ربما لا يوجد ظرف يتطلب الحديث عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ورحيله "الأسطورى"، فى (28 سبتمبر 1970) كما هى الظروف المحيطة هذه الأيام. على المستوى الشخصى لست من "دراويش" ناصر؛ "الأب" المخلوع من الدنيا إلى الآخرة مباشرة دون المرور بمستشفى شرم الشيخ، أو المركز الطبى العالمى. هذا الحب لا يعنيه فى شىء ولا يهتم به أو يلتفت إليه. بل ربما استعلى عليه؛ فقد صار مرحلة نختلف عليها أو نتفق. أما أن ينال غيره إجماعا- إلا من قلة "آسفين" "المندسة"-، ويرى بعينه مذلة، ورفعا لاسمه من المدارس والمكتبات والجوائز التى "احتلها" فهذا مريع، لمن كان له قلب.
فورة الرثاء التى أحاطت بالزعيم "جمال عبد الناصر"، والتى أخذت وقتا طويلا حتى هدأت، ولا يزال التأريخ الأدبى يتوقف أمامها بعد أكثر من نصف قرن من إنتاجها تجعلك تدرك الفارق بين أن تكون تجسيدا لحلم طال انتظاره، فتظل تحبه طالما أنت إنسان طبيعى لا تكره أحلامك، وبين أن يكون رحيلك هو "الحلم". فى الحالين لا تكره حلمك حتى ولو تحقق بصورة مشوهة. فرق كبير بين أن يتعلق الناس بأهداب رحيلك وتصر على أن تراك عائدا تحقق لهم– ضمن ما حققت– أمنيات العودة المستحيلة، وبين طلب المغادرة والسقوط؛ لأن "إيدى وجعتنى" أو "مراتى وحشتنى" وغيرها من أسباب بسيطة وكوميدية (لا يعنى ذلك إلا السوداء منها) ولكن الطلب غال؛ لأنك رخيص. فرق بين هذا وبين أن تنام الناس أياما على رصيف البرد حتى من كانوا يعيشون يوما بيوم فانقطعت "يوميتهم"، وبين من يتدفأ بسنا طلعتك؛ فلفتة العنق لديك لفتة السيف الشجاع، مع الاعتذار لنزار قبانى. كانت الفاجعة كبيرة، والكل ثكالى وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، فسال الشعر قصائد تتحدث عن الرحيل المؤثر، رحيل الجسد الذى كان يملأ الوجدان وإن احتفظ اللاوعى بصورته متكسرا مهدما يقرأ بيان التنحى.
رأى بعضهم فى مساواة النقد القديم بين المدح والرثاء وكون الأول للحى والثانى للميت نوعا من ضيق النظرة. بفعل ما نعيشه الآن أراه "تصاديا" بين النوعين؛ فربما لا يرثى الناس، والشعراء منهم، إلا من يستحق الرثاء، والأيام بيننا.
نقف الآن سريعا أمام عينة بسيطة من قصائد رثاء عبد الناصر؛ أعنى قصائد أحمد عبد المعطى حجازى ونزار قبانى وأمل دنقل وحسن طلب، والأولان كانت لهما علاقة مرتبكة ومربكة مع الرئيس ونحن لا نرى تناقضا بين تذكر الشاعر لتعذيبه فى سجن عبد الناصر نهارا ثم يجىء الليل فيكتب قصيدة فى حبه؛ أنه يحب المعذب والممدوح فى الوقت ذاته. وكما تقول رجاء بن سلامة فالرجل إذا شغل الناس انفصلت صورته عنه وأصبح ملكا للآخرين. إنه يصبح رمزا يجسد فكرة، أو أفكارا قد تكون متضاربة ويصبح نصبا تسقط عليه المجموعة أحلامها ومخاوفها.
عند نزار قبانى، يحتل الرثاء مكانة كبيرة فى منطوق الخطاب عنده، وبعيدا عن رثاء ابنه وزوجته"بلقيس"، فقد كان تعامله مع القضايا القومية مرتبطا بنبرة الرثاء فتراه يقول بعد هزيمة 1967:
أنعى لكم يا أصدقائى اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعى لكم :
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمة
أنعى لكم..
أنعى لكم..
نهاية الفكر الذى قاد إلى الهزيمة ( هوامش على دفتر النكسة )
والشاعر فى خطابه القومى يلتزم مكانه وسط المجموع برغم شعورنا بتفجعه من جهة ووقوفه موضع الجالد المؤنب لنفسه ولكنه يتحدث بضمير الجمع (كلامنا)؛ فهو يعلن منذ البداية عدم انفلاته عن المجموع المهزوم، ولكنه مشارك بامتياز فى عملية التخدير التى أفرزها (كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة)؛ فهو الكلام الذى لا يؤدى للفكر ولكنه للتسلية و"التمشية" وتزجية الفراغ حتى يبلى. كلام تحتى وإن بدا فوقيا. وإذا كان الكثيرون قد حملوا كثيرا على نزار من جهة اتهامه بالنرجسية والاكتفاء بجلد الذات دون كبير موضوعية فإن قراءة الضمائر قد يبرئ ساحته؛ فيقول :
قتلناك ..
ليس جديدا علينا
اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا ...
وكم من إمام ذبحناه وهو يصلى صلاة العشاء
فتاريخنا كله محنة
وأيامنا كلها كربلاء
إن تحول الزعيم إلى نبى يجعل اغتياله أكثر إيلاما (لا يبتعد الأمر عما اجترحته القصيدة الجديدة من مناداة الحبيبة بلفظ "الصديقة" ليكون الحب أكثر أريحية وعمقا)، واختيار صلاة العشاء يحيل إلى شىء من الخسة والغدر والاستتار بالظلام، وأضاف التردد الكثيف لضمير الجمع، بما يجعل التاريخ أكثر حضورا واستمرارا، وتسلسل الحوادث هو العامل المشترك لهذا التاريخ الذى يتكرر كما تتكرر أفعال القتل فى المقطوعة. يبالغ نزار هنا مبالغة المحب، ولكنه فى قصيدة أخرى يقول: تضيق قبور الميتين بمن حوت وفى كل يوم أنت فى القبر تكبر.
وناهيك عن المبالغة التى تعيدك إلى أجواء""النطف التى لم تخلق" فإننا نرى نزار محولا لقول أبو الحسن الأنبارى فى رثاء الوزير ابن بقية:
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات
بعد مدة قصيرة يكتب" حسن طلب " قصيدة (كما تموت الأنبياء) والتى أهداها إلى روح عبد الناصر وكتبها فى أكتوبر 1970، فيلتقى مع" نزار" فى تحول الزعيم إلى نبى مبشر بمستقبل، متبوع بفعل المحبة؛ فهو ( يموت فى سكينة / كما تموت الأنبياء)، وإن ركز على نقل التجربة إلى الداخل مرتكزا على "الإحساس "الذى يتكرر بتنويعاته 18 مرة، مستعينا بتنويعات الريح والتتار ، والمغول، فيقول مثلا :
أحس بالهزيم
فى داخلى، بلوعة تزوم
أحس ما يحسه طفل يتيم
وربما كان التفجع أكثر بروزا لدى حجازى فى استهلاله الشهير (هذه آخر الأرض/لم يبق إلا الفراق/سأسوى هنالك قبرا وأجعل شاهده مزقة من لوائك ثم أقول سلاما)، وتبدو الفاجعة عنده أكبر؛ إذ يفتتح (الرحلة ابتدأت-أكتوبر 1970) بما يشبه قصائد الغزل، وداخل القصيدة ينكر موت الزعيم(لا لم يمت!وخرجنا/نجوب ليل المدينة/ندعوك فاخرج إلينا/وردَ ما يزعمونه)، كما تبدو ملامح الوحدة العربية؛ بوصفها أبرز مآثر الزعيم ويرد ذكر الأقصى وقصر الضيافة فى دمشق، و...وغيرها.
بينهم، يقف أمل دنقل؛ لينمحى الذاتى عنده أمام العام، وبعيدا عن عدم افتتانه بعبد الناصر وتنبؤه ببعض خطاياه؛ كهزيمة 1967 تجده فى رثائه صارخا فى 28-9-1970(لا وقت للبكاء)، ويبين أن البكاء على عبد الناصر لا يجب أن يعمى أعيننا عن العدو الرابض فى سيناء، ويلوم التوحد مع الفاجعة الأصغر، بينما قلب مصر "المفئود" مفطور على أبناء كثيرين. إن مصر لا تتوقف على أحد: (تبكين؟ من تبكين؟ / وأنت، طول العمر تبقين وتنجبين / مقاتلين فمقاتلين فى الحلبة). إن أمل "الصعيدى" لا يقبل العزاء إلا بعد الثأر (فالجند فى الدلتا /ليس لهم أن ينظروا إلى الوراء/أو يدفنوا الموتى/إلا صبيحة الغد المنتصر الميمون) .
سيرحل مبارك كما رحل عبد الناصر، لكن الأخير ترك خلفه مريدين كثيرين وقصائد أثرت ديوان الرثاء العربى، بما تحتاج معه إلى دراسات كاملة، لا مجرد تعليق. فهل يُضاف إلى الرثاء باب جديد؟ أم أنه مسدود أمام من لا يستحق الالتفات.
فورة الرثاء التى أحاطت بالزعيم "جمال عبد الناصر"، والتى أخذت وقتا طويلا حتى هدأت، ولا يزال التأريخ الأدبى يتوقف أمامها بعد أكثر من نصف قرن من إنتاجها تجعلك تدرك الفارق بين أن تكون تجسيدا لحلم طال انتظاره، فتظل تحبه طالما أنت إنسان طبيعى لا تكره أحلامك، وبين أن يكون رحيلك هو "الحلم". فى الحالين لا تكره حلمك حتى ولو تحقق بصورة مشوهة. فرق كبير بين أن يتعلق الناس بأهداب رحيلك وتصر على أن تراك عائدا تحقق لهم– ضمن ما حققت– أمنيات العودة المستحيلة، وبين طلب المغادرة والسقوط؛ لأن "إيدى وجعتنى" أو "مراتى وحشتنى" وغيرها من أسباب بسيطة وكوميدية (لا يعنى ذلك إلا السوداء منها) ولكن الطلب غال؛ لأنك رخيص. فرق بين هذا وبين أن تنام الناس أياما على رصيف البرد حتى من كانوا يعيشون يوما بيوم فانقطعت "يوميتهم"، وبين من يتدفأ بسنا طلعتك؛ فلفتة العنق لديك لفتة السيف الشجاع، مع الاعتذار لنزار قبانى. كانت الفاجعة كبيرة، والكل ثكالى وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، فسال الشعر قصائد تتحدث عن الرحيل المؤثر، رحيل الجسد الذى كان يملأ الوجدان وإن احتفظ اللاوعى بصورته متكسرا مهدما يقرأ بيان التنحى.
رأى بعضهم فى مساواة النقد القديم بين المدح والرثاء وكون الأول للحى والثانى للميت نوعا من ضيق النظرة. بفعل ما نعيشه الآن أراه "تصاديا" بين النوعين؛ فربما لا يرثى الناس، والشعراء منهم، إلا من يستحق الرثاء، والأيام بيننا.
نقف الآن سريعا أمام عينة بسيطة من قصائد رثاء عبد الناصر؛ أعنى قصائد أحمد عبد المعطى حجازى ونزار قبانى وأمل دنقل وحسن طلب، والأولان كانت لهما علاقة مرتبكة ومربكة مع الرئيس ونحن لا نرى تناقضا بين تذكر الشاعر لتعذيبه فى سجن عبد الناصر نهارا ثم يجىء الليل فيكتب قصيدة فى حبه؛ أنه يحب المعذب والممدوح فى الوقت ذاته. وكما تقول رجاء بن سلامة فالرجل إذا شغل الناس انفصلت صورته عنه وأصبح ملكا للآخرين. إنه يصبح رمزا يجسد فكرة، أو أفكارا قد تكون متضاربة ويصبح نصبا تسقط عليه المجموعة أحلامها ومخاوفها.
عند نزار قبانى، يحتل الرثاء مكانة كبيرة فى منطوق الخطاب عنده، وبعيدا عن رثاء ابنه وزوجته"بلقيس"، فقد كان تعامله مع القضايا القومية مرتبطا بنبرة الرثاء فتراه يقول بعد هزيمة 1967:
أنعى لكم يا أصدقائى اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعى لكم :
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمة
أنعى لكم..
أنعى لكم..
نهاية الفكر الذى قاد إلى الهزيمة ( هوامش على دفتر النكسة )
والشاعر فى خطابه القومى يلتزم مكانه وسط المجموع برغم شعورنا بتفجعه من جهة ووقوفه موضع الجالد المؤنب لنفسه ولكنه يتحدث بضمير الجمع (كلامنا)؛ فهو يعلن منذ البداية عدم انفلاته عن المجموع المهزوم، ولكنه مشارك بامتياز فى عملية التخدير التى أفرزها (كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة)؛ فهو الكلام الذى لا يؤدى للفكر ولكنه للتسلية و"التمشية" وتزجية الفراغ حتى يبلى. كلام تحتى وإن بدا فوقيا. وإذا كان الكثيرون قد حملوا كثيرا على نزار من جهة اتهامه بالنرجسية والاكتفاء بجلد الذات دون كبير موضوعية فإن قراءة الضمائر قد يبرئ ساحته؛ فيقول :
قتلناك ..
ليس جديدا علينا
اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا ...
وكم من إمام ذبحناه وهو يصلى صلاة العشاء
فتاريخنا كله محنة
وأيامنا كلها كربلاء
إن تحول الزعيم إلى نبى يجعل اغتياله أكثر إيلاما (لا يبتعد الأمر عما اجترحته القصيدة الجديدة من مناداة الحبيبة بلفظ "الصديقة" ليكون الحب أكثر أريحية وعمقا)، واختيار صلاة العشاء يحيل إلى شىء من الخسة والغدر والاستتار بالظلام، وأضاف التردد الكثيف لضمير الجمع، بما يجعل التاريخ أكثر حضورا واستمرارا، وتسلسل الحوادث هو العامل المشترك لهذا التاريخ الذى يتكرر كما تتكرر أفعال القتل فى المقطوعة. يبالغ نزار هنا مبالغة المحب، ولكنه فى قصيدة أخرى يقول: تضيق قبور الميتين بمن حوت وفى كل يوم أنت فى القبر تكبر.
وناهيك عن المبالغة التى تعيدك إلى أجواء""النطف التى لم تخلق" فإننا نرى نزار محولا لقول أبو الحسن الأنبارى فى رثاء الوزير ابن بقية:
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافيات
بعد مدة قصيرة يكتب" حسن طلب " قصيدة (كما تموت الأنبياء) والتى أهداها إلى روح عبد الناصر وكتبها فى أكتوبر 1970، فيلتقى مع" نزار" فى تحول الزعيم إلى نبى مبشر بمستقبل، متبوع بفعل المحبة؛ فهو ( يموت فى سكينة / كما تموت الأنبياء)، وإن ركز على نقل التجربة إلى الداخل مرتكزا على "الإحساس "الذى يتكرر بتنويعاته 18 مرة، مستعينا بتنويعات الريح والتتار ، والمغول، فيقول مثلا :
أحس بالهزيم
فى داخلى، بلوعة تزوم
أحس ما يحسه طفل يتيم
وربما كان التفجع أكثر بروزا لدى حجازى فى استهلاله الشهير (هذه آخر الأرض/لم يبق إلا الفراق/سأسوى هنالك قبرا وأجعل شاهده مزقة من لوائك ثم أقول سلاما)، وتبدو الفاجعة عنده أكبر؛ إذ يفتتح (الرحلة ابتدأت-أكتوبر 1970) بما يشبه قصائد الغزل، وداخل القصيدة ينكر موت الزعيم(لا لم يمت!وخرجنا/نجوب ليل المدينة/ندعوك فاخرج إلينا/وردَ ما يزعمونه)، كما تبدو ملامح الوحدة العربية؛ بوصفها أبرز مآثر الزعيم ويرد ذكر الأقصى وقصر الضيافة فى دمشق، و...وغيرها.
بينهم، يقف أمل دنقل؛ لينمحى الذاتى عنده أمام العام، وبعيدا عن عدم افتتانه بعبد الناصر وتنبؤه ببعض خطاياه؛ كهزيمة 1967 تجده فى رثائه صارخا فى 28-9-1970(لا وقت للبكاء)، ويبين أن البكاء على عبد الناصر لا يجب أن يعمى أعيننا عن العدو الرابض فى سيناء، ويلوم التوحد مع الفاجعة الأصغر، بينما قلب مصر "المفئود" مفطور على أبناء كثيرين. إن مصر لا تتوقف على أحد: (تبكين؟ من تبكين؟ / وأنت، طول العمر تبقين وتنجبين / مقاتلين فمقاتلين فى الحلبة). إن أمل "الصعيدى" لا يقبل العزاء إلا بعد الثأر (فالجند فى الدلتا /ليس لهم أن ينظروا إلى الوراء/أو يدفنوا الموتى/إلا صبيحة الغد المنتصر الميمون) .
سيرحل مبارك كما رحل عبد الناصر، لكن الأخير ترك خلفه مريدين كثيرين وقصائد أثرت ديوان الرثاء العربى، بما تحتاج معه إلى دراسات كاملة، لا مجرد تعليق. فهل يُضاف إلى الرثاء باب جديد؟ أم أنه مسدود أمام من لا يستحق الالتفات.