صخب ما بعد الثورة المصرية .. الانتخابات أولا أم الدستور؟
أسئلة
كثيرة وجدل لا ينفض يطفو على الساحة السياسية المصرية، حالة من الاستنفار
الفكرى والاستقطاب الايديولوجى لا مبرر لها، فقدان لحالة التوافق الوطنى
حول خريطة واضحة تحدد ملامح العبور بمصر الثورة إلى الحلم الافتراضى ببناء
دولة ديمقراطية دستورية قوية اقتصاديا وعسكريا وسياسيا تحقيقا لأهداف
وطموحات جموع المصريين الذين خرجوا فى 25 يناير.
حالة تخوف من قوة جماعة
الإخوان المسلمين بعدما أتاحت لهم الثورة حرية العمل وحرية التعبير عن
أنفسهم ودخولهم كلاعب رئيسى فى صياغة ملامح هذه المرحلة، إحساس بعض
التيارات والأحزاب بخفة الوزن السياسى وعدم قدرتها على جذب مؤيدين يدعمون
موقفها فى الوجود الفعلى فى الفاعليات والمؤسسات قيد التشكل فى المرحلة
القادمة، خلاف عميق حول أولوية الدستور أم الانتخابات البرلمانية.
انقسامات تهدد مسار الثورة
المحصلة
النهائية حالة من الانقسام طغت على الساحة السياسية المصرية فى الفترة
الأخيرة. تجسدت فى الدعوات إلى تظاهرات وتظاهرات مضادة، تخللها محاولات
لإضفاء شرعية شعبية على رأى المؤيدين ورأى الرافضين، المؤيدين وهم حركة
كفاية وائتلاف شباب الثورة وحزب الجبهة الديمقراطية والجمعية الوطنية
للتغيير وحركة 6 ابريل وحزب التجمع وحزب الغد ( ايمن نور) والمجلس الوطنى
المصرى تركز مطلبها الرئيسي فى تأجيل الانتخابات وكتابة دستور جديد باعتبار
الدستور ضمانة لدولة لا دينية تخشى هذه القوى تدعيم فرص وجودها فى حالة
فوز التيار الدينى وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين بالأغلبية البرلمانية،
وقيامها بالانفراد بتشكيل الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور بما يعبر عن
توجهاتها وإيديولوجيتها، ويضفى صبغة دينية على دستور مصر الجديد.
قوى
أخرى لها رأى مختلف هى جماعة الأخوان المسلمين والجماعات السلفية وحزب
الوفد وحزب الوسط ترى ضرورة احترام خيار الشعب فى الاستفتاء لهذا اعتبرت
جمعة الغضب الثانية ثورة ضد الشعب أو أغلبيته الواضحة، أو وقيعة بين الشعب
وقواته المسلحة وقيادتها الممثلة فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. الواقع
يمثل أزمة حقيقية.
ويمكن رصد الأزمة فى تصاعد الحملات الإعلامية
والصحفية على الجانبين واختفاء لغة الحوار الحضارى رغم أن حيثيات كل طرف فى
تبرير رأيه تستند إلى وجهة نظر قابلة للنقاش، وبدا بوضوح حدة الصراع بين
القوى المختلفة فى تلك المرحلة التى تتسم بالحساسية الشديدة، وهذا طبيعى
لكنه كان صراع على قليل نتج عن ثورة لم تؤتى ثمارها بعد، وتم اتباع نهج
التشكيك وتبادل الاتهامات، وتغليب المصالح المرحلية على الأهداف الكبرى،
واختفت روح ميدان التحرير كما كان الحال فى ذروة الأزمة حيث تجلت قمة
التلاحم بين القوى الوطنية، حيث تمت العودة إلى التخندق والحشد اللاموضوعى
لترويج كل طرف لأفكاره. والمشكلة الحقيقية أن هذا الانقسام يحدث فى مرحلة
انتقالية متلكأة قد تنجح فى تحقيق عبور ديمقراطى حقيقى أو الدخول فى نفق
مظلم طويل، من هنا يثور التساؤل هل الأزمة تعبير عن خوف من القوى
الليبرالية على طبيعة وشكل الدولة المصرية بعد الثورة إذا انفرد فريق أو
إيديولوجية ما بالقيام بهذه المهمة فعلا؟، أم أنه الخوف من الاحتكام
لصناديق الاقتراع مغبة معرفة الأوزان الحقيقية للأحزاب والقوى السياسية؟،
أم على جانب آخر هل هى انتهازية سياسية من جانب القوى الإسلامية وخاصة
جماعة الإخوان المسلمين الأكثر استعدادا لاى انتخابات قادمة بحكم تنظيمها
القوى وانتشارها الجغرافى الذى يغطى كل مصر وجماهيريتها الكبيرة؟، أم أنه
تفكير واقعي فى التعامل مع المعطيات على الأرض، والتى فرضتها ظروف الثورة
المصرية التى صنعها الشعب وتسلم مقاليد أمورها الجيش والتى تقتضى بحسب رؤية
جماعة الإخوان والقوى المؤيدة لها سرعة تسليم السلطة للمدنيين خشية حدوث
ما لا يحمد عقباه على حين غفلة حال طول فترة مرحلة الانتقال؟.
إشكاليات المرحلة الانتقالية وخطورة الانقسام
ورغم
وجاهة الرأى القائل بأنه عند التأسيس لمرحلة جديدة هو أولوية الاتفاق على
الأطر والقواعد الدستورية والقانونية التى سوف يتم الاحتكام إليها قبل
البدء فى مسارات الفعل الحقيقى لبناء هذه المرحلة، وهو الأمر الذى يتفق مع
المنطق، كما انه يمثل ضمان لكل القوى الوطنية من انحراف مسار الديمقراطية
والانجراف نحو حكم سلطوى أو عسكرى، لكن خطوات عملية التحول فى مرحلة
الانتقال قد شهدت اضطراب فى تحديد جدول زمنى توافقى حول أولويات العمل فى
هذه المرحلة المهمة فى الانتقال من مرحلة الفعل الثورى إلى مرحلة البناء
الثورى ويمكن أن يرجع ذلك إلى عدد من الإشكاليات هى:
• غياب التوافق حول
أولويات العمل فى مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق بين القوى الوطنية
والمجلس العسكرى من جهة، وبين القوى الوطنية التى شاركت فى الثورة من جهة
أخرى، حيث خلق خلاف القوى الوطنية حول القضايا المطروحة وضعا مرتبكا زادت
حدته تحت وطأة اتساع مساحات الخلاف والاستقطاب وتبادل الاتهامات، وهو فى
الحقيقة انحراف بمسار الثورة عن الطريق الصحيح، وخلاف ليس فى موضعه.
فالسؤال الحقيقى والجدل الذى يجب أن يسيطر على الساحة السياسية فى مصر كان
يجب أن يدور حول أولوية أسئلة البناء والمعالجة وطرح الحلول وهى أسئلة
مرتبطة بالمستقبل وبمصير الثورة فى حد ذاتها، وهى أسئلة لن يتم الإجابة
عليها إلا فى ضوء إجماع وطنى يرفع شعار موحد، لان ظهور مطالب جديدة لا تعبر
عن إجماع وطنى تخلق بدورها ثغرات وتمهد الطريق لعمليات اختراق وتعطيل
لمسار الثورة. ولنا أن نراجع تأثير دعوات التظاهر المليونية فى أيام الجمعة
منذ سقوط الرئيس السابق، حيث تحققت مطالب الثوار فى الجُمع التى شهدت
إجماعا وطنيا، مقارنة بالتظاهرات التى كانت دعواتها تعكس خلافا بين القوى
الوطنية حول أصل الدعوة والمطالب التى ترفعها فى جُمع أخرى.
• أزمة
النخبة السياسية فى مصر وعجزها عن إدارة خلافاتها، ويذكرنا الخلاف الحالى
بحال المعارضة فى عهد ما قبل الثورة، حيث سيطر الانقسام على المعارضة فى
مواجهة نظام الرئيس السابق مبارك وحبذت بعض تيارات النخبة استبداد النظام
السابق على حرية تفتح المجال أمام كل القوى السياسية، أو بالاحرى جماعة
الأخوان المسلمين باعتبارها البديل الجاهز ليحل محل النظام فى أية انتخابات
نزيهة، وهو ما استغله النظام السابق فى اختراق وضرب القوى الوطنية وفرض
أجندة استبدادية فى ظل حالة التشتت والخلاف أو الاختراق التى سيطرت على
المعارضة، والانقسام فى الوقت الحالى فى الحقيقة يضعف ويعطل تنفيذ المطالب
الوطنية من جانب القيادات الفعلية للمرحلة الانتقالية فى المجلس العسكرى او
الحكومة، وهو فرصة كبير لظهور وتنفيذ أجندات بديلة ربما لا تصب فى الإطار
العام والثوابت والمسارات الناجزة فى تحقيق تحول ديمقراطى حقيقى.
•
انتقال الخلاف النخبوى حول قضايا المرحلة الانتقالية إلى خلاف على المستوى
الجماهيرى والشعبى، وهو الأمر الذى يُفقد الجماهير الثقة فى القيادات
الوطنية التى تبدو منخرطة فى صراع تُغلب فيه مصالحها الضيقة، وهو ما قد
يؤثر على الزخم الثورى الجماهيرى الذى يمثل ضمانة حقيقية لتحقيق غايات
الثورة. بالإضافة إلى حالة الاستقطاب ودعاوى التخوين، التى تنخر فى حالة
الاتفاق والتوافق التى نتجت فى الميدان وتأثيرها السلبى على الالتفاف حول
ثوابت مشتركة تتراجع أمام الخلافات التى أنتجتها النخبة فى صراعها السياسى،
الذى هو بالأساس صراع على كعكة سياسية لم تكتمل بعد.
• غياب القيادة
العابرة للاختلافات أو تغييبها عن عمد فالثورة عندما قامت لم تكن بلا زعامة
أو قيادة، وهذا كان له أثره السلبى الذى ظهر فى عملية إدارة المرحلة
الانتقالية، حيث أن افتقاد القيادة الملهمة قد أربك إدارة مرحلة الانتقال
سواء من حيث تحديد أولويات العمل أو سرعة الإنجاز، لان توافر قيادة فعلية
للثورة لديها شبه إجماع عام كان سيمكنها من اتخاذ خطوات أكثر جرأة
واستقلالية تجاه العديد من القضايا التى أثارت الخلاف بين القوى الوطنية من
قبيل القضايا سالفة الذكر، وذلك فى مواجهة انفراد القيادات العسكرية بزمام
الأمور، كما أنه كان سيمكنها من احتواء الخلافات والانقسامات وإزالة
التخوفات الوهمية التى تسيطر على بعض القوى الوطنية.
• أداء المجلس
العسكرى فى تسيير الأمور فى المرحلة الانتقالية، فالنموذج الثورى المصرى
الذى نتج عن قيام الشعب بالثورة وتأييد الجيش لها قد جعل السلطة فى يد
المجلس العسكرى، وبما أن الجيش مؤسسة عسكرية وطنية مهمتها هى الحفاظ على
الأمن القومى لمصر والدفاع عن حدودها ومصالحها القومية ويتسم بقدر كبير من
الجدية والالتزام والحزم ويعاقب بقسوة على الانفلاتات أو الانقلابات أو
عصيان الأوامر داخل صفوفه، فان دخوله إلى لعب دور سياسى - بإرثه وتكوينه
وثقافته وصرامته العسكرية - قد أثر بصورة كبيرة على طبيعة تفكيره فى إدارة
مرحلة الانتقال، التى كانت فى حاجة إلى الثورية والابتكار والإبداع أحيانا
فى مواجهة مقتضيات الفعل الثورى الذى يتناسب مع مصر بعد 25 يناير، وكذلك
التعامل مع الأزمات والمشكلات المتتالية، والضغوط السياسية الخارجية
والداخلية التى تواجهها مصر فى المرحلة الراهنة.
• سيطرة فكرة الانتقام
وملاحقة الفساد على الانتباه لضرورات المرحلة الانتقالية، فالمعروف أن
الثورة جاءت لتزيل نظام قديم وتقيم نظام جديد بديل، والثوار قد استغرقوا
كثيرا فى الحديث حول بقايا النظام القديم، وانشغلوا بالفساد فى كل مؤسسات
الدولة عن القضايا الهامة والملحة، وهو الأمر الذى أدى إلى تبنى المجلس
العسكرى لنموذج اقرب للنموذج الاصلاحى منه للنموذج الثورى فى إدارة المرحلة
الانتقالية، وهو أمر حتما خلق صدامات واختلافات حقيقية حول بعض القضايا
الوطنية وعلى رأسها التعديلات الدستورية التى جسدت فى الحقيقة نمط الجيش
ورؤيته الكلاسيكية للعمل فى بداية المرحلة الانتقالية، حيث عمد إلى استكمال
عمل الجنة التى شكلها النظام السابق لتعديل بعض مواد الدستور القديم،
وكأنه تسلم السلطة من النظام السابق ليكمل مسيرته ولكن برعاية إصلاحات
سياسية مقبولة شعبيا، هذا بالإضافة إلى تعمد تأخير محاكمة رموز النظام
السابق وعلى رأسهم الرئيس القديم ولم تأت المحاكمة إلا تحت وطأة الضغط
الشعبى المليونى فى ميدان التحرير وفى محافظات مصر.
• الإدراك الوهمى
لحدود مؤسسة الفساد فى مصر وتأثيرها على تحقيق التحول الآمن والسريع نحو
الديمقراطية، فمنظومة الفساد فى مصر لم تكن محصورة فقط فى عائلة الرئيس أو
حزبه بل الفساد كان متغلغلا فى كل المؤسسات، وهو فساد يقاوم بقوة محاولات
الإصلاح ويدافع عن مصالحه التى ارتبطت بالاستبداد والبيروقراطية العتيقة
المتغلغلة فى بنية الدولة من قاعدتها إلى قمتها، ومع الأسف فهذه المنظومة
تطال قلاع قضائية وإعلامية وأمنية هامة ومؤثرة فى صنع القرار، مرتبطة مع
دوائر المال والحكم والإعلام فى صورة علاقات زبائنية لا تخلو من وجوه
عشائرية ساهمت كلها بشدة فى ضبابية المرحلة الانتقالية، وحاولت خلق بعض
الجدل والخلافات ساهم بدوره فى التعتيم كثيرا على المسار الواضح للطريق
السليم الذى يصل بمصر إلى هدفها، وتعتبر هذه البيروقراطية التى ترعرعت ونمت
فى عصر الاستبداد احد أهم معوقات عمليات الانتقال فى معظم التجارب السابقة
فى كثير من بلدان العالم.
• الظهور القوى السياسى والاجتماعى للتيارات
السلفية والجهادية على اختلاف انتماءاتها بعد سقوط النظام القديم وإضلاعها
بلعب دور سياسى على الساحة دون خبرة سابقة، حيث مثلت اراء هذه الجماعات
صدمة مجتمعية وأثارت مواقفهم مخاوف على نطاق واسع وهذا الوضع بدوره قد زاد
من تعقيدات المرحلة الانتقالية ومن حدة الانقسام المجتمعى والخلافات حول
قضايا أولية وفى غير موعدها لا تتعلق من قريب بالأهداف الكبرى للثورة وعلى
رأسها بناء نظام ديمقراطى حقيقى، بل انشغل المجتمع بقضايا ذات طابع دينى
تأويلى خلافى بطبعه، ولعبت هذه الجماعات دور فى تفجر أزمة الطائفية،
واستغلت أطراف داخلية وخارجية خطابها المتشدد فى تأجيج الخلاف سواء بين
الإسلاميين والليبراليين أو بين المسلمين والمسيحيين وهو ما يهدد الوحدة
الوطنية واستقرار الدولة المصرية، التى تقف أمام مرحلة تاريخية فى غاية
التعقيد والصعوبة.
• الضغوط الإقليمية وهى ضغوط ناتجة عن خوف بعض
الأنظمة الإقليمية من تسونامى الحرية فى العالم العربى، وخصوصا فى مصر التى
تملك قدرة كبيرة على التأثير الايجابى فى محيطها الجغرافى، لذا تعمل هذه
الأنظمة المستبدة على محاولة حصر تأثير الثورة المصرية فى إطار اصلاحى وليس
تغييرا جذريا يطال بنية المجتمع والدولة لما يحمله ذلك من تأثير على
استقرار هذه الأنظمة وبقائها فى الحكم فى المستقبل، كما أن هذه الأنظمة لها
تأثيرها ونفوذها القوى على بعض التيارات فى مصر.
• الضغوط الأمريكية
والإسرائيلية والتى لديها خوف وهاجس قوى لا يقل عن هواجس بعض القوى
الداخلية والعربية من هيمنة التيار الاسلامى على الدولة المصرية وتبنيه
لأجندات مربكة لحسابات هذه القوى فى الإقليم، فهناك خوف شديد من تصاعد قوة
الحركات الإسلامية فى مصر ودخولها فى الصراع السياسى وإمكانية مساهمتها أو
انفرادها بصناعة القرار فى مصر.
الطريق الثالث
ونظرا لحدة الخلاف بين
القوى الوطنية حول قضية الدستور أولا أم الانتخابات فقد ظهر اتجاه يحاول
تفادى هذين المسارين المتقاطعين عن طريق فتح طريق ثالث من اجل عبور الأزمة
وفى نفس الوقت تحقيق الصالح العام بإنهاء حالة الانقسام التى تمثل واحدة من
المهددات الخطيرة لمسار الثورة المصرية، وقد عبر عن هذا الطريق الثالث
رؤيتين:
وتأتى الرؤية الأولى نتيجة جهود 55 حزبا وحركة سياسية طالبت
رئيس الوزراء بإحالة الخلاف القانونى حول أولوية الانتخابات أم الدستور إلى
قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، استنادا إلى نص المادة 66 من قانون
مجلس الدولة فقرة أ، التى تنص على اختصاص القسم بإبداء الرأى فى المسائل
الدولية والدستورية والتشريعية التى تحال إليه بسبب أهميتها من رئيس
الجمهورية أو رئيس الهيئة التشريعية أو رئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء.
واستند
الموقعون على الرسالة التى صاغها الفقيه القانونى محمد نور فرحات، فى
طلبهم إلى ثلاثة دفوع فقهية هى: أولا أن نتائج ما يتعلق بمنهج وضع الدستور
الجديد لم يتم تبنيها تماما بواسطة الإعلان الدستورى، حين أغفل الإعلان
النص على الفقرة الأخيرة من المادة 189 مكرر التى أضافتها التعديلات ووافق
عليها الشعب والتى تشترط أن يكون وضع الدستور الجديد بناء على طلب رئيس
الجمهورية بعد موافقة نصف أعضاء مجلس الشعب والشورى، وتبنى الإعلان فى
مادته رقم 60 نص المادة 189 مكرر من التعديلات التى توجب على الأعضاء غير
المعينين بالبرلمان تشكيل لجنة لوضع دستور جديد فى إطار زمنى محدد، دون
إحالة إلى المادة 189 التى أغفلها الإعلان، مما يكشف عن الإعلان تعامل
بطريقة انتقائية مع نتائج الاستفتاء، وأن مصدر القوى الإلزامية لنصوص
الإعلان ليس مرجعها موافقة الشعب عليها وإنما صدورها عن المجلس الأعلى
للقوات المسلحة.
ثانيا: أن مؤدى الاستفتاء على التعديل والموافقة عليه
أن يعود دستور 1971 إلى النفاذ بنصوصه المعدلة وغير المعدلة، فموافقة الشعب
على إلغاء المادة 179 من هذا الدستور والخاصة بالإرهاب تعنى الموافقة على
إلغاء هذه المادة وحدها دون أن يشمل إلغاء الدستور بأكمله، وهذا ما لم
يحدث، إذ جرى استبداله بالإعلان الدستورى الصادر عن المجلس الأعلى للقوات
المسلحة، مما يفيد بأن هذا الإعلان يستند إلى إرادة المجلس الأعلى وليس
نتيجة الاستفتاء الشعبى.
أما ثالث هذه الدفوع: فيذهب إلى أن القول بأن
بعض مواد الإعلان الدستورى (المواد المستفتى عليا) تستمد شرعيتها من موافقة
الشعب، والبعض الآخر من صدورها من المجلس الأعلى (غير المستفتى عليها)
لكان هذا مبعثا للتمييز والاضطراب فى التعامل مع نصوص الإعلان، ومن ثم فإن
تحقيق الاتفاق بين مواد الإعلان، فإنه لا بديل عن التسليم بأن الاستفتاء
الشعبى على بعض المواد كان مصدرا استئناسيا واسترشاديا للمجلس الأعلى
للقوات المسلحة، وأن كل نصوص ومواد الإعلان الدستورى تستمد قوتها الملزمة
من صدورها عن السلطة صاحبة السيادة التشريعية والدستورية وهى المجلس
الأعلى.
وكان من أبرز الموقعين على الرسالة "الجمعية الوطنية للتغيير"
و"المجلس الوطنى المصرى" وأحزاب "الجبهة الديموقراطية" و"الغد (أيمن نور)"
و"المصرى الاجتماعى الديموقراطى" و"العدل" و"الشيوعى المصرى" و"التحالف
الشعبى الاشتراكى" و"الاشتراكى المصرى" و"التحرير المصرى" وحركتى "كفاية"
و"شباب 6 أبريل" و"شباب من أجل العدالة والحرية".
أما الرؤية الثانية
فقد طرحها الدكتور محمد البرادعى، وهى بمثابة حل توفيقى للسجال الدائر:
الانتخابات أولا أم الدستور؟، وتتلخص الفكرة - وهى ليست جديدة - فى طرح
وثيقة دستورية تحمل «مبادئ قيام الدولة المصرية وحقوق المواطن المصرى
الأصيلة» استنادا إلى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان.
وطبقا لهذه
الوثيقة، فإن لكل مواطن الحق فى حرية الاعتقاد والتعبير عن الرأى وغير ذلك
من الحقوق. وأن تكون محاكمته أمام قاضيه الطبيعى ولا يتعرض للتعذيب أو
انتهاك حقوقه. وهذه الوثيقة التى تضمن حماية المصريين أيا كان شكل الدولة
مدنية أو برلمانية أو رياسية ثابتة لا يجوز تعديلها أو المساس بها. بينما
يمكن تعديل الدستور والقانون!
وهذه الوثيقة لو تم التوافق عليها يمكن
طرحها للشعب لإقرارها كإعلان دستورى، تجرى الانتخابات على هديها تشريعية
ورياسية. وتتاح الفرصة فى هدوء لصياغة دستور دائم جديد فى أجواء أقل توترا
تسد الفجوة بين الفريقين: الداعين للانتخابات أولا، والداعين للدستور أولا.
وتبدو
المقاربة التوفيقية التى يطرحها الدكتور البرادعى تستدعى الاهتمام وتخلق
مخرجا مناسبا للخلاف الوطنى الحاد وذلك لأننا فى حاجة ماسة لتوافق وطنى
وذلك فى ضوء الحقائق التالية:
1- تبدو مصر فى مرحلة مهمة من مراحل
التأسيس للنموذج الديمقراطى الحديث وتكريس ثقافة احترام الرأى والرأى الآخر
ومن غير المقبول أن أولى هذه الخطوات أن يتم التراجع فيها عن الإرادة
الشعبية التى عبرت عن نفسها فى التصويت بنعم للتعديلات الدستورية، كما انه
يمكن تفادى المأزق عبر هذا المخرج الذى سيضمن لكل فريق تحقيق ما يرنو إليه.
2-
أن هناك مخاطر من بقاء الجيش فى السلطة لفترة طويلة خاصة وانه يرغب فى
سرعة انتقال السلطة إلى المدنيين، والعودة إلى ثكناته لمباشرة مهامه فى
حماية امن مصر وحماية حدوده ويمثل الحل التوافقى ضمانة للتحول الديمقراطى
كما انه يسير على الطريق الذى رسمه المجلس العسكرى.
3- أن خريطة الأوزان
النسبية للقوى والأحزاب السياسية لن تتغير بإرجاء الانتخابات لفترة أطول،
ولن يضمن الدستور لاى من هذه القوى حضورا أقوى، لان أية جماعة سياسية هى
انعكاس لجملة من المصالح والامتدادات الاجتماعية والاقتصادية وانعكاس
لتوافق فى الرؤية والمنظور لمجموعة كبيرة من أبناء المجتمع.
4- أننا فى
حاجة إلى الانتقال من مرحلة تسيير الأعمال إلى مرحلة المسئولية عن هذه
الأعمال والتى سوف تأتى بالانتخابات حيث يبدو الفارق شاسع بين التسيير الذى
تتسم أعماله بالخوف والتردد، وبين المسئولية التى تتسم بالمراجعة
والمحاسبة والرغبة فى الإنجاز.
5- نحن فى حاجة إلى جهد كبير من اجل
إعادة بناء ثقافة المواطن وهذا يتطلب ثورية فى التفكير والإدارة وطول فترة
الانتقال تبقى الوجوه القديمة وأشباهها من أبناء ثقافة الاستبداد فى
مواقعهم بما يعطل مسار الثورة من النفاذ إلى كل أركان دولة الاستبداد.
6-
ان هناك قوى تتربص بالثورة وترى أنها قد قضت على مكتسباتها وهؤلاء كانوا
مستفيدين من النظام السابق وعدم التسريع بخوض غمار الانتخابات يعطى هؤلاء
فرص مقاومة التغيير ويمكنهم من خلال تواجهم فى بعض مواقع القيادة من التجمع
والتشويش على مسار الثورة.
7- استمرار غياب الأمن وتنامى ظواهر
الانفلات وبالتالى تنامى ظواهر قطع الطرق والبلطجة وهو ما يصاحبه عدم
استقرار اقتصادى يؤثر على قدرة مصر على استعادة عافيتها بسرعة وهو ما قد
يؤدى إلى توترات اجتماعية وسياسية ضخمة.
أسئلة
كثيرة وجدل لا ينفض يطفو على الساحة السياسية المصرية، حالة من الاستنفار
الفكرى والاستقطاب الايديولوجى لا مبرر لها، فقدان لحالة التوافق الوطنى
حول خريطة واضحة تحدد ملامح العبور بمصر الثورة إلى الحلم الافتراضى ببناء
دولة ديمقراطية دستورية قوية اقتصاديا وعسكريا وسياسيا تحقيقا لأهداف
وطموحات جموع المصريين الذين خرجوا فى 25 يناير.
حالة تخوف من قوة جماعة
الإخوان المسلمين بعدما أتاحت لهم الثورة حرية العمل وحرية التعبير عن
أنفسهم ودخولهم كلاعب رئيسى فى صياغة ملامح هذه المرحلة، إحساس بعض
التيارات والأحزاب بخفة الوزن السياسى وعدم قدرتها على جذب مؤيدين يدعمون
موقفها فى الوجود الفعلى فى الفاعليات والمؤسسات قيد التشكل فى المرحلة
القادمة، خلاف عميق حول أولوية الدستور أم الانتخابات البرلمانية.
انقسامات تهدد مسار الثورة
المحصلة
النهائية حالة من الانقسام طغت على الساحة السياسية المصرية فى الفترة
الأخيرة. تجسدت فى الدعوات إلى تظاهرات وتظاهرات مضادة، تخللها محاولات
لإضفاء شرعية شعبية على رأى المؤيدين ورأى الرافضين، المؤيدين وهم حركة
كفاية وائتلاف شباب الثورة وحزب الجبهة الديمقراطية والجمعية الوطنية
للتغيير وحركة 6 ابريل وحزب التجمع وحزب الغد ( ايمن نور) والمجلس الوطنى
المصرى تركز مطلبها الرئيسي فى تأجيل الانتخابات وكتابة دستور جديد باعتبار
الدستور ضمانة لدولة لا دينية تخشى هذه القوى تدعيم فرص وجودها فى حالة
فوز التيار الدينى وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين بالأغلبية البرلمانية،
وقيامها بالانفراد بتشكيل الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور بما يعبر عن
توجهاتها وإيديولوجيتها، ويضفى صبغة دينية على دستور مصر الجديد.
قوى
أخرى لها رأى مختلف هى جماعة الأخوان المسلمين والجماعات السلفية وحزب
الوفد وحزب الوسط ترى ضرورة احترام خيار الشعب فى الاستفتاء لهذا اعتبرت
جمعة الغضب الثانية ثورة ضد الشعب أو أغلبيته الواضحة، أو وقيعة بين الشعب
وقواته المسلحة وقيادتها الممثلة فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. الواقع
يمثل أزمة حقيقية.
ويمكن رصد الأزمة فى تصاعد الحملات الإعلامية
والصحفية على الجانبين واختفاء لغة الحوار الحضارى رغم أن حيثيات كل طرف فى
تبرير رأيه تستند إلى وجهة نظر قابلة للنقاش، وبدا بوضوح حدة الصراع بين
القوى المختلفة فى تلك المرحلة التى تتسم بالحساسية الشديدة، وهذا طبيعى
لكنه كان صراع على قليل نتج عن ثورة لم تؤتى ثمارها بعد، وتم اتباع نهج
التشكيك وتبادل الاتهامات، وتغليب المصالح المرحلية على الأهداف الكبرى،
واختفت روح ميدان التحرير كما كان الحال فى ذروة الأزمة حيث تجلت قمة
التلاحم بين القوى الوطنية، حيث تمت العودة إلى التخندق والحشد اللاموضوعى
لترويج كل طرف لأفكاره. والمشكلة الحقيقية أن هذا الانقسام يحدث فى مرحلة
انتقالية متلكأة قد تنجح فى تحقيق عبور ديمقراطى حقيقى أو الدخول فى نفق
مظلم طويل، من هنا يثور التساؤل هل الأزمة تعبير عن خوف من القوى
الليبرالية على طبيعة وشكل الدولة المصرية بعد الثورة إذا انفرد فريق أو
إيديولوجية ما بالقيام بهذه المهمة فعلا؟، أم أنه الخوف من الاحتكام
لصناديق الاقتراع مغبة معرفة الأوزان الحقيقية للأحزاب والقوى السياسية؟،
أم على جانب آخر هل هى انتهازية سياسية من جانب القوى الإسلامية وخاصة
جماعة الإخوان المسلمين الأكثر استعدادا لاى انتخابات قادمة بحكم تنظيمها
القوى وانتشارها الجغرافى الذى يغطى كل مصر وجماهيريتها الكبيرة؟، أم أنه
تفكير واقعي فى التعامل مع المعطيات على الأرض، والتى فرضتها ظروف الثورة
المصرية التى صنعها الشعب وتسلم مقاليد أمورها الجيش والتى تقتضى بحسب رؤية
جماعة الإخوان والقوى المؤيدة لها سرعة تسليم السلطة للمدنيين خشية حدوث
ما لا يحمد عقباه على حين غفلة حال طول فترة مرحلة الانتقال؟.
إشكاليات المرحلة الانتقالية وخطورة الانقسام
ورغم
وجاهة الرأى القائل بأنه عند التأسيس لمرحلة جديدة هو أولوية الاتفاق على
الأطر والقواعد الدستورية والقانونية التى سوف يتم الاحتكام إليها قبل
البدء فى مسارات الفعل الحقيقى لبناء هذه المرحلة، وهو الأمر الذى يتفق مع
المنطق، كما انه يمثل ضمان لكل القوى الوطنية من انحراف مسار الديمقراطية
والانجراف نحو حكم سلطوى أو عسكرى، لكن خطوات عملية التحول فى مرحلة
الانتقال قد شهدت اضطراب فى تحديد جدول زمنى توافقى حول أولويات العمل فى
هذه المرحلة المهمة فى الانتقال من مرحلة الفعل الثورى إلى مرحلة البناء
الثورى ويمكن أن يرجع ذلك إلى عدد من الإشكاليات هى:
• غياب التوافق حول
أولويات العمل فى مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق بين القوى الوطنية
والمجلس العسكرى من جهة، وبين القوى الوطنية التى شاركت فى الثورة من جهة
أخرى، حيث خلق خلاف القوى الوطنية حول القضايا المطروحة وضعا مرتبكا زادت
حدته تحت وطأة اتساع مساحات الخلاف والاستقطاب وتبادل الاتهامات، وهو فى
الحقيقة انحراف بمسار الثورة عن الطريق الصحيح، وخلاف ليس فى موضعه.
فالسؤال الحقيقى والجدل الذى يجب أن يسيطر على الساحة السياسية فى مصر كان
يجب أن يدور حول أولوية أسئلة البناء والمعالجة وطرح الحلول وهى أسئلة
مرتبطة بالمستقبل وبمصير الثورة فى حد ذاتها، وهى أسئلة لن يتم الإجابة
عليها إلا فى ضوء إجماع وطنى يرفع شعار موحد، لان ظهور مطالب جديدة لا تعبر
عن إجماع وطنى تخلق بدورها ثغرات وتمهد الطريق لعمليات اختراق وتعطيل
لمسار الثورة. ولنا أن نراجع تأثير دعوات التظاهر المليونية فى أيام الجمعة
منذ سقوط الرئيس السابق، حيث تحققت مطالب الثوار فى الجُمع التى شهدت
إجماعا وطنيا، مقارنة بالتظاهرات التى كانت دعواتها تعكس خلافا بين القوى
الوطنية حول أصل الدعوة والمطالب التى ترفعها فى جُمع أخرى.
• أزمة
النخبة السياسية فى مصر وعجزها عن إدارة خلافاتها، ويذكرنا الخلاف الحالى
بحال المعارضة فى عهد ما قبل الثورة، حيث سيطر الانقسام على المعارضة فى
مواجهة نظام الرئيس السابق مبارك وحبذت بعض تيارات النخبة استبداد النظام
السابق على حرية تفتح المجال أمام كل القوى السياسية، أو بالاحرى جماعة
الأخوان المسلمين باعتبارها البديل الجاهز ليحل محل النظام فى أية انتخابات
نزيهة، وهو ما استغله النظام السابق فى اختراق وضرب القوى الوطنية وفرض
أجندة استبدادية فى ظل حالة التشتت والخلاف أو الاختراق التى سيطرت على
المعارضة، والانقسام فى الوقت الحالى فى الحقيقة يضعف ويعطل تنفيذ المطالب
الوطنية من جانب القيادات الفعلية للمرحلة الانتقالية فى المجلس العسكرى او
الحكومة، وهو فرصة كبير لظهور وتنفيذ أجندات بديلة ربما لا تصب فى الإطار
العام والثوابت والمسارات الناجزة فى تحقيق تحول ديمقراطى حقيقى.
•
انتقال الخلاف النخبوى حول قضايا المرحلة الانتقالية إلى خلاف على المستوى
الجماهيرى والشعبى، وهو الأمر الذى يُفقد الجماهير الثقة فى القيادات
الوطنية التى تبدو منخرطة فى صراع تُغلب فيه مصالحها الضيقة، وهو ما قد
يؤثر على الزخم الثورى الجماهيرى الذى يمثل ضمانة حقيقية لتحقيق غايات
الثورة. بالإضافة إلى حالة الاستقطاب ودعاوى التخوين، التى تنخر فى حالة
الاتفاق والتوافق التى نتجت فى الميدان وتأثيرها السلبى على الالتفاف حول
ثوابت مشتركة تتراجع أمام الخلافات التى أنتجتها النخبة فى صراعها السياسى،
الذى هو بالأساس صراع على كعكة سياسية لم تكتمل بعد.
• غياب القيادة
العابرة للاختلافات أو تغييبها عن عمد فالثورة عندما قامت لم تكن بلا زعامة
أو قيادة، وهذا كان له أثره السلبى الذى ظهر فى عملية إدارة المرحلة
الانتقالية، حيث أن افتقاد القيادة الملهمة قد أربك إدارة مرحلة الانتقال
سواء من حيث تحديد أولويات العمل أو سرعة الإنجاز، لان توافر قيادة فعلية
للثورة لديها شبه إجماع عام كان سيمكنها من اتخاذ خطوات أكثر جرأة
واستقلالية تجاه العديد من القضايا التى أثارت الخلاف بين القوى الوطنية من
قبيل القضايا سالفة الذكر، وذلك فى مواجهة انفراد القيادات العسكرية بزمام
الأمور، كما أنه كان سيمكنها من احتواء الخلافات والانقسامات وإزالة
التخوفات الوهمية التى تسيطر على بعض القوى الوطنية.
• أداء المجلس
العسكرى فى تسيير الأمور فى المرحلة الانتقالية، فالنموذج الثورى المصرى
الذى نتج عن قيام الشعب بالثورة وتأييد الجيش لها قد جعل السلطة فى يد
المجلس العسكرى، وبما أن الجيش مؤسسة عسكرية وطنية مهمتها هى الحفاظ على
الأمن القومى لمصر والدفاع عن حدودها ومصالحها القومية ويتسم بقدر كبير من
الجدية والالتزام والحزم ويعاقب بقسوة على الانفلاتات أو الانقلابات أو
عصيان الأوامر داخل صفوفه، فان دخوله إلى لعب دور سياسى - بإرثه وتكوينه
وثقافته وصرامته العسكرية - قد أثر بصورة كبيرة على طبيعة تفكيره فى إدارة
مرحلة الانتقال، التى كانت فى حاجة إلى الثورية والابتكار والإبداع أحيانا
فى مواجهة مقتضيات الفعل الثورى الذى يتناسب مع مصر بعد 25 يناير، وكذلك
التعامل مع الأزمات والمشكلات المتتالية، والضغوط السياسية الخارجية
والداخلية التى تواجهها مصر فى المرحلة الراهنة.
• سيطرة فكرة الانتقام
وملاحقة الفساد على الانتباه لضرورات المرحلة الانتقالية، فالمعروف أن
الثورة جاءت لتزيل نظام قديم وتقيم نظام جديد بديل، والثوار قد استغرقوا
كثيرا فى الحديث حول بقايا النظام القديم، وانشغلوا بالفساد فى كل مؤسسات
الدولة عن القضايا الهامة والملحة، وهو الأمر الذى أدى إلى تبنى المجلس
العسكرى لنموذج اقرب للنموذج الاصلاحى منه للنموذج الثورى فى إدارة المرحلة
الانتقالية، وهو أمر حتما خلق صدامات واختلافات حقيقية حول بعض القضايا
الوطنية وعلى رأسها التعديلات الدستورية التى جسدت فى الحقيقة نمط الجيش
ورؤيته الكلاسيكية للعمل فى بداية المرحلة الانتقالية، حيث عمد إلى استكمال
عمل الجنة التى شكلها النظام السابق لتعديل بعض مواد الدستور القديم،
وكأنه تسلم السلطة من النظام السابق ليكمل مسيرته ولكن برعاية إصلاحات
سياسية مقبولة شعبيا، هذا بالإضافة إلى تعمد تأخير محاكمة رموز النظام
السابق وعلى رأسهم الرئيس القديم ولم تأت المحاكمة إلا تحت وطأة الضغط
الشعبى المليونى فى ميدان التحرير وفى محافظات مصر.
• الإدراك الوهمى
لحدود مؤسسة الفساد فى مصر وتأثيرها على تحقيق التحول الآمن والسريع نحو
الديمقراطية، فمنظومة الفساد فى مصر لم تكن محصورة فقط فى عائلة الرئيس أو
حزبه بل الفساد كان متغلغلا فى كل المؤسسات، وهو فساد يقاوم بقوة محاولات
الإصلاح ويدافع عن مصالحه التى ارتبطت بالاستبداد والبيروقراطية العتيقة
المتغلغلة فى بنية الدولة من قاعدتها إلى قمتها، ومع الأسف فهذه المنظومة
تطال قلاع قضائية وإعلامية وأمنية هامة ومؤثرة فى صنع القرار، مرتبطة مع
دوائر المال والحكم والإعلام فى صورة علاقات زبائنية لا تخلو من وجوه
عشائرية ساهمت كلها بشدة فى ضبابية المرحلة الانتقالية، وحاولت خلق بعض
الجدل والخلافات ساهم بدوره فى التعتيم كثيرا على المسار الواضح للطريق
السليم الذى يصل بمصر إلى هدفها، وتعتبر هذه البيروقراطية التى ترعرعت ونمت
فى عصر الاستبداد احد أهم معوقات عمليات الانتقال فى معظم التجارب السابقة
فى كثير من بلدان العالم.
• الظهور القوى السياسى والاجتماعى للتيارات
السلفية والجهادية على اختلاف انتماءاتها بعد سقوط النظام القديم وإضلاعها
بلعب دور سياسى على الساحة دون خبرة سابقة، حيث مثلت اراء هذه الجماعات
صدمة مجتمعية وأثارت مواقفهم مخاوف على نطاق واسع وهذا الوضع بدوره قد زاد
من تعقيدات المرحلة الانتقالية ومن حدة الانقسام المجتمعى والخلافات حول
قضايا أولية وفى غير موعدها لا تتعلق من قريب بالأهداف الكبرى للثورة وعلى
رأسها بناء نظام ديمقراطى حقيقى، بل انشغل المجتمع بقضايا ذات طابع دينى
تأويلى خلافى بطبعه، ولعبت هذه الجماعات دور فى تفجر أزمة الطائفية،
واستغلت أطراف داخلية وخارجية خطابها المتشدد فى تأجيج الخلاف سواء بين
الإسلاميين والليبراليين أو بين المسلمين والمسيحيين وهو ما يهدد الوحدة
الوطنية واستقرار الدولة المصرية، التى تقف أمام مرحلة تاريخية فى غاية
التعقيد والصعوبة.
• الضغوط الإقليمية وهى ضغوط ناتجة عن خوف بعض
الأنظمة الإقليمية من تسونامى الحرية فى العالم العربى، وخصوصا فى مصر التى
تملك قدرة كبيرة على التأثير الايجابى فى محيطها الجغرافى، لذا تعمل هذه
الأنظمة المستبدة على محاولة حصر تأثير الثورة المصرية فى إطار اصلاحى وليس
تغييرا جذريا يطال بنية المجتمع والدولة لما يحمله ذلك من تأثير على
استقرار هذه الأنظمة وبقائها فى الحكم فى المستقبل، كما أن هذه الأنظمة لها
تأثيرها ونفوذها القوى على بعض التيارات فى مصر.
• الضغوط الأمريكية
والإسرائيلية والتى لديها خوف وهاجس قوى لا يقل عن هواجس بعض القوى
الداخلية والعربية من هيمنة التيار الاسلامى على الدولة المصرية وتبنيه
لأجندات مربكة لحسابات هذه القوى فى الإقليم، فهناك خوف شديد من تصاعد قوة
الحركات الإسلامية فى مصر ودخولها فى الصراع السياسى وإمكانية مساهمتها أو
انفرادها بصناعة القرار فى مصر.
الطريق الثالث
ونظرا لحدة الخلاف بين
القوى الوطنية حول قضية الدستور أولا أم الانتخابات فقد ظهر اتجاه يحاول
تفادى هذين المسارين المتقاطعين عن طريق فتح طريق ثالث من اجل عبور الأزمة
وفى نفس الوقت تحقيق الصالح العام بإنهاء حالة الانقسام التى تمثل واحدة من
المهددات الخطيرة لمسار الثورة المصرية، وقد عبر عن هذا الطريق الثالث
رؤيتين:
وتأتى الرؤية الأولى نتيجة جهود 55 حزبا وحركة سياسية طالبت
رئيس الوزراء بإحالة الخلاف القانونى حول أولوية الانتخابات أم الدستور إلى
قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، استنادا إلى نص المادة 66 من قانون
مجلس الدولة فقرة أ، التى تنص على اختصاص القسم بإبداء الرأى فى المسائل
الدولية والدستورية والتشريعية التى تحال إليه بسبب أهميتها من رئيس
الجمهورية أو رئيس الهيئة التشريعية أو رئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء.
واستند
الموقعون على الرسالة التى صاغها الفقيه القانونى محمد نور فرحات، فى
طلبهم إلى ثلاثة دفوع فقهية هى: أولا أن نتائج ما يتعلق بمنهج وضع الدستور
الجديد لم يتم تبنيها تماما بواسطة الإعلان الدستورى، حين أغفل الإعلان
النص على الفقرة الأخيرة من المادة 189 مكرر التى أضافتها التعديلات ووافق
عليها الشعب والتى تشترط أن يكون وضع الدستور الجديد بناء على طلب رئيس
الجمهورية بعد موافقة نصف أعضاء مجلس الشعب والشورى، وتبنى الإعلان فى
مادته رقم 60 نص المادة 189 مكرر من التعديلات التى توجب على الأعضاء غير
المعينين بالبرلمان تشكيل لجنة لوضع دستور جديد فى إطار زمنى محدد، دون
إحالة إلى المادة 189 التى أغفلها الإعلان، مما يكشف عن الإعلان تعامل
بطريقة انتقائية مع نتائج الاستفتاء، وأن مصدر القوى الإلزامية لنصوص
الإعلان ليس مرجعها موافقة الشعب عليها وإنما صدورها عن المجلس الأعلى
للقوات المسلحة.
ثانيا: أن مؤدى الاستفتاء على التعديل والموافقة عليه
أن يعود دستور 1971 إلى النفاذ بنصوصه المعدلة وغير المعدلة، فموافقة الشعب
على إلغاء المادة 179 من هذا الدستور والخاصة بالإرهاب تعنى الموافقة على
إلغاء هذه المادة وحدها دون أن يشمل إلغاء الدستور بأكمله، وهذا ما لم
يحدث، إذ جرى استبداله بالإعلان الدستورى الصادر عن المجلس الأعلى للقوات
المسلحة، مما يفيد بأن هذا الإعلان يستند إلى إرادة المجلس الأعلى وليس
نتيجة الاستفتاء الشعبى.
أما ثالث هذه الدفوع: فيذهب إلى أن القول بأن
بعض مواد الإعلان الدستورى (المواد المستفتى عليا) تستمد شرعيتها من موافقة
الشعب، والبعض الآخر من صدورها من المجلس الأعلى (غير المستفتى عليها)
لكان هذا مبعثا للتمييز والاضطراب فى التعامل مع نصوص الإعلان، ومن ثم فإن
تحقيق الاتفاق بين مواد الإعلان، فإنه لا بديل عن التسليم بأن الاستفتاء
الشعبى على بعض المواد كان مصدرا استئناسيا واسترشاديا للمجلس الأعلى
للقوات المسلحة، وأن كل نصوص ومواد الإعلان الدستورى تستمد قوتها الملزمة
من صدورها عن السلطة صاحبة السيادة التشريعية والدستورية وهى المجلس
الأعلى.
وكان من أبرز الموقعين على الرسالة "الجمعية الوطنية للتغيير"
و"المجلس الوطنى المصرى" وأحزاب "الجبهة الديموقراطية" و"الغد (أيمن نور)"
و"المصرى الاجتماعى الديموقراطى" و"العدل" و"الشيوعى المصرى" و"التحالف
الشعبى الاشتراكى" و"الاشتراكى المصرى" و"التحرير المصرى" وحركتى "كفاية"
و"شباب 6 أبريل" و"شباب من أجل العدالة والحرية".
أما الرؤية الثانية
فقد طرحها الدكتور محمد البرادعى، وهى بمثابة حل توفيقى للسجال الدائر:
الانتخابات أولا أم الدستور؟، وتتلخص الفكرة - وهى ليست جديدة - فى طرح
وثيقة دستورية تحمل «مبادئ قيام الدولة المصرية وحقوق المواطن المصرى
الأصيلة» استنادا إلى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان.
وطبقا لهذه
الوثيقة، فإن لكل مواطن الحق فى حرية الاعتقاد والتعبير عن الرأى وغير ذلك
من الحقوق. وأن تكون محاكمته أمام قاضيه الطبيعى ولا يتعرض للتعذيب أو
انتهاك حقوقه. وهذه الوثيقة التى تضمن حماية المصريين أيا كان شكل الدولة
مدنية أو برلمانية أو رياسية ثابتة لا يجوز تعديلها أو المساس بها. بينما
يمكن تعديل الدستور والقانون!
وهذه الوثيقة لو تم التوافق عليها يمكن
طرحها للشعب لإقرارها كإعلان دستورى، تجرى الانتخابات على هديها تشريعية
ورياسية. وتتاح الفرصة فى هدوء لصياغة دستور دائم جديد فى أجواء أقل توترا
تسد الفجوة بين الفريقين: الداعين للانتخابات أولا، والداعين للدستور أولا.
وتبدو
المقاربة التوفيقية التى يطرحها الدكتور البرادعى تستدعى الاهتمام وتخلق
مخرجا مناسبا للخلاف الوطنى الحاد وذلك لأننا فى حاجة ماسة لتوافق وطنى
وذلك فى ضوء الحقائق التالية:
1- تبدو مصر فى مرحلة مهمة من مراحل
التأسيس للنموذج الديمقراطى الحديث وتكريس ثقافة احترام الرأى والرأى الآخر
ومن غير المقبول أن أولى هذه الخطوات أن يتم التراجع فيها عن الإرادة
الشعبية التى عبرت عن نفسها فى التصويت بنعم للتعديلات الدستورية، كما انه
يمكن تفادى المأزق عبر هذا المخرج الذى سيضمن لكل فريق تحقيق ما يرنو إليه.
2-
أن هناك مخاطر من بقاء الجيش فى السلطة لفترة طويلة خاصة وانه يرغب فى
سرعة انتقال السلطة إلى المدنيين، والعودة إلى ثكناته لمباشرة مهامه فى
حماية امن مصر وحماية حدوده ويمثل الحل التوافقى ضمانة للتحول الديمقراطى
كما انه يسير على الطريق الذى رسمه المجلس العسكرى.
3- أن خريطة الأوزان
النسبية للقوى والأحزاب السياسية لن تتغير بإرجاء الانتخابات لفترة أطول،
ولن يضمن الدستور لاى من هذه القوى حضورا أقوى، لان أية جماعة سياسية هى
انعكاس لجملة من المصالح والامتدادات الاجتماعية والاقتصادية وانعكاس
لتوافق فى الرؤية والمنظور لمجموعة كبيرة من أبناء المجتمع.
4- أننا فى
حاجة إلى الانتقال من مرحلة تسيير الأعمال إلى مرحلة المسئولية عن هذه
الأعمال والتى سوف تأتى بالانتخابات حيث يبدو الفارق شاسع بين التسيير الذى
تتسم أعماله بالخوف والتردد، وبين المسئولية التى تتسم بالمراجعة
والمحاسبة والرغبة فى الإنجاز.
5- نحن فى حاجة إلى جهد كبير من اجل
إعادة بناء ثقافة المواطن وهذا يتطلب ثورية فى التفكير والإدارة وطول فترة
الانتقال تبقى الوجوه القديمة وأشباهها من أبناء ثقافة الاستبداد فى
مواقعهم بما يعطل مسار الثورة من النفاذ إلى كل أركان دولة الاستبداد.
6-
ان هناك قوى تتربص بالثورة وترى أنها قد قضت على مكتسباتها وهؤلاء كانوا
مستفيدين من النظام السابق وعدم التسريع بخوض غمار الانتخابات يعطى هؤلاء
فرص مقاومة التغيير ويمكنهم من خلال تواجهم فى بعض مواقع القيادة من التجمع
والتشويش على مسار الثورة.
7- استمرار غياب الأمن وتنامى ظواهر
الانفلات وبالتالى تنامى ظواهر قطع الطرق والبلطجة وهو ما يصاحبه عدم
استقرار اقتصادى يؤثر على قدرة مصر على استعادة عافيتها بسرعة وهو ما قد
يؤدى إلى توترات اجتماعية وسياسية ضخمة.