ينصحنا أساتذة العلوم السياسية ألا نفترض الغباء فى أى فاعل سياسى، لأننا لو انطلقنا من فرضية أن حاكما ما يتسم بالغباء أو يعانى الجنون فلن يبقى أمامنا متسع للبحث عن عوامل موضوعية تفسر سلوكه.
وصم الحاكم بالجنون يدفعنا تلقائيا إلى رد كل سياساته وخياراته إلى ما يعانيه من مرض نفسى على نحو يحرمنا من فهم الملابسات التى تتحكم فى صنع هذه السياسات وتبنى تلك الخيارات دون غيرها.
لذا، ومع التقدير لآراء خبراء الطب النفسى الذين أكدوا أن العقيد القذافى يعانى من أعراض المرض النفسى، فإن ثمة حاجة لتجنب هذه الآراء لدى التصدى لمحاولة فهم علاقة القهر التى مارسها العقيد تجاه الشعب الليبى منذ نهاية الستينيات، لاسيما فى ظل ما يتمتع به القذافى من ميزة الحرص على تدوين أفكاره ورؤاه مما يتيح نافذة يمكن من خلالها الإطلال على كيفية تطور علاقته مع شعبه.
وظنى أن أهم ما خطه معمر القذافى تعبيرا عن فكره ومعتقده ليس كتابه الأخضر الشهير، بل قصة قصيرة عنوانها «الفرار إلى جهنم» نشرتها له الدار الجماهيرية فى سرت فى العام 1993 ضمن مجموعة قصصية لم تلق ذيوعا يذكر تحت عنوان «القرية القرية.. الأرض الأرض.. وانتحار رائد الفضاء».
فى تلك القصة يحكى لنا الرجل عن علاقته بشعبه فيرسم صورة بالغة التعقيد والتركيب: «ما أقسى البشر» بتلك العبارة التعجبية يبدأ الكاتب قصته ثم يستطرد موضحا «كم أحب حرية الجموع وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها، وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء، ولكنى كم أخشاها وأتوجس منها، أنى أحب الجموع كما أحب أبى وأخشاها كما أخشاه».
بدأ الرجل مسيرته فى ستينيات القرن الفائت ضابطا ثائرا على نظام ملكى شابه الركود وجللته علامات التخلف ومظاهر الانصياع للقوى الاستعمارية، وبذل الرجل جهدا غير منكور كى تلحق بلاده بركب النهضة القومية العربية الذى قادته مصر، لكن مسيرة الرجل ومشروعه العروبى سرعان ما انتكس لعوامل بعضها خارج عن إرادته، وبعضها يرجع بصورة مباشرة إلى التباس علاقته بشعبه.
فى السنوات التالية لثورة الفاتح شرع الرجل فى تدمير هياكل ومؤسسات الحكم الملكى فيما ظنه الناس تمهيدا لبناء مؤسسات بديلة ذات طابع جمهورى، على أنه فاجأهم بعد مضى ثمانى سنوات على الثورة باختلاق نظام حكم سماه جماهيريا ولكن جوهره كان التأسيس لمجتمع منزوع السياسة وعديم المؤسسات سواء النقابية أو الحزبية أو النيابية أو غيرها من أشكال العمل العام. حرمان الشعب الليبى تماما ونهائيا من التعاطى السياسى (حق التنظيم والتعبير والترشح والانتخاب...) كان مبعثه توجس الحاكم وخشيته الشديدة من شعبه كما عبر صراحة فى قصته.
فعنده أن الخوف كل الخوف أن تملك الجماهير زمام أمرها لأنها بلا عقل.. «الجموع... كم هى عطوفة فى لحظة السرور، فتحمل أبناءها على أعناقها... وكم هى قاسية فى لحظة الغضب، فتآمرت على هانيبال وجرعته السم... وجرجرت جثة موسولينى فى الشوارع، وتفت على وجه نيكسون وهو يغادر البيت الأبيض». هكذا ينتهى الرجل إلى أن الحاكم بغض النظر عن طريقة وصوله للسلطة ينبغى أن تحصنه حصافته من الانصياع لرغبات شعبه، حتى يجنب وجهه ما تلقاه وجه نيكسون.
على أن للقصة بقية، فقد نتج عن الغياب المؤسسى فى المجتمع الليبى أن صار الحاكم الفرد بمثابة المرجع والقائد والناظم والمحرك الوحيد لكل شاردة وواردة فى الشأن الليبى من تحديد سعر الفائدة على الودائع المصرفية إلى الدس بين القبائل ضمانا لسيادة سلطانه، وبعد ربع قرن فى سدة الحكم (وقت كتابة القصة) يبدى الرجل تململه من أن شعبه صار «عالة» عليه: «بماذا أطمع أنا البدوى الفقير التائه فى مدينة عصرية مجنونة أهلها ينهشوننى كلما وجدونى: ابن لنا بيتا... أرصف لنا طريقا... ازرع لنا حديقة... اصطد لنا حوتا... اكتب لنا تعويذة... اعقد لنا قرانا... اقتل لنا ****ا... اشتر لنا هرا... بدوى فقير تائه... عصاه على كتفيه.. لا يقف أمام الإشارة الحمراء».
مصيبة الرجل أنه لم يدرك أن جوهر مأساته ومأساة شعبه أنه لم يسمح طوال أربعة عقود لإشارة حمراء واحدة أن تبطئ سيره أو توقفه أو تحدد وجهته، لاسيما إذا كانت تلك الإشارة الضوئية اسمها الشعب.
لم يأت الكاتب البريطانى روبرت فيسك بجديد عندما أكد أن حاكم ليبيا (على عكس بن على ومبارك) سيدفع حياته ثمنا لثورة شعبه التى اندلعت فى منتصف فبراير، فها هو كاتب قصتنا يؤكد قبل نحو عقدين أن ملاذه الوحيد من شعبه الذى أتعبه هو الموت.. «أنفاسكم تضايقنى.. وتقتحم على خلوتى.. وتغتصب ذاتى.. أنفاسكم تلاحقنى كالكلاب المسعورة.. وعندما أهرب منها تتعقبنى.. لذلك فررت إلى جهنم بنفسى.. وأنا أشق طريقى نحوها بفرح وغبطة».
خشى الرجل شعبه فهمشه قهرا، ولما أضجره الانفراد بالسلطان قرر الفرار إلى جهنم، وكان طبيعيا ألا يختار الرحيل فى سلام، لأن منطقه يقتضى أن يعاقب هذا الشعب الذى أتعبه حتى أهلكه.
ورغم أن الرجل اختار الفرار إلى جهنم وسط حمامات دماء زكية لثوار بواسل إلا أنه يفر سعيدا مغتبطا، لماذا؟ ينبهنا القذافى فى قصة أخرى اسمها «الموت» إلى ضرورة أن يدرك المرء ما إذا كان الموت ذكرا أم أنثى، فعندما يكون الموت أنثى تغرينا وتسكرنا وتدغدغنا «فليس من الرجولة مقاومته ومقارعته.. بل من الواجب الاستسلام له حتى الرمق الأخير».
قبح الله علم السياسية الذى يحول بيننا وبين وصف هذا الرجل بما يستحق
وصم الحاكم بالجنون يدفعنا تلقائيا إلى رد كل سياساته وخياراته إلى ما يعانيه من مرض نفسى على نحو يحرمنا من فهم الملابسات التى تتحكم فى صنع هذه السياسات وتبنى تلك الخيارات دون غيرها.
لذا، ومع التقدير لآراء خبراء الطب النفسى الذين أكدوا أن العقيد القذافى يعانى من أعراض المرض النفسى، فإن ثمة حاجة لتجنب هذه الآراء لدى التصدى لمحاولة فهم علاقة القهر التى مارسها العقيد تجاه الشعب الليبى منذ نهاية الستينيات، لاسيما فى ظل ما يتمتع به القذافى من ميزة الحرص على تدوين أفكاره ورؤاه مما يتيح نافذة يمكن من خلالها الإطلال على كيفية تطور علاقته مع شعبه.
وظنى أن أهم ما خطه معمر القذافى تعبيرا عن فكره ومعتقده ليس كتابه الأخضر الشهير، بل قصة قصيرة عنوانها «الفرار إلى جهنم» نشرتها له الدار الجماهيرية فى سرت فى العام 1993 ضمن مجموعة قصصية لم تلق ذيوعا يذكر تحت عنوان «القرية القرية.. الأرض الأرض.. وانتحار رائد الفضاء».
فى تلك القصة يحكى لنا الرجل عن علاقته بشعبه فيرسم صورة بالغة التعقيد والتركيب: «ما أقسى البشر» بتلك العبارة التعجبية يبدأ الكاتب قصته ثم يستطرد موضحا «كم أحب حرية الجموع وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها، وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء، ولكنى كم أخشاها وأتوجس منها، أنى أحب الجموع كما أحب أبى وأخشاها كما أخشاه».
بدأ الرجل مسيرته فى ستينيات القرن الفائت ضابطا ثائرا على نظام ملكى شابه الركود وجللته علامات التخلف ومظاهر الانصياع للقوى الاستعمارية، وبذل الرجل جهدا غير منكور كى تلحق بلاده بركب النهضة القومية العربية الذى قادته مصر، لكن مسيرة الرجل ومشروعه العروبى سرعان ما انتكس لعوامل بعضها خارج عن إرادته، وبعضها يرجع بصورة مباشرة إلى التباس علاقته بشعبه.
فى السنوات التالية لثورة الفاتح شرع الرجل فى تدمير هياكل ومؤسسات الحكم الملكى فيما ظنه الناس تمهيدا لبناء مؤسسات بديلة ذات طابع جمهورى، على أنه فاجأهم بعد مضى ثمانى سنوات على الثورة باختلاق نظام حكم سماه جماهيريا ولكن جوهره كان التأسيس لمجتمع منزوع السياسة وعديم المؤسسات سواء النقابية أو الحزبية أو النيابية أو غيرها من أشكال العمل العام. حرمان الشعب الليبى تماما ونهائيا من التعاطى السياسى (حق التنظيم والتعبير والترشح والانتخاب...) كان مبعثه توجس الحاكم وخشيته الشديدة من شعبه كما عبر صراحة فى قصته.
فعنده أن الخوف كل الخوف أن تملك الجماهير زمام أمرها لأنها بلا عقل.. «الجموع... كم هى عطوفة فى لحظة السرور، فتحمل أبناءها على أعناقها... وكم هى قاسية فى لحظة الغضب، فتآمرت على هانيبال وجرعته السم... وجرجرت جثة موسولينى فى الشوارع، وتفت على وجه نيكسون وهو يغادر البيت الأبيض». هكذا ينتهى الرجل إلى أن الحاكم بغض النظر عن طريقة وصوله للسلطة ينبغى أن تحصنه حصافته من الانصياع لرغبات شعبه، حتى يجنب وجهه ما تلقاه وجه نيكسون.
على أن للقصة بقية، فقد نتج عن الغياب المؤسسى فى المجتمع الليبى أن صار الحاكم الفرد بمثابة المرجع والقائد والناظم والمحرك الوحيد لكل شاردة وواردة فى الشأن الليبى من تحديد سعر الفائدة على الودائع المصرفية إلى الدس بين القبائل ضمانا لسيادة سلطانه، وبعد ربع قرن فى سدة الحكم (وقت كتابة القصة) يبدى الرجل تململه من أن شعبه صار «عالة» عليه: «بماذا أطمع أنا البدوى الفقير التائه فى مدينة عصرية مجنونة أهلها ينهشوننى كلما وجدونى: ابن لنا بيتا... أرصف لنا طريقا... ازرع لنا حديقة... اصطد لنا حوتا... اكتب لنا تعويذة... اعقد لنا قرانا... اقتل لنا ****ا... اشتر لنا هرا... بدوى فقير تائه... عصاه على كتفيه.. لا يقف أمام الإشارة الحمراء».
مصيبة الرجل أنه لم يدرك أن جوهر مأساته ومأساة شعبه أنه لم يسمح طوال أربعة عقود لإشارة حمراء واحدة أن تبطئ سيره أو توقفه أو تحدد وجهته، لاسيما إذا كانت تلك الإشارة الضوئية اسمها الشعب.
لم يأت الكاتب البريطانى روبرت فيسك بجديد عندما أكد أن حاكم ليبيا (على عكس بن على ومبارك) سيدفع حياته ثمنا لثورة شعبه التى اندلعت فى منتصف فبراير، فها هو كاتب قصتنا يؤكد قبل نحو عقدين أن ملاذه الوحيد من شعبه الذى أتعبه هو الموت.. «أنفاسكم تضايقنى.. وتقتحم على خلوتى.. وتغتصب ذاتى.. أنفاسكم تلاحقنى كالكلاب المسعورة.. وعندما أهرب منها تتعقبنى.. لذلك فررت إلى جهنم بنفسى.. وأنا أشق طريقى نحوها بفرح وغبطة».
خشى الرجل شعبه فهمشه قهرا، ولما أضجره الانفراد بالسلطان قرر الفرار إلى جهنم، وكان طبيعيا ألا يختار الرحيل فى سلام، لأن منطقه يقتضى أن يعاقب هذا الشعب الذى أتعبه حتى أهلكه.
ورغم أن الرجل اختار الفرار إلى جهنم وسط حمامات دماء زكية لثوار بواسل إلا أنه يفر سعيدا مغتبطا، لماذا؟ ينبهنا القذافى فى قصة أخرى اسمها «الموت» إلى ضرورة أن يدرك المرء ما إذا كان الموت ذكرا أم أنثى، فعندما يكون الموت أنثى تغرينا وتسكرنا وتدغدغنا «فليس من الرجولة مقاومته ومقارعته.. بل من الواجب الاستسلام له حتى الرمق الأخير».
قبح الله علم السياسية الذى يحول بيننا وبين وصف هذا الرجل بما يستحق