وهي مسائل الحكم بغير ما أنزل الله، والديمقراطية، والموالاة والمعاداة،
ليست هي من مسائل الفروع التي يسوغ فيها الاختلاف الفقهي، بل إنها من أصول
الإيمان، بل إنها متعلقة بأصل أصول الإيمان وهو عقيدة التوحيد.
أما الحكم: فإما أن نحكم بما أنزل الله، فيُصَدِّق فعلُنا قولَنا "لا إله
إلا الله"، وإما أن يُحكم بغير ما أنزل الله، فتكون قد اتخذت آلهة أخرى من
دون الله، إذ الحكم لله وحده، قال تعالى: {إن الحكم إلا لله}، وقال تعالى:
{ولا يشرك في حكمه أحدا}.
وأما الديمقراطية: فإما أن يكون التشريع لله وحده وإليه سبحانه الرد عند
التنازع، فيصدِّق فعلنا قولنا "لا إله إلا الله"، وإما أن يعطي حق التشريع
لغير الله للشعب ونوابه ويكون إليهم الرد عند التنازع، وهذا اتخاذ للآلهة
والأنداد والشركاء من دون الله، قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من
الدين ما لم يأذن به الله}.
وأما الموالاة: فلا تجتمع موالاة أعداء الله الكافرين ومحبتهم والثناء
عليهم ومدح مذاهبهم الكفرية كالدستور والقانون والديمقراطية، لا يجتمع هذا
مع الإيمان أبدا، قال تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا، لبئس ما
قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا
يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم
فاسقون}.
ثانيا:
إن جماعة الإخوان المسلمين من الناحية الشرعية - باستثناء الاستاذ سيد قطب
رحمه الله وقلة ممن لا يمثلون الرأي الرسمي في الجماعة - حرصت على ألا
يكون لها موقف واضح من تكفير الطاغوت، بل أغلقت باب النقاش في هذا الأمر
بتبنِّها مبدأ "دعاة لا قضاة"، الذي أعلنه المرشد الثاني حسن الهضيبي.
ثالثا:
لم تكتف جماعة الإخوان بعدم تكفير الحكام بغير ما أنزل الله، بل تجاوزت
هذا إلى الاعتراف - بأقوالها وأفعالها - بشرعية هؤلاء الحكام وتركت هذا
الفهم يستشري في صفوفها، بل واعترفت الجماعة بشرعية المؤسسات الدستورية
العلمانية - البرلمان والانتخابات والديمقراطية - وكان هذا من أكبر
العوامل المساعدة للطواغيت على وصم الجماعات الجهادية بالخروج على
الشرعية، شرعية الكفر.
رابعا:
إن جماعة الإخوان مدت جسور التفاهم مع معظم الأنظمة الحاكمة التي تعيش تحت
سلطانها أفرع الجماعة، وشاركت في الحكم أحيانا، وكان تفاهم الجماعة مع
الحكومات الكافرة عادة في صورة صفقة، نصفها الأول سماح الحكام للإخوان
بشيء من الحرية والانتشار، ونصفها الثاني اعتراف الجماعة بشرعية النظام
الحاكم مع مساعدة الجماعة للنظام في ضرب تيار معارض قوي.
ومن الأمثلة التي ذكرناها:
استخدام الملك فاروق للجماعة في ضرب "حزب الوفد" أو في موازنة ثقله
الجماهيري، كما عرض حسن البنا - قبيل اغتياله - على الملك مساعدته في
محاربة الشيوعية، فالبنا كان مدركا للعبة.
استخدام جمال عبد الناصر للجماعة في صنع شعبية الثورة، حيث استثناها من
قانون إلغاء الأحزاب، حتى تمكن عبد الناصر من صنع شعبية خاصة به فضرب
الإخوان.
استخدام السادات للجماعة في ضرب التيار الشيوعي والناصري باتفاق صريح.
استخدام حسني مبارك للجماعة في ضرب التيار المتطرف - الجماعات الجهـادية -
ولم يستح مأمون الهضيبي من الجهر بهذا فقال: (إن وجود الجماعة يمثل مصلحة
للحكومة لأنها تلجأ إلينا كثيراً لضبط التيار الديني المتطرف) [430].
وقد أقمنا الأدلة المبسوطة على كل هذا في فصول الباب الثاني من هذا الكتاب.
خامسا:
حتى الأنظمة التي فشلت جماعة الإخوان في التفاهم معها، فقد بحثت عن البديل
في الأنظمة المعادية لها، بما يعني حاجة الجماعة الدائمة لحليف قوي ولو
كافر لتتمكن من البقاء إذ هكذا نمت.
ومثال ذلك:
لجوئهم للتفاهم مع النظام السعودي المعادي لعبد الناصر عندما ساءت علاقتهم
به، ورحب الملك فيصل بهذا، إذ كان يرفع راية إسلامية ليعارض حركة القومية
العربية التي تزعمها عبد الناصر والتي كانت تهدد عروش ومشيخات الخليج في
الستينيات.
ومثال آخر: لجوئهم للتفاهم مع النظام العراقي البعثي عندما ساءت علاقتهم
مع نظام البعث السوري، قبيل أحداث حماة 1982 وما بعدها، وأصبحت العراق
مأوى لكثير من الإخوان السوريين وعلى رأسهم عدنان سعد الدين وسعيد حوي،
وفيها عقد الإخوان تحالفا مع بقية فصائل المعارضة السورية من بعثيين
وناصريين وقوميين، وأخيرا انضم لتحالفهم رفعت الأسد جزار الإخوان السابق،
ويهدف التحالف لاسقاط نظام حافظ الأسد وإقامة دولة علمانية ديمقراطية،
فتأمل التدهور والانهيار.
سادسا:
تورط الإخوان منذ مطلع الأربعينيات في الصراعات الحزبية المصرية، وغيَّروا
جلدهم عدة مرات، وكانوا يصالحون حزبا اليوم ويصارعونه ويسبّونه غداً، كما
فعلوا ذلك مع "الوفد" والنقراشي، وهذا كله مخالف لما أعلنه حسن البنا من
أن من خصائص دعوة الإخوان "البعد عن هيمنة الأعيان والكبراء، والبعد عن
الأحزاب والهيئات" [431].
وقد أدى تورط الجماعة في الصراعات الحزبية إلى انشقاق بعض فصائلها تحت اسم "جماعة شباب سيدنا محمد" صلى الله عليه وسلم.
سابعا:
إن جماعة الإخوان بكل أفرعها رضيت بالاحتكام إلى الديمقراطية وسيادة الشعب
والانتخابات كطريق للتغيير والوصول إلى الحكم، حتى قال حسن البنا؛ إن
مؤاخذاتهم على الدستور يمكن تغييرها بالطرق التي وصفها الدستور نفسه، أي
بالأسلوب الديمقراطي، وينطبق ما قلنا على إخوان الكويت والأردن واليمن
والسودان والجزائر وتونس كما ينطبق على إخوان مصر.
ثامنا:
إن جماعة الإخوان قبلت نبذ العنف - وهو الإسم الذي أطلقه الطواغيت على
الجهاد في سبيل الله - وتبرأت ممن يتبنون العنف ولو من أتباعها.
تاسعا:
إن جميع القيادات الإخوانية الآن تعتنق هذه الأفكار؛ الشرعية الدستورية،
والديمقراطية، وتأييد الحكام، ونبذ العنف، ولا يرتفع إلى مستويات القيادة
بالجماعة أي مخالف، مما جعل الهيكل كله مصبوغا بهذه الصبغة.
عاشراً:
إن جميع المخالفات الشرعية التي سقط فيها الإخوان قد سبقهم إليها حسن
البنا سواء في ذلك مداهنة الحكام ومدحهم بغير الحق، ووصفهم بالشرعية،
والاعتراف بالشرعية الدستورية ووجوب التزام الدستور، واتباع الأساليب
الديمقراطية ودخول الانتخابات البرلمانية فقد شارك فيها البنا شخصيا
مرتين، والانتهازية السياسية بالدخول في الصراعات الحزبية، مع التبرؤ من
العنف، كل هذه الموبقات سبق إليها حسن البنا، ونقول هذا للذين يَّدعون إن
الإخوان المعاصرين خرجوا عن خط حسن البنا ومنهجه، هذا غير صحيح، وما
ذكرناه في كتابنا هذا من وقائع يدل - دون أدنى شك - على سبق البنا إلى
ارتكاب جميع هذه المخالفات.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه
وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) [الحديث
رواه مسلم].
فهل يكون تجديد الدين هكذا? وهل يكون مجدد القرن الرابع عشر الهجري بهذه الصفات والأعمال؟
وقد حاول الاستاذ محمد قطب - في كتابه "واقعنا المعاصر" - أن يبرئ حسن
البنا من انحرافات الإخوان، فلم يكن محمد قطب منصفا في هذا، حتى إنه عندما
انتقد الديمقراطية بشدة وانتقد مشاركة الإخوان فيها، ووصفهم بالشيوخ الذين
أجهدهم المشوار الطويل، لم يشر أي إشارة إلى أن حسن البنا سبق هؤلاء
الشيوخ في دخول الانتخابات وغيرها من الموبقات - كما ذكرنا أعلاه - قال
تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين} [432].
حادي عشر:
إن هذا المنهج الإخواني غير المستقيم لم يلق معارضة كثيرة من بين الإخوان
أنفسهم، باستثناء أفراد معدودين كالاستاذ سيد قطب رحمه الله وأخته السيدة
أمينة قطب في قصيدتها المذكورة في صدر هذا الكتاب، أما الإخوان الذين
انشقوا على الجماعة معترضين على منهجها أو تصرفات مرشديها فلم يكونوا أهدى
سبيلا من الجماعة الأم وسقطوا في نفس مخالفاتها أو أشد منها، كانشقاق
جماعة "شباب سيدنا محمد" صلى الله عليه وسلم، وكانشقاق محمد الغزالي،
وكانشقاق جماعة شكري مصطفى - المسماة بالتكفير والهجرة -
ثاني عشر:
بدا من هذا الكتاب أن السوس قد بدأ ينخر في جسد الجماعة وسلوكها مبكرا مع مطلع الأربعينيات.
ويمكن إرجاع هذا إلى أسباب منها:
غياب المنهج، أو قل؛ فساد المنهج مع اتباع سياسة التبريرات الشرعية للانحرافات.
غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة الطاعة العمياء والثقة المطلقة في القيادة.
الفقر العام والمزمن في العلوم الشرعية، خاصة المتعلقة بالتوحيد والعقيدة
لدي معظم أفراد الجماعة، وقد وجدنا أن من يدرس هذه العلوم خاصة من أفراد
الجماعة غالبا ما يتركها.
وقد ابتليت الجماعة في هذه الحقبة ببلاء عظيم أمات الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر بين صفوفها، هذا البلاء هو الرخاء المادي الذي تنعم به الجماعة
الآن بسبب علاقاتها التي أنشأتها في دول الخليج، بعد هروب كثير من أعضائها
في فترة القهر الناصري، حتى أمسكت الجماعة بزمام كثير من منظمات الدعوة
والإغاثة بالسعودية والخليج، وأصبحت الجماعة تمتلك الشركات والبنوك
الإقليمية والدولية، فأصبح التحاق الشباب بجماعة الإخوان الآن من الوسائل
المضمونة للإرتزاق والعيش، فكيف يعلو صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مع هذه الفتنة؟ قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}.
ثالث عشر:
إن بعض الأعمال التي يقدمها الإخوان للشباب اليوم على أنها من مآثرهم،
كالقتال في فلسطين عام 1948، وفي القناة عام 1951، لكي تثبت الجماعة
للشباب أنها جماعة مجاهدة وأن ممارستها للسياسة الجاهلية اليوم إنما هي
للمصلحة وتكتيك مؤقت.
هذه الأعمال التي تفتخر بها الجماعة وتخدع بها الشباب، لنا عليها ملاحظات:
أ) لم تكن جماعة الإخوان وحدها هي المشاركة في فلسطين والقناة، بل شارك كثير من الأحزاب والجماعات والأفراد بالتطوع في هذه المعارك.
ب) لأن القتال في فلسطين والقناة كان متفقا مع السياسة الرسمية للدولة، بل
بتشجيع من الدولة، ففي فلسطين قاتل الإخوان تحت إمرة الجيش المصري وهذا
بدوره كان يعمل تحت إمرة "جلوب باشا" الانجليزي - قائد الجيش الأردني
وقائد عام الجيوش العربية -
أما في القناة فقد اعترض المرشد العام حسن الهضيبي على مشاركة الجماعة في
محاربة الانجليز بشدة - كما هو مثبت في موضعه من هذا الكتاب -
ومعنى أن قتال الجماعة في فلسطين كان متفقاً مع سياسة الدولة؛ أن جماعة
الإخوان لم تقدم على عمل - حتى الجهاد - إلا ما كان متفقا مع سياسة
الحكومة، وأنها لم تقدم على عمل يتعارض مع سياسة الحكومة، فضلا عن أن تقدم
على عمل موجه ضد الحكومة، وليس أدل على إقرار الإخوان قيادتهم وأفرادهم
بشرعية الحكومة المصرية من قصة الضابط محمود عبده - المذكورة في آخر الفصل
الثاني من الباب الثاني، فراجعها -
ج) ويؤيد ما ذكرناه في (ب) أن اليهود ما زالوا موجودين بفلسطين ومنذ عام
1948، ولم يُقْدم الإخوان على إزعاجهم يوماً ما طيلة ما يزيد على أربعين
عاما، طالما أن الحكومة لم تسمح.
د) إن القتال وغيره من أعمال البر، بل الأعمال التي هي نصرة للدين، ليست
بمجردها علامة التقوي ودليل الصلاح، فهذه الأعمال كما يقوم بها الصالحون
يمكن أن يقوم بها الفجار الفاسدون.
ودليله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليويد هذا الدين بالرجل الفاجر) [الحديث متفق عليه].
فلا يجب اعتبار مشاركة الإخوان بالقتال في فلسطين بمجردها دليلا على صلاح
الجماعة أو تقواها، حتى ينظر في منهاجها وسلوكها وبقية أعمالها، وقد
قدَّمنا لك في هذا الكتاب بعض الأدلة على فساد منهج الجماعة في أهم قضايا
المسلمين المعاصرة.
ومع ذلك نقول؛ إن من قاتل منهم في فلسطين أو القناة بنية أن تكون كلمة
الله هي العليا فهو مأجور إن شاء الله تعالى، ولا يضره فساد الجماعة،
فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
هـ) إننا نرى أن قتال الحكام المرتدين الحاكمين لبلاد المسلمين مقدم على
قتال غيرهم، لأنهم مرتدون وقتال المرتد مقدم على قتال الكافر الأصلي
إجماعا، ولأنهم الأقرب إلى المسلمين، وقال تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من
الكفار}.
فردتهم وقربهم إلى المسلمين يجعلهم أعظم خطراً وضرراً على المسلمين،
والواقع يؤيد هذا، ونحن نرى أن إسرائيل لم تكن لتأخذ فلسطين ولم تكن لتبقي
فيها هذه المدة لولا خيانة الحكام المرتدين وتواطؤهم، ولا تغرك الحروب
العربية الإسرائيلية فإنها كلها حروب مسرحية مليئة بالخيانات، ونحن نرى
وجوب البدء بقتال الحكام المرتدين كما أمر الله تعالى، وقال تعالى:
{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}، وقد
عاد الإخوان من فلسطين إلى السجون.(خاتمة كتاب لايمن الظواهرى )
ليست هي من مسائل الفروع التي يسوغ فيها الاختلاف الفقهي، بل إنها من أصول
الإيمان، بل إنها متعلقة بأصل أصول الإيمان وهو عقيدة التوحيد.
أما الحكم: فإما أن نحكم بما أنزل الله، فيُصَدِّق فعلُنا قولَنا "لا إله
إلا الله"، وإما أن يُحكم بغير ما أنزل الله، فتكون قد اتخذت آلهة أخرى من
دون الله، إذ الحكم لله وحده، قال تعالى: {إن الحكم إلا لله}، وقال تعالى:
{ولا يشرك في حكمه أحدا}.
وأما الديمقراطية: فإما أن يكون التشريع لله وحده وإليه سبحانه الرد عند
التنازع، فيصدِّق فعلنا قولنا "لا إله إلا الله"، وإما أن يعطي حق التشريع
لغير الله للشعب ونوابه ويكون إليهم الرد عند التنازع، وهذا اتخاذ للآلهة
والأنداد والشركاء من دون الله، قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من
الدين ما لم يأذن به الله}.
وأما الموالاة: فلا تجتمع موالاة أعداء الله الكافرين ومحبتهم والثناء
عليهم ومدح مذاهبهم الكفرية كالدستور والقانون والديمقراطية، لا يجتمع هذا
مع الإيمان أبدا، قال تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا، لبئس ما
قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا
يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم
فاسقون}.
ثانيا:
إن جماعة الإخوان المسلمين من الناحية الشرعية - باستثناء الاستاذ سيد قطب
رحمه الله وقلة ممن لا يمثلون الرأي الرسمي في الجماعة - حرصت على ألا
يكون لها موقف واضح من تكفير الطاغوت، بل أغلقت باب النقاش في هذا الأمر
بتبنِّها مبدأ "دعاة لا قضاة"، الذي أعلنه المرشد الثاني حسن الهضيبي.
ثالثا:
لم تكتف جماعة الإخوان بعدم تكفير الحكام بغير ما أنزل الله، بل تجاوزت
هذا إلى الاعتراف - بأقوالها وأفعالها - بشرعية هؤلاء الحكام وتركت هذا
الفهم يستشري في صفوفها، بل واعترفت الجماعة بشرعية المؤسسات الدستورية
العلمانية - البرلمان والانتخابات والديمقراطية - وكان هذا من أكبر
العوامل المساعدة للطواغيت على وصم الجماعات الجهادية بالخروج على
الشرعية، شرعية الكفر.
رابعا:
إن جماعة الإخوان مدت جسور التفاهم مع معظم الأنظمة الحاكمة التي تعيش تحت
سلطانها أفرع الجماعة، وشاركت في الحكم أحيانا، وكان تفاهم الجماعة مع
الحكومات الكافرة عادة في صورة صفقة، نصفها الأول سماح الحكام للإخوان
بشيء من الحرية والانتشار، ونصفها الثاني اعتراف الجماعة بشرعية النظام
الحاكم مع مساعدة الجماعة للنظام في ضرب تيار معارض قوي.
ومن الأمثلة التي ذكرناها:
استخدام الملك فاروق للجماعة في ضرب "حزب الوفد" أو في موازنة ثقله
الجماهيري، كما عرض حسن البنا - قبيل اغتياله - على الملك مساعدته في
محاربة الشيوعية، فالبنا كان مدركا للعبة.
استخدام جمال عبد الناصر للجماعة في صنع شعبية الثورة، حيث استثناها من
قانون إلغاء الأحزاب، حتى تمكن عبد الناصر من صنع شعبية خاصة به فضرب
الإخوان.
استخدام السادات للجماعة في ضرب التيار الشيوعي والناصري باتفاق صريح.
استخدام حسني مبارك للجماعة في ضرب التيار المتطرف - الجماعات الجهـادية -
ولم يستح مأمون الهضيبي من الجهر بهذا فقال: (إن وجود الجماعة يمثل مصلحة
للحكومة لأنها تلجأ إلينا كثيراً لضبط التيار الديني المتطرف) [430].
وقد أقمنا الأدلة المبسوطة على كل هذا في فصول الباب الثاني من هذا الكتاب.
خامسا:
حتى الأنظمة التي فشلت جماعة الإخوان في التفاهم معها، فقد بحثت عن البديل
في الأنظمة المعادية لها، بما يعني حاجة الجماعة الدائمة لحليف قوي ولو
كافر لتتمكن من البقاء إذ هكذا نمت.
ومثال ذلك:
لجوئهم للتفاهم مع النظام السعودي المعادي لعبد الناصر عندما ساءت علاقتهم
به، ورحب الملك فيصل بهذا، إذ كان يرفع راية إسلامية ليعارض حركة القومية
العربية التي تزعمها عبد الناصر والتي كانت تهدد عروش ومشيخات الخليج في
الستينيات.
ومثال آخر: لجوئهم للتفاهم مع النظام العراقي البعثي عندما ساءت علاقتهم
مع نظام البعث السوري، قبيل أحداث حماة 1982 وما بعدها، وأصبحت العراق
مأوى لكثير من الإخوان السوريين وعلى رأسهم عدنان سعد الدين وسعيد حوي،
وفيها عقد الإخوان تحالفا مع بقية فصائل المعارضة السورية من بعثيين
وناصريين وقوميين، وأخيرا انضم لتحالفهم رفعت الأسد جزار الإخوان السابق،
ويهدف التحالف لاسقاط نظام حافظ الأسد وإقامة دولة علمانية ديمقراطية،
فتأمل التدهور والانهيار.
سادسا:
تورط الإخوان منذ مطلع الأربعينيات في الصراعات الحزبية المصرية، وغيَّروا
جلدهم عدة مرات، وكانوا يصالحون حزبا اليوم ويصارعونه ويسبّونه غداً، كما
فعلوا ذلك مع "الوفد" والنقراشي، وهذا كله مخالف لما أعلنه حسن البنا من
أن من خصائص دعوة الإخوان "البعد عن هيمنة الأعيان والكبراء، والبعد عن
الأحزاب والهيئات" [431].
وقد أدى تورط الجماعة في الصراعات الحزبية إلى انشقاق بعض فصائلها تحت اسم "جماعة شباب سيدنا محمد" صلى الله عليه وسلم.
سابعا:
إن جماعة الإخوان بكل أفرعها رضيت بالاحتكام إلى الديمقراطية وسيادة الشعب
والانتخابات كطريق للتغيير والوصول إلى الحكم، حتى قال حسن البنا؛ إن
مؤاخذاتهم على الدستور يمكن تغييرها بالطرق التي وصفها الدستور نفسه، أي
بالأسلوب الديمقراطي، وينطبق ما قلنا على إخوان الكويت والأردن واليمن
والسودان والجزائر وتونس كما ينطبق على إخوان مصر.
ثامنا:
إن جماعة الإخوان قبلت نبذ العنف - وهو الإسم الذي أطلقه الطواغيت على
الجهاد في سبيل الله - وتبرأت ممن يتبنون العنف ولو من أتباعها.
تاسعا:
إن جميع القيادات الإخوانية الآن تعتنق هذه الأفكار؛ الشرعية الدستورية،
والديمقراطية، وتأييد الحكام، ونبذ العنف، ولا يرتفع إلى مستويات القيادة
بالجماعة أي مخالف، مما جعل الهيكل كله مصبوغا بهذه الصبغة.
عاشراً:
إن جميع المخالفات الشرعية التي سقط فيها الإخوان قد سبقهم إليها حسن
البنا سواء في ذلك مداهنة الحكام ومدحهم بغير الحق، ووصفهم بالشرعية،
والاعتراف بالشرعية الدستورية ووجوب التزام الدستور، واتباع الأساليب
الديمقراطية ودخول الانتخابات البرلمانية فقد شارك فيها البنا شخصيا
مرتين، والانتهازية السياسية بالدخول في الصراعات الحزبية، مع التبرؤ من
العنف، كل هذه الموبقات سبق إليها حسن البنا، ونقول هذا للذين يَّدعون إن
الإخوان المعاصرين خرجوا عن خط حسن البنا ومنهجه، هذا غير صحيح، وما
ذكرناه في كتابنا هذا من وقائع يدل - دون أدنى شك - على سبق البنا إلى
ارتكاب جميع هذه المخالفات.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه
وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) [الحديث
رواه مسلم].
فهل يكون تجديد الدين هكذا? وهل يكون مجدد القرن الرابع عشر الهجري بهذه الصفات والأعمال؟
وقد حاول الاستاذ محمد قطب - في كتابه "واقعنا المعاصر" - أن يبرئ حسن
البنا من انحرافات الإخوان، فلم يكن محمد قطب منصفا في هذا، حتى إنه عندما
انتقد الديمقراطية بشدة وانتقد مشاركة الإخوان فيها، ووصفهم بالشيوخ الذين
أجهدهم المشوار الطويل، لم يشر أي إشارة إلى أن حسن البنا سبق هؤلاء
الشيوخ في دخول الانتخابات وغيرها من الموبقات - كما ذكرنا أعلاه - قال
تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين} [432].
حادي عشر:
إن هذا المنهج الإخواني غير المستقيم لم يلق معارضة كثيرة من بين الإخوان
أنفسهم، باستثناء أفراد معدودين كالاستاذ سيد قطب رحمه الله وأخته السيدة
أمينة قطب في قصيدتها المذكورة في صدر هذا الكتاب، أما الإخوان الذين
انشقوا على الجماعة معترضين على منهجها أو تصرفات مرشديها فلم يكونوا أهدى
سبيلا من الجماعة الأم وسقطوا في نفس مخالفاتها أو أشد منها، كانشقاق
جماعة "شباب سيدنا محمد" صلى الله عليه وسلم، وكانشقاق محمد الغزالي،
وكانشقاق جماعة شكري مصطفى - المسماة بالتكفير والهجرة -
ثاني عشر:
بدا من هذا الكتاب أن السوس قد بدأ ينخر في جسد الجماعة وسلوكها مبكرا مع مطلع الأربعينيات.
ويمكن إرجاع هذا إلى أسباب منها:
غياب المنهج، أو قل؛ فساد المنهج مع اتباع سياسة التبريرات الشرعية للانحرافات.
غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة الطاعة العمياء والثقة المطلقة في القيادة.
الفقر العام والمزمن في العلوم الشرعية، خاصة المتعلقة بالتوحيد والعقيدة
لدي معظم أفراد الجماعة، وقد وجدنا أن من يدرس هذه العلوم خاصة من أفراد
الجماعة غالبا ما يتركها.
وقد ابتليت الجماعة في هذه الحقبة ببلاء عظيم أمات الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر بين صفوفها، هذا البلاء هو الرخاء المادي الذي تنعم به الجماعة
الآن بسبب علاقاتها التي أنشأتها في دول الخليج، بعد هروب كثير من أعضائها
في فترة القهر الناصري، حتى أمسكت الجماعة بزمام كثير من منظمات الدعوة
والإغاثة بالسعودية والخليج، وأصبحت الجماعة تمتلك الشركات والبنوك
الإقليمية والدولية، فأصبح التحاق الشباب بجماعة الإخوان الآن من الوسائل
المضمونة للإرتزاق والعيش، فكيف يعلو صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مع هذه الفتنة؟ قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}.
ثالث عشر:
إن بعض الأعمال التي يقدمها الإخوان للشباب اليوم على أنها من مآثرهم،
كالقتال في فلسطين عام 1948، وفي القناة عام 1951، لكي تثبت الجماعة
للشباب أنها جماعة مجاهدة وأن ممارستها للسياسة الجاهلية اليوم إنما هي
للمصلحة وتكتيك مؤقت.
هذه الأعمال التي تفتخر بها الجماعة وتخدع بها الشباب، لنا عليها ملاحظات:
أ) لم تكن جماعة الإخوان وحدها هي المشاركة في فلسطين والقناة، بل شارك كثير من الأحزاب والجماعات والأفراد بالتطوع في هذه المعارك.
ب) لأن القتال في فلسطين والقناة كان متفقا مع السياسة الرسمية للدولة، بل
بتشجيع من الدولة، ففي فلسطين قاتل الإخوان تحت إمرة الجيش المصري وهذا
بدوره كان يعمل تحت إمرة "جلوب باشا" الانجليزي - قائد الجيش الأردني
وقائد عام الجيوش العربية -
أما في القناة فقد اعترض المرشد العام حسن الهضيبي على مشاركة الجماعة في
محاربة الانجليز بشدة - كما هو مثبت في موضعه من هذا الكتاب -
ومعنى أن قتال الجماعة في فلسطين كان متفقاً مع سياسة الدولة؛ أن جماعة
الإخوان لم تقدم على عمل - حتى الجهاد - إلا ما كان متفقا مع سياسة
الحكومة، وأنها لم تقدم على عمل يتعارض مع سياسة الحكومة، فضلا عن أن تقدم
على عمل موجه ضد الحكومة، وليس أدل على إقرار الإخوان قيادتهم وأفرادهم
بشرعية الحكومة المصرية من قصة الضابط محمود عبده - المذكورة في آخر الفصل
الثاني من الباب الثاني، فراجعها -
ج) ويؤيد ما ذكرناه في (ب) أن اليهود ما زالوا موجودين بفلسطين ومنذ عام
1948، ولم يُقْدم الإخوان على إزعاجهم يوماً ما طيلة ما يزيد على أربعين
عاما، طالما أن الحكومة لم تسمح.
د) إن القتال وغيره من أعمال البر، بل الأعمال التي هي نصرة للدين، ليست
بمجردها علامة التقوي ودليل الصلاح، فهذه الأعمال كما يقوم بها الصالحون
يمكن أن يقوم بها الفجار الفاسدون.
ودليله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليويد هذا الدين بالرجل الفاجر) [الحديث متفق عليه].
فلا يجب اعتبار مشاركة الإخوان بالقتال في فلسطين بمجردها دليلا على صلاح
الجماعة أو تقواها، حتى ينظر في منهاجها وسلوكها وبقية أعمالها، وقد
قدَّمنا لك في هذا الكتاب بعض الأدلة على فساد منهج الجماعة في أهم قضايا
المسلمين المعاصرة.
ومع ذلك نقول؛ إن من قاتل منهم في فلسطين أو القناة بنية أن تكون كلمة
الله هي العليا فهو مأجور إن شاء الله تعالى، ولا يضره فساد الجماعة،
فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
هـ) إننا نرى أن قتال الحكام المرتدين الحاكمين لبلاد المسلمين مقدم على
قتال غيرهم، لأنهم مرتدون وقتال المرتد مقدم على قتال الكافر الأصلي
إجماعا، ولأنهم الأقرب إلى المسلمين، وقال تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من
الكفار}.
فردتهم وقربهم إلى المسلمين يجعلهم أعظم خطراً وضرراً على المسلمين،
والواقع يؤيد هذا، ونحن نرى أن إسرائيل لم تكن لتأخذ فلسطين ولم تكن لتبقي
فيها هذه المدة لولا خيانة الحكام المرتدين وتواطؤهم، ولا تغرك الحروب
العربية الإسرائيلية فإنها كلها حروب مسرحية مليئة بالخيانات، ونحن نرى
وجوب البدء بقتال الحكام المرتدين كما أمر الله تعالى، وقال تعالى:
{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}، وقد
عاد الإخوان من فلسطين إلى السجون.(خاتمة كتاب لايمن الظواهرى )