قد تختلف معه أكثر مما تتفق ، قد تراه أحد أكبر أبطال الإسلام ، وقد يراه البعض سببا مباشرا لنكبات المسلمين في العشرين سنة الأخيرة ، قد يؤيده فريق وقد يعارضه آخرون ، ولكن لا يملك أشد أعدائه وخصومه ومبغضيه ، فضلا عن مؤيديه ، إلا أن يثنوا على ثباته على مبادئه ، و تخليه عن الحياة الناعمة والثروة الطائلة من أجل نشر فكرته التي يؤمن بها ويعتنقها ، وهي الأمور التي جعلت أسامة بن لادن واحدا من أكثر الشخصيات المعاصرة تأثيرا ونفوذا على مجرى الأحداث ، وظل لسنوات طويلة يتصدر قائمة الشخصيات الأكثر نفوذا وتأثيرا في وسائل الإعلام العالمية .
ولعل السر وراء هذا التأثير والنفوذ والأهمية ، لا يعود فحسب للعمليات الجريئة والمدوية التي قام أتباعه في أمريكا وأوربا وفي بعض الدول العربية ووسط وشمال أفريقيا ، وجنوب شرق آسيا ، ولكن لأمر آخر يعرفه جيدا المتخصصون في أيدلوجية وحركية تنظيم القاعدة ، فبن لادن قد استطاع أن يؤسس فكرة رائدة تحمل قدرا واسعا من ذاتية الحركة والانتشار ؛ وهي فكرة الجهاد ضد العدو الصليبي واليهودي في كل بقاع العالم ، وهي الفكرة التي تحولت واقعا عمليا ممثلا في العديد من تنظيمات وجماعات العمل المسلح المنتشرة عبر العالم في خلايا عنقودية وأخرى نائمة ضد أمريكا وحلفائها ، فالأشخاص قد يموتون ، والتنظيمات قد تتفكك ، ولكن الأفكار الخلاقة السيادية من الصعب جدا أن تموت ، وتذهب بذهاب أصحابها ، فالأفكار والمناهج السائدة الآن في العالم على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، هي أفكار مات أصحابها ومؤسسوها منذ قرون ، وما زالت أفكارهم وآثارها حية ، وذكر أصحابها حيا ، وأسامة بن لادن من هذا النوع ، ففكرته أبدا لن تموت بموته ، ولن تسقط بسقوطه ، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عقب هذه الفرحة العارمة التي اجتاحت صفوف الأمريكيين والأوروبيين وحلفائهم لمقتل أسامة بن لادن ، هل سيندم الأمريكان على قتلهم لأسامة بن لادن ؟
كثيرٌ من المحللين يرى أن أمريكا لم تكن تريد قتل بن لادن ، بل كانت تريد أن تعتقله ، وتمارس عليه كل صنوف الضغوط والحرب النفسية ، للتأثير والنيل منه وإهانته قدر استطاعتها ، ومن ثم التأثير على أتباعه في كل مكان في العالم ، وخطة القتل لم تكن في الحسبان إلا للضرورة القصوى ، لأن أمريكا تعلم جيدا مغبة الإقدام على قتل شخص بحجم ورمزية أسامة بن لادن ، وغاية مخططاتها أن تفعل معه مثلما فعلت مع صدام ، اعتقال ثم محاكمة ثم إعدام ، لأن قتله بهذه الصورة سيرفعه عند أتباعه لمصاف الشهداء ، وسيكون باهظا جدا بالنسبة للأمريكان .
وكالة المخابرات الأمريكية CIA أعلنت منذ عدة أيام أن التحقيقات التي أجريت مع الذراع الأيمن لأسامة بن لادن ، خالد شيخ محمد قد كشفت أن تنظيم القاعدة قد خبأ قنبلة نووية من أجل تفجيرها حال القبض على زعيم التنظيم أو قتله ، وهو التصريح الذي كان يحمل العديد من المضامين والتوقعات المستقبلية عن آثار وتداعيات مثل هذا العمل الكبير ، وفي خطوة استباقية لما يمكن أن يقع من جراء هذه العملية ، وكان أوباما قد صرح في خطاب فجر اليوم أن المخابرات الأمريكية كانت تراقب مكان اختباء أسامة بن لادن منذ شهر أغسطس الماضي ، وأن المعلومات اللازمة لخطة الهجوم للاعتقال وليس القتل كما حدث ، وأسرار وتفاصيل العملية لم يتكشف حتى الآن ؟ بل إننا لا نستطيع أن نجزم بوقوعها بهذا السيناريو ، لأن مصدرها الوحيد هم الأمريكان ، وقد سبقوا وأعلنوا عن مثل هذا النوع من العمليات من قبل ، وإن كان أغلب الظن أنها قد وقعت بالفعل ، أوباما في ثنايا افتخاره بالحادث ، قال : أن قواتنا قد لاقت مقاومة عنيفة وشرسة من جانب أسامة بن لادن ومن معه ، والصور التي نقلتها وكالة الأنباء الباكستانية ( جيو ) لموقع الحادث كشفت عن حجم دمار كبير ، مما يوحي أن العملية قد استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والطائرات ، لأنه من الطبيعي جدا أن يكون أسامة بن لادن ورفاقه مسلحين تسليحا عاليا لمواجهة المخاطر والتهديدات الدائمة وليست المحتملة فحسب ، والدليل على ذلك ما ذكره مراسل قناة "الجزيرة" في إسلام آباد : أن عددا من المسئولين العسكريين الباكستانيين قالوا: إن مروحيتين تابعتين للجيش الأمريكي شاركتا في العملية الخاصة، وسقطت إحداهما وقتل من فيها، إلا أن تلك المعلومات لم تؤكد بعد من مصدر رسمي ، وللتأكيد على أن التنظيم ما زال باقيا وأن على الأمريكان توقع الكثير من الأيام الصعبة ، شدد أوباما على أن القاعدة ستواصل هجماتها ضد الولايات المتحدة .
وهنا لنا أن نقول هل ضحى الرئيس الأمريكي أوباما بأمن واستقرار وسلامة المواطن الأمريكي من أجل نيل تذكرة عبور للبيت الأبيض لفترة ثانية ، خاصة وأن الانتخابات قد باتت على الأبواب ؟
فمقتل أسامة بن لادن في الأعراف الدولية والسياسية يعتبر أمرا ثانويا مقارنة بالتهديدات الأخرى الأشد خطرا ، فالرجل قد أصبح ومنذ فترة طويلة رمزا وملهما للعديد من الجماعات والتنظيمات الجهادية ، لا يوجد أدنى تواصل أو تنسيق بينه ، وبين هذه الجماعات والتنظيمات المنتشرة في كل مكان في العالم ، نعم لأمريكا ثأر مع الرجل لا تمحوه السنون ، ولكن أمريكا يفترض فيها أنها دولة مؤسسات وسياسات واستراتيجيات نفعية في المقام الأول ، تضع يدها اليوم في يد ألد أعدائها بالأمس ، وتتخلى عن أقرب حلفائها بالأمس من أجل مصلحة اليوم ، وهكذا ولا معنى عندها للمشاعر والرغبات مادامت تعارضت مع مصالحها .
بل إن تنظيم القاعدة بات منذ فترة وخاصة في أعقاب الثورات العربية الأخيرة بعيدا عن الصورة ، وقد خفتَ تأثيره وبريقه لحد كبير ، بعد أن توارت الأنظمة الديكتاتورية أو العدو القريب على حد أبجديات الأيدلوجية الجهادية عند منظري التنظيم ، والتنظيم لم يقم بضربات فعلية مؤثرة تجاه أمريكا منذ فترة طويلة ، وما يقع الآن على أرض أفغانستان وباكستان هو من صنع حركة طالبان لا القاعدة ، فلم إذًا إثارة العالم كله بموجة كبيرة وواسعة من ردود الأفعال العنيفة والمتوقعة من جراء قتل بن لادن ؟ .
وأوباما بقتله لأسامة بن لادن قد حقق من وجهة نظره عدة مكاسب سياسية قد تعطيه دفعة كبيرة في سباق التجديد على الرئاسة الأمريكية ، فهو أولا قد حقق ما عجز عنه عدة رؤساء أمريكان من أول بوش الأب حتى بوش الابن ، وكسب الرهان على تنفيذ ما وعد به في أول رئاسته بأن يجعل الحرب على تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن أولويته القصوى ، كما أنه قد رمم بهذا الحادث شعبيته المتداعية من جراء الانهيارات الاقتصادية التي تعرضت لها أمريكا أيام رئاسته ، وهي الانهيارات التي منعنه من تحقيق الإصلاحات التي وعد بها في ميادين التأمين الصحي والرعاية الاجتماعية والتعليم وخفض الضرائب ، وأهم من ذلك كله أنه قد وجه ضربة ساحقة لكل من يتهمه بالحنين لأصوله الإسلامية ، خاصة تنظيم حفلة الشاي الجمهوري المتطرف الذي يشن حربا على أوباما متهما إياه بالإسلام ، وأبان أوباما عن إخلاصه لنصرانيته وأمريكا ، وكلها أمور ستجعل الناخب الأمريكي في الانتخابات المقبلة يتردد كثيرا قبل أن يصوت لمنافس أوباما الذي حقق المعجزة !
في حين يري البعض أن قتل بن لادن نصر استراتيجي مؤزر لأمريكا حققت به أهدافا كبيرة على المدى الطويل ، ووجهت به ضربة مؤثرة وربما قاضية لتنظيم القاعدة ، وذلك أن أمريكا قد رأت أن التنظيم سيتخلى بالتدريج عن سياسته في العمليات المسلحة داخل الدول العربية والإسلامية بعد تسونامي الثورات العربية والإسلامية التي اجتاحت وتجتاح رؤوس الفساد والطغيان في العالم العربي والإسلامي ، مما سيفتح الطريق أمام سهولة التجنيد في هذه الدول لأفراد جدد ينضمون للتنظيم في ظل غياب القبضة الأمنية القاسية للأنظمة الاستبدادية ، وهذا كله سيصب في خانة التركيز على العمل ضد أمريكا في الجبهات المتقدمة ، وداخل أمريكا وأوروبا نفسها ، وستشهد أمريكا وحلفاؤها موجة جديدة من العمليات المؤثرة ، بعد القضاء على العدو القريب ـ الأنظمة الاستبدادية ـ
ومهما يكن لأمريكا من دوافع وأسباب لهذا الحادث ، فإن أمريكا وحلفاءها وعلى رأسهم باكستان ، التي ستكون أول حليف لأمريكا سيشهد موجات انتقامية عنيفة لمقتل أسامة بن لادن ، ربما تطال رؤوسا كبارا في المنطقة من المتورطين في التحالف مع أمريكا ، وقد يأتي اليوم الذي يكتشف فيه أوباما أن قد أخطأ خطأ كبيرا بتنفيذ مثل هذه العملية ، ويندم عليها لأن الثمن والمقابل سيكون فادحا ، وربما يأتي اليوم الذي يتساءل فيه المواطن الأمريكي عن الدوافع الحقيقية لقتل الشيخ أسامة بن لادن ، ويصب فيه اللعنات على أوباما وإدارته التي تاجرت بأمن وسلامة أمريكا من أجل الحفاظ على الكرسي !!