.
فمن الأخبار المقصود ذكرها هنا: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حج بالناس سنة اثنتي عشرة من الهجرة.
ومنها: أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حج بالناس في جميع خلافته إلا السنة الأولى منها.
ومنها: أن ذا النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه حج بالناس في جميع خلافته إلا في السنة الأولى والأخيرة.
ومنها: أن في سنة أربعين من الهجرة، وقف الناس بعرفة في اليوم الثامن من ذي الحجة وضحوا في اليوم التاسع، وليس كل إنسان اتفق له ذلك، والذين اتفق لهم ذلك طائفة كانوا مع المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
ومنها: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما حج بالناس سنتين.
ومنها: أن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما حج بالناس في جميع خلافته إلا السنة الأخيرة منها، وهي سنة اثنتين وسبعين لحصر الحجاج بن يوسف الثقفي له فيها، وحج بالناس سنة ثلاث وستين، فيكون حجه بالناس تسعًا بتقديم التاء.
ومنها: أن عبدالملك بن مروان حج بالناس سنتين.
ومنها: أن الوليد بن عبدالملك حج بالناس سنتين على ما قيل.
ومنها: أن سليمان بن عبدالملك حج بالناس مرة، وكذلك أخوه هشام ابن عبدالملك.
ومنها: أن في سنة تسع وعشرين ومائة وافى بعرفة أبوحمزة الخارجي على غفلة من الناس فخافوا منه فسأله عامل مكة في المسألة، فوقع الاتفاق على أنّهم جميعًا آمنون حتى ينقضي الحج، ثم استولى -بغير قتال- أبوحمزة على مكة بعد الحج، لفرار عاملها عنها.
ومنها: أن أبا جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين حج بالناس أربع سنين، ورام الحج في سنة ثمان وخمسين فما ناله لموته ببئر ميمون ظاهر مكة.
ومنها: أن المهدي بن المنصور العباسي حج بالناس سنة ستين ومائة. وقيل: إنه حج بالناس سنة أربع وستين أيضًا.