فى هذه الايام اجد المعانى فى نفسى حائرة لا تكاد تقر .. والنفس منبوذة على حدود النشاط فى كسل مجدب بالقحط والظمأ لا يهتدى اليه ريٌ ولا شبع ...واذا كانت النفس كذلك لم يأت خيرها الا من طول الحرمان والالم ...فهى تريد ان تتكلم من نوازعها بألفاظ ثائرة ضائعة حائرة كأنما تبحث عن نفسها فى معانيها ... ثم لا تتكلم ... وهى على ذلك لا تطيق التأمل فى المادة التى تعرض لها الا بمقدار ٍ من الرغبة فى البحث عن نفسها فى سر نفس غيرها لتجد عند ذلك اسبابا تهتاج بها وتضطرب واذا لم تجد النفس لذتها المؤلمة الا فى انتزاع الالام المحرقة مما ترى وتسمع وتتخيل ... فكيف تعيش افكارها الا فى دخان من الاحزان الصامتة صمت الفكرة المختنقة التى لا تجد انفاسها ولا جو انفاسها ..هكذا اجدنى ...
وهذه النفس المنبوذة بما جنت وبالذى لم تجن من شئ ... هى النفس التى اريد ان اتولى بها النظر فيما يعرض لى من شؤون السياسة فى مصر ... ولقد تشاكلا ووقع حافر على حافر فى حلبة مغلقة .. فنفسى الان هى نفسى التى لا اكاد اجمعها والم اشتاتها الا قليلا .. وما هو الا ان اراها مبعثرة تفر منى اوابدها فى كل وجه .. واقف انا اتلفت ...انظرها وهى تغيب فى ظلام الاحزان ....
وفى بعض الانجيل هذه الكلمة ( من وجد نفسه اضاعها ... ومن اضاع نفسه من اجلى وجدها ) افيكون معنى ذلك ان النفس الانسانية لا توجد باقية ابدا الا وهى مستهلكة .. وان الاشياء الشريفة التى تُهلك هى بعينها التى تُحيي.. فما اعجب الحياة ...
حيث طابت شرائع الموت .... والموت مرارا يكون عذب الحياض
فى هذه الايام انتفض تقززا واشمئزازا كلما انبعثت روح حقارة المجتمع من وراء الرمم الاخلاقية المموهة بالنفاق ... بل انا هذه الايام اشد انتفاضا حين ارمى بصرى الى الواقع السياسى والاجتماعى والاعلامى حيث اجد تلك الفئة التى اتاهم القدر بعض السلطان والجاه والسيطرة ... واقامتهم الشهرة الذائعة انصابا تهوى اليها الاغراض وتناط بها الوسائل ..ليس ذلك فحسب ... بل تعتمد عليها الحكومات فى تقدير العلم والادب واهلهما والعاملين عليهما ... وكذلك لا يستطيع اديب ولا مفكر ولا عالم ان يجتاز الا باجازة من ايدهم وبأختامهم .. والا ان يشهدوا له شهادة التقدير .. وان يعبروا له السعر فى (تسعيرة) السوق الاعلامى الذى اقامتهم الحظوظ عليه حكاما ومقومين ....
اخوانى الكرام ....
ان الشهرة والشهادة هما شيئان لا قيمة لهما فى العلم والادب .. فبناء العلم على نجاح التجربة واستواء المنطق واقرار العقل ... وبناء الادب على صدق الاحساس وجدة الادراك وسمو العاطفة وقوة الحشد وبراعة العبارة والاداء ... فاذا لم تكن الشهرة من هذا تستفيض وعنه تشرع .. فما غناؤها على صاحبها الا بعض الاباطيل التى تنفش فى عقول الامم الضعيفة والاجيال المستعبدة بالاوهام والتهاويل ...
والشهادة ما هى الا اجازة الدولة لاحد من الناس انه قد تحرر من طلب العلم والادب على القيود التى تتقيد بها المدارس والجامعات فى انواع بعينها من الكلام ... وانه قد حصل فى ورقة الامتحان ما فرض عليه تحصيله بالذاكرة .. ثم ترفع الشهادة يدها عن معرفة ما وراء هذا التحصيل وما بعده وما يصير اليه من الاهمال والنسيان والضعف والفساد ... فحين يغادر احدهم الجامعة حاملا شهادته مندمجا فى زحمة الجماعة تفقد الشهادة سلطانها الحكومى .. او هكذا يجب ان يكون ... ولا يبقى سلطان الا للرجل واين هو من العلم والادب والفن ... وهل اصاب او اخطأ ؟وهل اجاد او اساء وهكذا فهو لا ينظر اليه الا وهو مغسولا من (مكياج) الدبلوم والليسنس والماجستير والدكتوراه... وما اليها .. واذن فاولى ألا ينظر اليه عن شهادة قوم لم يكن سبيلهم الى التحكم فى اسواق العلم والادب والكتابة والاعلام .. الا الشهادات المستحدثة .. والشهرة النابغة على حين فترة ضعف واختلاط وجهل كان فى امة حين كان اقل العلم يرفعان صاحبهما درجات من التقدير والاجلال والكرامة ...هؤلاء يتكلمون اليوم فى كل امر مترنحين على استار الشهرة وذيوع الصيت ... ومن اعجب اقوالهم ...
فصل الدين عن السياسة ....
هذه الدعوة تزعمها كثير من المثقفين والكتاب والساسة ... وما ذلك الا ليستبدوا بالحكم والسياسة ...
ان تحرر السياسة من رقابة الدين تجعلها قيصرية او كسروية مستبدة وملكا عضوضا ... وتصبح السياسة عند ذلك كجمل هائج حبله على غاربه ... ويصبح رجال الدين والعلم بين معارض .. وحائد منعزل اشتغل بخاصة نفسه واغمض العين عما يقع ويجرى حوله ... يأسا من الاصلاح ... ومنتقد يتلهف ويتنفس الصعداء مما يرى ولا يملك من الامر شيئا .. ومتعاون مع الحكومة لمصلحة دينية او شخصية .. ولكل ما نوى .... وبذلك ...اعنى بفصل الدين عن السياسة ... يصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الايدى .. وتصبح السياسة مطلقة اليد حرة التصرف نافذة الكلمة صاحبة الامر والنهى ...
ومن ثم يصبح رجال العلم والدين .. طبقة متميزة .. ورجال الدنيا طبقة متميزة ..
والشقة بينهما شاسعة .. بل بينهما عداء وتنابذ ....