منتدي شباب إمياي

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدي شباب إمياي

مجلس الحكماء

التسجيل السريع

:الأســـــم
:كلمة السـر
 تذكرنــي؟
 
من أعلام المسلمين ( ابن هبيرة) Support


    من أعلام المسلمين ( ابن هبيرة)

    ابو انس
    ابو انس
    صاحب مكان
    صاحب مكان


    النوع : ذكر
    عدد المشاركات : 2689
    العمر : 57
    تاريخ التسجيل : 17/01/2010
    مزاجي النهاردة : من أعلام المسلمين ( ابن هبيرة) Pi-ca-10

    من أعلام المسلمين ( ابن هبيرة) Empty من أعلام المسلمين ( ابن هبيرة)

    مُساهمة من طرف ابو انس 21/3/2011, 2:23 pm

    تبدو أهميةُ تراجمِ أعلام الإسلام: أنَّهم نماذجُ مضيئة تبيِّن أثر الإسلام ومبادئه وتعاليمه في أبنائه الذين التزموا به، وحكَّموه في كل أعمالهم، وجسَّدوه في كلِّ تصرُّفاتهم، فأشرقت الدنيا بهم، وتحقَّق العدل على أيديهم، وكان الأمنُ والأمان في رِحابهم، وترَكوا مِن بعدِهم العملَ الصالِحَ، والعِلم النافع، فهم قُدوةٌ للشباب للمسلم أن يَمضي على دَرْبهم، ويأخذ بأسبابهم، فيكون خيرَ خلَف لأعظم سَلَف.

    ومِن هؤلاء الأعلام: الإمام ابن هُبَيرة.

    معالم حياته:

    هو يحيى بن محمَّد بن هُبَيرة، ويُكنى أبا المظفَّر، ويُلقَّب بعون الدِّين، وينعت بالوزير العادل.

    وُلِد في ربيع الآخر سَنَة تِسع وتسعين وأربعمائة بقرية بني أوقر، وهي قريبةٌ مِن بغداد، وعُرِفت فيما بعدُ باسم الوزير ابن هبيرة؛ لأنَّه أقام فيها مسجدًا ومدرسةً على ما ذَكَر ياقوت في "معجم البلدان".

    ويبدو لنا: أنَّ ابن هبيرة من أُسرة فقيرة شغَلها طلبُ الرزق عن طلبِ العِلم، فابنُ الجوزي - وهو صاحبُ ابن هبيرة وقريب منه - ينقُل لنا عنه أنَّه كان في مطلَع حياته شديدَ الفقر، حتى إنَّه كان لا يَجِدُ رغيفَ الخبز ليَعبُرَ به نهر دِجلة، وقد أشار ابن خَلِّكان أنَّ والد ابن هبيرة كان جُنديًّا.

    ولم يمنعِ الفقرُ ابنَ هبيرة من طلبِ العلم والحرْص عليه، فدخَل بغداد شابًّا، وجالَسَ الفقهاءَ والعلماء والأدباء، وسمِع الكثيرَ مِن الحديث، وحصَّل مِن كلِّ فنٍّ طرَفًا، فاطلع على أيام العرب وأحوال الناس، وحفِظ كتاب الله وختَمَه بالقراءات والرِّوايات، وتعلَّم صناعة الإنشاء.

    سعَى لكسبِ الرِّزق، فعمل في المخازن السلطانيَّة، فتجلَّتْ أمانتُه وكفاءته، فقُلِّد الإشرافَ والرِّقابة على المخازن، فبان نصحُه، فتولَّى في سنة 542هـ رئاسةَ المخازن؛ أي: صاحب الديوان.

    ظهَر للخليفة العباسي المقتفي بأمر الله (555هـ) كفاءةُ ابن هبيرة للقيام في مهامِّ المُلْك، فاستدعاه في سنة 544هـ إلى داره وقلَّده الوَزارة، وهو أمر يدلُّ على وجود الفُرْصة المتاحة لكلِّ مسلمٍ للوصول إلى أعلى المناصِب على أساس من الكفاءة والجدارة.

    اتَّبع ابنُ هبيرة الحقَّ في الحُكم، وحَذِر الظلمَ، فحقَّق العدل، وقرَّب خيارَ الناس مِن الفقهاء والمحدِّثين والصالحين إليه، وكانتْ أمواله مبذولةً لهم ولتدبيرِ الدولة، وارتفع به أهلُ السنة غايةَ الارتفاع، ونقَل لنا ابن الجوزي عنه أنَّه قال أثناء وزارته:

    والله لقدِ كنتُ أسأل الله - تعالى - الدنيا لأخدمَ بما يرزقنيه اللهُ منها العلمَ وأهلَه، وكانتِ السَّنَة تدور وعليه بعضُ الديون، حتى قال فيه بعضُ الشعراء:

    يَقُولُونَ يَحْيَى لاَ زَكَاةَ لِمَالِهِ *** وَكَيْفَ يُزَكِّي الْمَالَ مَنْ هُوَ بَاذِلُهْ

    إِذَا دَارَ حَوْلٌ لاَ يُرَى فِي بُيُوتِهِ *** مِنَ الْمَالِ إِلاَّ ذِكْرُهُ وَفَضَائِلُهْ

    لم تكشفِ المصادرُ التي بين أيدينا عنِ المحن التي مرَّ بها الوزير ابن هبيرة بصراحة، ولكنَّ بعض الإشارات تدلُّ على أنَّه كان له بعضُ الحاقدين والأعداء، وصَل بهم الأمرُ إلى تحريض الطبيب الذي يُعالِجه أن يدسَّ له السُّمَّ في الدواء ممَّا أدى إلى استشهاده، يصِفُ لنا ابن الجوزي الفترةَ الأخيرة مِن حياة ابن هُبَيرة فيقول: "كان الوزير يتأسَّف على ما مضَى مِن زمانه، ويَندم على ما دخَل فيه، ثم صار يسأل الله - عز وجل - الشهادة، ويتعرَّض لأسبابها، وكان صحيحًا يومَ السبت ثاني عشر جُمادَى الأولى سَنَة ستِّين وخمسمائة، فنام ليلةَ الأحد في عافية، فلمَّا كان وقتُ السَّحَر قاء، فأحضر طبيبًا كان يخدُمه فسقاه شيئًا، فيُقال: إنَّه سمَّه فمات، وسُقِي الطبيب بعدَه بنحو ستَّة أشهر، فكان يقول: سُقِيتُ كما سَقَيْتُ، ومات الطبيب واسمه ابن رشاده".

    ويَحكي لنا ابنُ الجوزي رؤيةً صادقة له في حقِّ ابن هبيرة، ويؤكِّد أنَّ الوزير مات مسمومًا، فيقول: كنتُ ليلةَ مات الوزيرُ نائمًا على سطحٍ مع أصحابي، فرأيتُ في المنام كأنِّي في دار الوزير وهو جالس، فدخَل رجلٌ بيده حربةٌ قصيرة، فضرَبه بها بين أنثييه فخرَج الدم كالفوارة فضرَب الحائط، فالتفتُّ فإذا بخاتمٍ مِن ذهب ملقًى، فأخذتُه وقلت: لمَن أعطيه؟ أنتظِر خادمًا يخرُج فأعطيه إيَّاه، وانتبهتُ، وحدَّثتُ أصحابي بالرؤيا، فلم أستتمَّ الحديثَ حتى جاءَ رجلٌ فقال: مات الوزير، فقال بعضُ الحاضرين: هذا محالٌ! أنا فارقتُه أمس العصر، وهو في كلِّ عافية، وجاء آخرُ وصحَّ الحديث، وقال لي ولدُه: لا بدَّ أن تغسِّله، فأخذتُ في غسله، ورفعتُ يده لأغسل مغابنَه (مطاوي البدن مثل الإِبْط وغيرِه) قال: فسَقَط الخاتمُ مِن يدِه، فحين رأيتُ الخاتم تعجبتُ مِن المنام، وقال ابنُ الجوزي: ورأيتُ في وقت غسْله آثارًا في وجهه وجسده تدلُّ على أنه مسموم.

    والشاهِد الثاني على ما نقول أثبتَه ابنُ رجب في "ذيل طبقات الحنابلة"؛ إذ قال: "فلمَّا بِيعت كتبُه بعدَ موته اشتراها بعضُ الأعداء فغسَلَها".

    ونستنتج مِن هذا النصِّ أنَّ ابن هبيرة مات مُعدمًا، حتى إنَّ ورثَتَه عرَضوا مصنفاتِه التي بخطِّ يده - فضلاً عمَّا اقتناه من كتُب - للبيع، وأنَّ لابن هبيرة أعداءً لم يكفِهم قتلُه واستشهاده، بل سعَوا إلى محوِ ذِكراه بما ترَك مِن علم ينتفع به بعد وفاته بمحوِ مصنَّفاته، ولعلَّ هذا هو السبب الذي يُبرِّر لنا أنه لم يصلْ إلينا مِن مؤلَّفات ابن هبيرة سوى أجزاء مِن كتابه "الإفصاح عن المعاني الصحاح"، وكفَى بها شاهدًا على أصالة ابن هُبَيرة في الحديث والفِقه واللُّغة.

    وينقُل لنا ابن رجب عن أبي بكرٍ التيمي الذي أفرد كتابًا لسيرة الوزير ابن هبيرة - لم يصلْ إلينا - أنَّ الوزير بعدما تناول المشروب مِن طبيبِه استفرَغ، ثم استدعَى بماء فتوضأ للصلاة، وصلَّى قاعدًا، فسجَد فأبطأ عن القعودِ مِن السجود، فحرَّكوه فإذا هو ميِّت.

    ولمَّا خرجتْ جنازته غُلِّقت أسواق بغداد، ولم يتخلَّف عن جنازته أحدٌ، وصُلِّي عليه في جامِع القصر، ودُفِن في مدرسته التي أنشأها.

    شيوخ ابن هبيرة:

    ثبَت باستقراء الواقِع أنَّ المرء يتأثَّر بمَن حوله مِن والديه وأساتذته وأصحابه، وتتكوَّن مبادئه وقِيُمه منهم، وإنِ اختلفت درجةُ التأثير، ولعلَّ أكثرَها أثرًا التي تكون في سِنِّ الحداثة، وقد أشرْنا من قبلُ أنَّ والد ابن هبيرة كان جنديًّا ولم يكن مِن أهل العلم، وإنْ كان يبدو لنا أنه قد غرَس في ولده حبَّ العلم؛ لأنَّ الوالدَ في غيرِ قليل من الأحيان يَودُّ أن يُحقِّق ذاته في أولاده، ويُعوِّض ما حُرِم منه فيهم، وصادَف ذلك ميلاً أصيلاً لدَى ابن هبيرة مِن حبِّ العلم وطلبه.

    وقد تأثَّر ابنُ هبيرة بأخلاقِ أساتذته، ولعلَّ عُمقَ زهد ابن هبيرة يرجِع إلى الزبيدي (الواعِظ الزاهِد) المتوفَّى 555 هـ، فقدْ صاحبَه ابنُ هبيرة في حداثتِه، وكان الزبيديُّ على طريقِةِ السَّلف في الأصول، حنفيَّ المذهب في الفروع، وكان يقول الحقَّ وإنْ كان مُرًّا، وكان بارعًا في النحو، وبدَا أثَرُ ذلك في ابن هُبَيرة وله مؤلَّف في النحو، وكان يقول الحقَّ ولا يخاف فيه لومَ لائم.

    وسمِع ابنُ هبيرة الحديثَ الكثير من حفَّاظ عصره المشهود لهم بالرِّواية والدراية مع الورَع، منهم:

    • أبو الحسن الزَّاغُوني، وهو عليُّ بن عُبيدالله بن نصْر، أحد أعيان المذهب الحَنبلي، وُلِد سَنَة خمس وخمسين وأربعمائة، وكان مُتقِنًا في الحديثِ والأصول والفُروع والوعْظ، وصنَّف في ذلك كلِّه، وتُوفِّي يومَ الأحد سادس عشر المحرَّم سَنَة سبع وعشرين وخمسمائة.

    • عبدالوهاب الأنماطي، ويُكنى أبا البركات، ويُلقَّب بـ(محدِّث بغداد)، كان ثقةً ثَبْتًا، ذا دِين وورع، وقد نَصَّب نفسه لتسميعِ الحديث طولَ النهار، ولم يكن يأخُذ أجرًا على العِلم، تُوفِّي يومَ الخميس الحادي عشر من محرَّم سَنَة ثمانٍ وثلاثين وخمسمائة.

    • أبو غالب البناء: كان يلقب بـ(مسند العراق)، وتوفي في ربيع الأول من سَنَة سبع وعشرين وخمسمائة.

    • أبو القاسم بن الحصين: ويُلقَّب أيضًا بـ(مسند العراق)، وكان دَيِّنًا صحيحَ السماع، تُوفِّي يومَ الأربعاء رابعَ عشر شوَّال مِن سَنَة خمس وعشرين وخمسمائة.

    ومِن شيوخ ابن هبيرة في الفِقه:

    • أبو الحسين الفرَّاء، الملقَّب بالقاضي الشهيد، وهو ولدُ أبي يعلى الفرَّاء، وكان عارفًا بالمذهبِ الحنبلي متشدِّدًا في السُّنة، ومات مُغتالاً في 526 هـ.

    • أبو بكر الدِّينوري، أحدُ أئمَّة المذهب الحَنبلي، وله فيه كتابُ "التحقيق في مسائلِ التعليق"، وتُوفِّي في غرة جمادى الأولى سَنَة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.

    أخلاق ابن هبيرة:

    يبدو لنا أنَّ الوزيرَ ابنَ هُبَيرة كان عبدًا لله تقيًّا، يلتزم بأوامره، ويبتعد عن نواهيه، ويتمسَّك بسُنَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ويقتدي به، فكان على خُلُق عظيم، فقد كانتْ غايته إرضاءَ الله - سبحانه وتعالى - وتقديمَ صالِح الأعمال، والإسهامَ في العمل النافع، وكان متواضعًا لله، يحاسِب النفْس، ويصبر في الشدَّة، ويعفو عندَ المقدِرة، فلم يكن غريبًا أن يكونَ مستجابَ الدعوة، وأن يُحقِّق الله رجاءَه وينتهي أجلُه شهيدًا.

    فمِن مَظاهر إيمانِه وثِقته بالله وورعه:

    أنَّه قد ضاقتْ يدُه في مطالِع حياتِه حتى فقدَ القوت أيَّامًا، فخرَج مِن بلدته قاصدًا بغداد للعمل، وفي الطريقِ رأى مسجدًا مهجورًا، فدخَل وصلَّى فيه ركعتَيْن، وإذ بمريض ملقًى على حصيرة قديمة متهالكة، فقعد عندَ رأسه، وسأله عمَّا يشتهي؟ فقال: سفرجلة، فخرَج إلى بقَّال، ورهَن مِئزره على سفرجلتين وتفاحة وأتَى بهما، فأكَل المريض من السفرجلة ثم أمرَه بغَلْق باب المسجد، فأغْلَقه، فأعْطاه وعاءً صفيحيًّا، وقال: خذْ فأنتَ أحقُّ به، فسأله ابنُ هبيرة عمَّا إذا كان له وارثٌ، فقال: لا، وإنَّما لي أخٌ وعهْدي به بعيد، وبلغَني أنه مات، ونحن مِن الرصافة، ثم مات أثناءَ حديثِه، فغسَّله ابنُ هُبيرة وكفَّنه ودفَنه، ثم أخَذ (الكوز)، وفيه مقدارُ خمسمائة دِينار، ومضَى إلى دجلةَ ليعبرها، فإذ بملاَّح في سفينة عتيقة، وعليه ثيابٌ رثَّة، فقال: معي معي، فنزَل معه، وإذا به مِن أكثرِ الناس شبهًا بذلك الرَّجل، فسأله: مِن أين أنت؟ فقال: من الرصافة، ولِي بنات، وأنا صُعلوك، فسأله: ما لك أحدٌ؟ قال: لا، كان لي أخٌ، ولي عنه زمان ما أدري ما فَعَل الله به.

    فقال ابنُ هبيرة له: ابسطْ حِجرَك، فبسَطَه، فصبَّ المال فيه، فبُهِت: فحدَّثه الحديث، فطلَب منه أن يأخذَ نِصفَه، فقال: لا.

    والشاهد مِن هذه الواقعة أنَّه على الرغم مِن شِدَّة حاجة ابنِ هُبَيرة إلى المال، وقد جاءَه هِبة مِن صاحبه، بَيْدَ أنه لورعه وتقواه رأى أنَّ النِّية الحقيقية لصاحِب المال أن يصِلَ إلى ورثته، فإن عُدِم ذلك فله، وأنَّ الوارث أحقُّ بأموال المورّث وإنْ وهب المورّث المال لغيرِ الوارث.

    لذلك لم يكن غريبًا أن يسأل اللهَ تحقيقَ حاجته في أن يجد عملاً يسدُّ به جوعته، وأن يمضيَ إلى دار الخليفة بالطلَب، فإذ إسناد العمل بالمخازن.

    ومِن صُور محاسبته لنفْسه، أنَّهم أضافوا إلى ألْقابه في الوزارة (سيِّد الوزراء) فيأبى، ويقول: إنَّ الله - تعالى - سمَّى هارون وزيرًا، وجاءَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ وزيريه مِن أهل السماء: جبريل وميكائيل، ومِن أهل الأرض: أبو بكر وعمر))، وجاء عنه أنَّه قال: ((إنَّ اللهَ اختارني، واختار لي أصحابًا فجعَلهم وزراءَ وأنصارًا)) فلا يصلُح أن يُقال عنِّي: أني سيِّدُ هؤلاءِ السادَةِ.

    واقعة أخرى: ذُكِر مرَّة في مجلسه مفردةٌ للإمام أحمد تفرَّد بها عن الثلاثة (أبي حنيفة، مالك، الشافعي)، فادَّعى أبو محمد الأشتري المالكي أنها روايةٌ عن مالك، ولم يُوافقْه على ذلك أحدٌ، وأحضر الوزير كتبَ مفردات أحمد، وهي منها، والمالكي مقيمٌ على دَعواه، فقال له الوزير: بهيمةٌ أنت؟ أمَا تسمع هؤلاء الأئمَّة يشهَدُون بانفِرادِ أحمد بها، والكتب المصنَّفة، وأنت تُنازِع؟ وتفرَّق المجلس.

    فلمَّا كان المجلس الثاني، واجتَمَع الخلق للسَّماع، أخَذ ابن شافِع في القراءة، فمَنَعه ابن هُبَيرة، وقال: قدْ كان الفقيه أبو محمَّد جريئًا في مسألة أمس على ما لا يَلِيق به عن العدولِ عن الأدب، والانحراف عن نهجِ النظَر، حتى قلت تلك الكلمة، وها أنا، فليقل لي كما قُلْت، فلستُ بخيركم، ولا أنا إلاَّ كأحدِكم، القصاصَ القصاصَ، ولكنْ أبو محمد الأشتري صفَح عنه.

    ومِن صُور تواضُعه ما يحكيه صاحب سِيرَتِه (أبو بكر التيمي) ممَّا شاهَدَه بعينه في مجالسِ ابن هُبَيرة: أنَّ الحاجب (أبا الفضائل بن تركان) أسَرَّ للوزير بشيء لم يسمعه أحدٌ، فقال له الوزير: أدخَل الرجل؟ فأبطأ، فسألَه: فقال الحاجبُ: إنَّ معه شملةَ صوف مكورة، وقد قلت له: اتركْها مع أحد الغلمان خارجًا عن الستر وادْخُل، قال: لا أدخُل إلا وهي معي، فقال له الوزير: دعْه يدخل وهي معه، فخرَج وعاد، وإذا معه شيخ طُوَالٌ مِن أهل السواد، عليه فوطة قُطن وثَوْبٌ خام، وقال للوزير: يا سيِّدي، إنَّ أم فلان - يعني: أم ولده - لَمَّا علمتْ أني متوجِّه إليك قالت لي: بالله سلِّم على الشيخ يحيى عنِّي، وادفَع إليه هذه الشَّملة، قد خبزتُها على اسمِه، فتبسَّم الوزير إليه وأقْبل عليه، وقال: الهدية لِمَن حضَر، وأمَر بحلِّها فحُلِّت الشملة بين يدَيْه، فإذا فيها خبزُ شعير، فأخذ الوزير منه رغيفين، وقال: هذا نصيبي، وفرَّق الباقي على مَن حضَر من صدور الدولة، والسادة الأجِلَّة، وسأله عن حوائجه جميعِها، وتقدَّم بقضائها في الحال، ثم التفَتَ إلى الجماعة، وقال: هذا شيخٌ قد تقدَّمت صُحبتي له قديمًا، واختبرتُه في زَرْعِ بيتنا فوجدتُه أمينًا، ويُعقِّب صاحب سيرته، فيقول: "ولم يظهر منه تأفُّف بمقال الشيخ، ولا تكبّر عليه، ولا أعرض عنه، بل أحسن لقاءه، وقضى حوائجه، وأجزل عطاءه".

    ومن صُوَرِ شَجاعته:

    أنَّه حضَر يومًا في دار الخِلافة، وحضَر أرباب الدولة جميعًا للصلاة على جنازة الأمير إسماعيل بن المستظهر، فسقَطتْ مِن السقف أفعى عظيمةُ المقدار على كَتِف الوزير، فما بقِي أحدٌ من أرباب الدولة وحواشي الخدمة إلا خرَج أو قام عن موضعه إلاَّ الوزير، فإنَّه التفتَ إلى الأفعى، وهي تَسْرَح على كُمِّه حتى وقعتْ على الأرض، وبادَرَها المماليك فقتَلُوها، ولم يتحرَّك الوزير مِن مكانه، ولا تغيَّر في هيئته ولا عِباراته.

    ومِن صور الصبر على المصيبة، واحتِسابِ الأجْر عندَ الله والحِرْصِ على متابعةِ مجلس الحديث: أنَّ المجلسَ كان غاصًّا بوُلاة الدِّين والدُّنيا والأعيان الأماثل، وابنُ شافِع يقرأ الحديث، إذ بصُراخٍ بشعٍ وصِياح يرتَفِع من بابِ الستر وراءَ ظهْر الوزير، واضطَرَب المجلسُ وارْتاع الحاضرون، والوزير ساكنٌ ساكِت، حتى أنهَى ابنُ شافع قراءةَ الإسناد ومتنه، ثم أشار الوزيرُ إلى الجماعة: على رِسلِكم (استَأذَن)، ثم قام ودخَل إلى الستر ولم يلبثْ أنْ خرج، فجلس وتقدَّم بالقراءة، فدعا له ابن شافع والحاضرون: وقالوا: قد أزعجَنا ذلك الصياحُ، فإنْ رأى مولانا أنْ يُعرِّفنا سببَه، فقال الوزير: حتى ينتهي المجلس، وعاد ابن شافع إلى القراءة حتى غابتِ الشمس وقلوب الجماعة متعلِّقة بمعرفة الحال، فعاوَدُوه فقال: كان لي ابنٌ صغيرٌ مات حين سمعتُم الصياح، ولولا تعيُّن الأمر بالمعروف في الإنكار عليهم ذلك الصياحَ، لمَا قمتُ عن مجلسِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فعَجِب الحاضرون من صبرِه.

    ومِن صُور عفْوه عندَ المَقدِرة:

    قَدِمَ رجلٌ ومعه آخرُ ادَّعى عليه أنَّه قتَل أخاه، فقال له الوزير: أقتلتَه؟ قال: نعم؛ جرَى بيني وبينه كلامٌ فقتلتُه، فقال الخصم: سلِّمه إلينا حتى نقتلَه فقد أقرَّ بالقتل، فقال عون الدين: أطلقوه ولا تقتلوه، قالوا: كيف ذلك، وقد قتَل أخانا؟! قال: فتبيعُونِيهِ؟ فاشتراه منهم بسِتمائة دينار، وسلَّم الذهب إليهم وذهبوا، وقال للقاتل: اقعدْ عندنا لا تبرح، قال: فجلس عندَهم، وأعطاه الوزير خمسين دينارًا.

    يقول ابنُ الجوزي فسألنا الوزير: لقد أحسنتَ إلى هذا، وعملت معه أمرًا عظيمًا، وبالغتَ في الإحسان إليه!

    فقال الوزير: منكم أحدٌ يعلم أنَّ عيني اليمنى لا أبصر بها شيئًا؟

    فقلنا: معاذ الله! فقال: بلى والله، أتَدْرون ما سبب ذلك؟ قلنا: لا، قال: هذا الذي خلَّصتُه مِن القتل جاءَ إليَّ، وأنا في الدور، ومعي كتابٌ في الفقه أقرأ فيه، ومعه سلَّة فاكهة، فقال: احملْ هذه السلَّة، فقلت له: ما هذا شغلي، فاطلبْ غيري، فشاكَلَني ولكَمَني، فقَلَع عيني، ومضَى، ولم أرَه بعدَ ذلك إلى يومي هذا، فذكرتُ ما صنع بي، فأردتُ أنْ أقابل إساءتَه إلي بالإحسان مع القُدْرة.

    نقف مبهورين إزاءَ هذه الواقعة، الوزير يَسْعَى إلى فكِّ خصمه من يد غيره، ولا تثريبَ عليه إنْ سلَّم الخصم لأهل القتيل للقصاص منه، بل كان يُعَدُّ إنزالاً لحكم الشرع في الواقِعة، وإشفاءً لغليل نفس فقَدَتْ بصرها بيدٍ آثمة، ولكنَّ الشخصيَّة التي تغلغلتْ فيها تعاليمُ الإسلام تُطبِّق قول الله - تعالى -: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34]، تطبيقًا على النفس قبل أن تُطبِّقه على الغير، فحق قول الله - تعالى - في وصفها: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 35].

    ومِن صُور تمسُّكه بالسنة:

    أنَّه كان لا يلبس الحرير وإنْ قدَّمه له خليفةُ المسلمين، فقد خرَج ابن هُبَيرة لدفْع بعض البغاة، وعند عودته ودخوله على الخليفة المقتفي قال له: ادخُلْ هذا البيت، فغيِّر ثيابَك؛ يقول ابن هُبَيرة: فدخلتُ، فإذا خادمٌ وفرَّاش ومعهما خلعةُ حرير، فقلت: أنا واللهِ ما ألْبَس هذه، فخرج فأخبر المقتفي، فسَمِع صوت المقتفي وهو يقول: قد واللهِ قلت: إنَّه ما يلبس، وعاد الخادمُ وعلى يده دستٌ من ثياب الخليفة فأفاضَه عليه، وكان ابن هُبَيرة لا يلبس ثوبًا يَزيد فيه الإبرَيْسَم على القُطن، فإنْ شكَّ في ذلك، سلَّ مِن طاقاته، ونظر: هل القطن أكثر أم الإبرَيْسَم، فإن استَويَا لم يلبسه؛ أخذًا بالأحوط.

    ومِن صور تمسُّكه بالسنَّة:

    أنَّه لَمَّا استَطال السُّلطان مسعود وأصحابه وأفسَدُوا عزمَ ابن هُبَيرة والخليفة على قِتالهم ثم فكَّر، فرأى أنَّه ليس من الأصوب مُجاهرتُه لقوَّة شوكته، فدخَل ابن هُبَيرة على المقتفي وقال: إني رأيتُ أن لا وجهَ في هذا الأمر إلاَّ الالتجاء إلى الله - تعالى - وصِدق الاعتماد عليه، فبادَرَ الخليفة إلى تصديقه، وقال: ليس إلاَّ هذا، ثم كتَب للخليفة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعا على "رِعْل" و"ذكوان" شهرًا، ويَنبغي أن ندعو نحن شهرًا، فأجابَه بالأمر بذلك.

    قال الوزير: ثم لازَمتُ الدعاء في كلِّ ليلة وقتَ السَّحَر، أجلس فأدعو الله - سبحانه - فماتَ مسعود لتمامِ الشهر لم يزدْ يومًا ولم ينقص يومًا، وأجابَ اللهُ الدعاء، وأزال يدَ مسعود وأتباعه عن العِراق.

    مصنفاته:

    صنَّف الوزيرُ ابن هُبَيرة عِدَّةَ كُتب تدلُّ على علوِّ مقامِه في الحديثِ والفقه واللغة.

    ويعدُّ أهم كتبه "الإفصاح عن معاني الصحاح"، وهو شرح صحيحي البخاري ومسلم متَّخذًا مسندَ الحميدي أساسًا، فقد تبيَّن لنا من الاطِّلاع على الأجزاء الموجودة منه بمكتبة المحموديَّة بالمدينة المنوَّرة، ومنها الجزء الأول، وقد تضمَّن مسانيدَ العشرة المبشَّرين بالجنة أنَّه يعرض لما اتَّفق عليه البخاري ومسلم، ثم لِمَا انفرد به البخاريُّ، ثم ما انفرد به مسلم، مع بيان الحِكَم النبويَّة فيهما.

    ويرى الناس كتاب "الإفصاح" مطبوعًا، ويبدأ بحديث: ((مَن يرد الله به خيرًا، يفقِّهه في الدين))، وقد تكلَّم ابن هُبَيرة فيه عن معنى الفِقه، وآل الكلام إلى ذكر مسائل الفقه المتَّفق عليها والمختلَف فيها بين الأئمَّة الأربعة المشهورين.

    وهذا الجزء الوحيدُ مِن الكتاب الذي ظهَر، وباقي أجزاء الكتاب مخطوطة، فالكتاب يحوي تِسعةَ عشرَ جزءًا، وهم مِن أقْيَمِ الكتب في فِقه الحديث.

    كما أنَّ لابن هُبَيرة كتابًا في "العبادات الخمس" تناوَل فيه أحكام الشهادة بالله والرسول، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج على مذهبِ الإمام أحمد، وحدَّث به في مَجْمَع من العُلَماء من أئمَّة المذاهب المختلفة.

    وفي اللُّغة: صنَّف في النحو كتابًا سمَّاه "المقتصِد" بكسر الصاد المهملة وشرحه أبو الخشاب (المتوفى 567 هـ) في أربع مجلدات وبالَغ في الثناء عليه.

    كما له أرجوزةٌ نظمية في المقصور والممدود.

    وفي المنطق: اختصر كتاب "إصلاح المنطق"، لابن السِّكِّيت (المتوفَّى 244هـ)، وكان ابن الخشَّاب يستحسنه ويُعظِّمه.

    وفي الشِّعر: له مجموعٌ يَحوِي شِعرًا كثيرًا هادفًا في خِدمة الإسلام ومبادئه وتعاليمه.

    ومن أشعاره قوله:

    مَا لَنَا قَطُّ غَيْرَ مَا شَرَعَ اللَّ *** هُ بِهِ يُعْبَدُ الْإِلَهُ الْكَرِيمُ

    فَتَمَسَّكْ بِالشَّرْعِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْ *** حَقَّ فِيهِ وَمَا سِوَاهُ سُمُومُ

    وقوله:

    تَمَسَّكْ بِتَقْوَى اللَّهِ فَالْمَرْءُ لاَ يَبْقَى *** وَكُلُّ امْرِئٍ مَا قَدَّمَتْ يَدُهُ يَلْقَى

    وَلاَ تَظْلِمَنَّ النَّاسَ مَا فِي يَدَيْهِمُ *** وَلاَ تَذْكُرَنْ إِفْكًا وَلاَ تَحْسُدَنْ خَلْقَا

    تَعَوَّدْ فِعَالَ الْخَيْرِ جَمْعًا فَكُلَّمَا *** تَعَوَّدَهُ الإِنْسَانُ صَارَ لَهُ خُلْقَا

    وقوله:

    لاَ تُلْهِيَنَّكُمُ الدُّنْيَا بِزَهْرَتِهَا *** فَمَا تَدُومُ عَلَى حُسْنٍ وَلاَ طِيبِ

    وقوله:

    وَالْوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ *** وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ

    ونختَتِم كلمتنا عنه بكلمةٍ قالها الإمام الذهبيُّ في "دول الإسلام" عن ابن هُبَيرة نراها أوجزتْ فجمعت؛ إذ قال: "كان من أعْيانِ الفقهاء الصالحين، جمَّ الفضائل، وافرَ الحُرْمة، كبير الشأن، دائم العدل، له تصانيف، مات مسمومًا شهيدًا ببغداد، وشَيَّعه الخلْقُ، وكثر البكاء والتأسُّف عليه".

    ولا يسعنا إلاَّ أنْ نقول: رحم الله الوزيرَ ابنَ هُبَيرة، ومَن كان على شاكلته مِن عُلَماء الإسلام وحكَّامه، ونفَع الله بعلمه وسِيرَتِه شبابَ الإسلام وأمل غده.

    وآخِر دَعوانا أنِ Cool ربِّ العالمين.

    المصدر : الرحمة المهداة www.mohdat.com

      الوقت/التاريخ الآن هو 28/3/2024, 1:10 pm