دعانا الشارع الحكيم إلى التجاوز عن العورات والستر على أصحاب المعاصي والسيئات، وجعل ذلك من الأخلاقيات الطيبة التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم، فالله - تعالى -لا يحب أن يجاهر الإنسان بكلام السوء ولا بإشاعة السوء، قال - تعالى -: ( لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)) سورة النساء.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: (( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا)) أخرجه أحمد 2/312(8103) و"البُخاري" 6064.
فكل ما كان سيئًا من القول، فالجهر به لا يحبُّه الله - عز وجل -، والتفتيش عن عيوب الناس وتتبع عوراتهم وسوء الظن بهم ليس من أخلاقيات المؤمن، قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا ). سورة الحجرات: 12.
قال المُفسِّرون: التجسسُ: البحثُ عن عيبِ المسلمين وعورتهم، أمَّا خَيْر الخلق وأَعْرفُ الخلق بما يُرضي الله - تعالى - فقد كان عظيمَ الحياء، عفيفَ اللِّسان، بعيدًا عن كشف العورات، حريصًا على كَتْم المعائب والزلاَّت، كان إذا رأى شيئًا يُنكره ويكرهُه، عرَّض بأصحابه وألمح، كم من مرَّة قال للناس: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا))، ((ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)).
ففي تتبع عورات الناس وفضحهم نشر للرذيلة بين العباد، وحباً لإشاعة الفاحشة بينهم، وهو ما حذرنا الله - تعالى -منه، قال - سبحانه -: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (19). سورة النور: 19.
لذا فقد اهتم علماء الإسلام بهذا الباب المهم من أبواب الأدب، فقد بوب البخاري - رحمه الله - في كتاب الأدب من صحيحه (باب ستر المؤمن على نفسه) ثم ذكر الأحاديث الدالة على ذلك، وبوب أيضاً في كتابه الأدب المفرد (باب من ستر مسلماً) وبوب الإمام النووي - رحمه الله - في كتابه شرح صحيح مسلم: (باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه) ثم ساق الأحاديث، وبوب ابن ماجة في سننه في كتاب الحدود ( باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات)، أما الفقهاء وأصحاب السلوك فقد بوب البغوي - رحمه الله –( باب النهي عن تتبع عورات المسلمين، وباب الستر)، وفصل في ذلك ابن مفلح الحنبلي في كتابه الآداب الشرعية. وكذلك المفسرون عنوا بهذا الموضوع عند ذكر الآيات الدالة كابن كثير في تفسيره.
والستر معناه: تغطية المسلم عيوبه وإخفاء هناته، وعدم كشفها للناس مع طلب التوبة والندم عليها، وتيقنه بأن الله - تعالى -يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إِنَّ الله - عز وجل - يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النهارِ، وًيبْسُطُ يَدَهُ بِالنهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)) أخرجه أحمد 4/395 ومسلم 8/99.
وها هي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - جاءتْها امرأةٌ، فأخبرتها أنَّ رجلاً قد أخذ بساقها وهي مُحرمة - أي: حاول كشف عورتها - فقاطعتها عائشةُ، وأعرضت بوجهها وقالت: "يا نساءَ المؤمنين، إذا أذنبتْ إحداكُنَّ ذنبًا، فلا تخبرن به النَّاس، ولتستغفر الله، ولتتب إليه؛ فإنَّ العباد يُعيِّرونَ ولا يُغيِّرون، والله يُغَيِّر ولا يُعيِّر. مكارم الأخلاق للخرائطي (503).
1- الله - تعالى -ستير يحب الستر:
من صفات الله - تعالى -أنه ستير يحب الستر على عباده، وهذا من كمال رحمته - سبحانه - ومن تمام فضله، قال - تعالى -: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (25) سورة الشورى، وقال: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (30) سورة الشورى.
وعَنْ عَطَاءٍ عَنْ يَعْلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ - عز وجل - حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ)) أخرجه أحمد (4/ 224، رقم 17999)، وأبو داود (4/ 39، رقم 4012)، والنسائي (1/ 200، رقم 406). والبيهقي (1/ 198، رقم 908) الألباني: صحيح النسائي (406).
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِىِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِى مَعَ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (( إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أي رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ (هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)). أَخْرَجَهُ أحمد 2/74(5436) و"البُخَارِي" 3/168(2441) و"مسلم" 8/105(7115).
"يروى أنه في عهد سيدنا موسى - عليه السلام - جف المطر وطلب منه قومه أن يدعو ربه بالغيث وينزل عليهم المطر، فصعد سيدنا موسى الجبل، ودعا ربه بأن ينزل عليهم المطر، فقال له ربه - عز وجل-: يا موسى كيف أنزل المطر وبينكم عاص، فرجع موسى إلى قومه وبلغهم بأن بينهم عاص، ولم ينزل الله المطر إلا إذا خرج، فلم يخرج أحد ثم أنزل الله المطر، فصعد موسى الجبل، وقال لربه: يا رب جمعت القوم وأبلغتهم بأن بيننا عاص فليخرج ولم يخرج أحد وقد أنزلت المطر يا رب، فقال - سبحانه وتعالى-: يا موسى أنى أنزلت المطر بعد ما تاب العاصي توبة نصوحة، فقال موسى لربه: من هو يا رب حتى نعرفه؟ قال الله - عز وجل – لموسى: يا موسى سترته وهو عاص، فكيف لا أستره وقد تاب إلى" ابن قدامة: كتاب التوابين 82.
قال الشاعر:
اللهُ ربي لا أُريدُ سواهُ *** هل في الوجود حقيقةُ إلاهُ؟
الشَّمْسُ وَالْبَدْرُ مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ *** وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ فَيْضٌ مِنْ عَطَايَاهُ
الطَّيْرُ سَبَّحَهُ وَالْوَحْشُ مَجَّدَهُ *** وَالْمَوْجُ كَبَّرَهُ وَالْحُوتُ نَاجَاهُ
وَالنَّمْلُ تَحْتَ الصُّخُورِ الصُّمِّ قَدَّسَهُ *** وَالنَّحْلُ يَهْتِفُ حَمْدًا فِي خَلايَاهُ
وَالنَّاسُ يَعْصُونَهُ جَهْرًا فَيَسْتُرُهُمْ *** وَالْعَبْدُ يَنْسَى وَرَبِّي لَيْسَ يَنْسَاهُ
قال شقيق بن إبراهيم: استتمام صلاح عمل العبد بستِّ خصال: تضرُّع دائم وخوف من وعيده، والثاني: حسن ظنِّه بالمسلمين، والثالث: اشتغاله بعيبه ولا يتفرَّغ لعيوب الناس، والرابع: يستر على أخيه عيبه ولا يفشي في الناس عيبه؛ رجاء رجوعه عن المعصية واستصلاح ما أفسده من قبل، والخامس: ما اطَّلع عليه من خسَّة عملها استعظمها؛ رجاء أن يرغب في الاستزادة منها، والسادسة: أن يكون صاحبه عنده مصيبًا. حلية الأولياء" (8/ 66).
قال ابن القيم:
وهو الحَيِيُّ فَلَيسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ *** عندَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بالعِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ *** فَهْوَ السَّتِيرُ وصَاحِبُ الغُفْرَانِ
ولكي ينال العبد رحمة الله - تعالى -وعفوه بالستر عليه، فلا بد له من شروط وأخلاقيات منها:
أ- الإخلاص وترك الرياء:
قال - تعالى -: ( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (65) سورة غافر، وقال: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (5) سورة البينة.
عَنِ ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: (( مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، وَمَنْ رَاءَى، رَاءَى الله بِهِ)) أخرجه مسلم 8/223(7585).
كان بشر الحافي يقول: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّ الذُّلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ العِزِّ، وَأَنَّ الفَقْرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الغِنَى، وَأَنَّ المَوْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ البَقَاءِ، وقَالَ: قَدْ يَكُوْن الرَّجُلُ مُرَائِياً بَعْدَ مَوْتِه، يُحِبُّ أَنْ يَكْثُرَ الخَلْقُ فِي جِنَازَتِهِ، لاَ تَجِدُ حَلاَوَةَ العِبَادَةِ حَتَّى تَجعَلَ بَينَكَ وَبَيْنَ الشَّهَوَاتِ سُدّاً". السير 19/466.
ب- التوبة والإنابة:
فالله - تعالى -من شأنه حبُّ الستر والصون لعباده، والتجاوز عن هفواتهم و عن زلاتهم، وقبول التوبة ممن تاب، قال - تعالى -: ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (90) سورة هود.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: (( وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاَةَ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أَوْ قَالَ: حَدَّكَ)) أخرجه البُخَارِي 8/206(6823) و"مسلم" 8/102 (7106).
ج- الستر على النفس وعدم المجاهرة بالمعصية:
يستحب لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التوبة منها ولا يخبر أحداً، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (( كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ)). أخرجه البخاري 8/24(6069) و"مسلم" 8/224.
عن ابن عمر - رضي الله عنه -: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله - تعالى -عنها فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)) رواه الحاكم والبيهقي، تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم: 149 في صحيح الجامع.
قالَ ابن بَطّال: " فِي الجَهر بِالمَعصِيَةِ استِخفاف بِحَقِّ الله ورَسُوله وبِصالِحِي المُؤمِنِينَ، وفِيهِ ضَرب مِنَ العِناد لَهُم، وفِي السِّتر بِها السَّلامَة مِنَ الاستِخفاف، لأَنَّ المَعاصِي تُذِلّ أَهلها، ومِن إِقامَة الحَدّ عَلَيهِ إِن كانَ فِيهِ حَدّ ومَن التَّعزِير إِن لَم يُوجِب حَدًّا، وإِذا تَمَحَّضَ حَقّ الله فَهُو أَكرَم الأَكرَمِينَ ورَحمَته سَبَقَت غَضَبه، فَلِذَلِكَ إِذا سَتَرَهُ فِي الدُّنيا لَم يَفضَحهُ فِي الآخِرَة، والَّذِي يُجاهِر يَفُوتهُ جَمِيع ذَلِكَ". فتح الباري 10: 487.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ ِللهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ)) أخرجه أحمد 1/387(3671).
يقول الشاعر:
إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي *** وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فَلاَ وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ *** وَلاَ الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ *** وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
عَنْ مَيْمُوْنٍ قَالَ: "مَنْ أَسَاءَ سِرّاً، فَلْيَتُبْ سِرّاً، وَمَنْ أَسَاءَ عَلاَنِيَةً، فَلْيَتُبْ عَلاَنِيَةً فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُوْنَ وَلاَ يَغْفِرُوْنَ، وَالله يَغْفِرُ وَلاَ يُعَيِّرُ. سير أعلام النبلاء 9: 81.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحيي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
وقال ابن القيم - رحمه الله -: "الذنوبُ جراحاتٌ، ورُبَّ جرحٍ وقع في مقْتَلٍ، وما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ من قسوةِ القلبِ والبعدِ عن اللهِ، وأبعدُ القلوبِ عن الله القلبُ القاسي" ورحم الله أبا العتاهية حين تخيل لو أن للذنوب رائحة كريهة تفوح فتفضح المذنب كيف يكون حالنا؟ وكيف أن الله قد أحسن بنا إذ جعل الذنوب بلا رائحة. فقال:
كيف إصلاح قلوبٍ *** إنما هُنَّ قروح
أحسَنَ اللهُ إليْنا *** أنَّ الخَطايا لا تَفوح
فإذا المستور منا *** بين ثوبيه فَضوح
يروى أنهم أتوا إلى عمر - رضي الله عنه - برجل قد سرق فقال هذا السارق: أستحلفك بالله أن تعفو عني فإنها أول مرة، فقال عمر - رضي الله عنه -: كذبت ليست هي المرة الأولى فأراد الرجل أن تثار الظنون حول عمر فقال له: أكنت تعلم الغيب؟ فقال عمر - رضي الله عنه -: لا، ولكني علمت أن الله لا يفضح عبده من أول مرة، فقطعت يد الرجل فتبعه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: أستحلفك بالله أهي أول مرة؟ فقال: والله إنها هي الحادية والعشرون.
2- الستر على العاصي من صفات المؤمن الصالح:
الستر على أهل المعاصي وعدم تتبع سقطاتهم من صفات المؤمنين الصالحين، ومن حقوق الأخوة الإسلامية، قال - تعالى -: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (10) سورة الحجرات.
عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ - عز وجل - فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ - عز وجل - عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) أَخْرَجَهُ أحمد 2/91(5646) و"البُخَارِي" 3/168(2442) و"مسلم" 8/18(6670).
قال ابن حجر - رحمه الله -: "أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره؛ أي: للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصحه فلم ينتهِ عن قبيحِ فعلِه ثم جاهَر به، كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء، فلو توجَّه إلى الحاكم وأقرَّ لم يمتنع ذلك، والذي يظهر أن الستر محله في معصية قد انقضَتْ، والإنكار في معصية قد حصل التلبُّس بها، فيجب الإنكار عليه، وإلا رفَعَه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة. فتح الباري" (5/ 97).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قَالَ: (( لاَ يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا، إِلاَّ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) أخرجه أحمد 2/388(9033) و"مسلم" 6686.
ومعنى الستر هنا عامٌّ لا يتقيَّد بالستر البدني فقط، أو الستر المعنوي فقط، بل يشملهما جميعًا، فمَن ستَر مسلمًا ستَرَه الله في الدنيا والآخرة؛ ستَر بدنه كأن رأى منه عورة مكشوفة فستَرَها، أو رأت امرأة شيئًا من جسد أختها مكشوفًا غير منتبهة إليه فغطَّته، وستره معنويًّا فلم يظهر عيبه، فلم يسمح لأحدٍ أن يغتابه ولا أن يذمَّه، مَن فعل ذلك ستَرَه الله في الدنيا والآخرة، فلم يفضحه بإظهار عيوبه وذنوبه.
قال العلماء: إنه يجب على المسلم أن يستر أخاه المسلم إذا سأله عنه إنسان ظالم يريد قتله أو أخذ ماله ظلمًا، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة وسأل عنها ظالم يريد أخذها، يجب عليه سترها وإخفاؤها، ويجب عليه الكذب بإخفاء ذلك، ولو استحلَفَه عليها لزمه أن يحلف، ولكن الأحوط في هذا كله أن يورِّي، ولو ترَك التورية وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرامٍ في هذه الحال. "الأذكار"؛ للإمام النووي (ص 580).
واستدلوا بجواز الكذب في هذه الحال بحديث أم كلثوم - رضي الله عنها -: أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( ليس الكذَّاب الذي يُصلِح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا)) أخرجه البخاري (2/ 958، رقم 2546)، ومسلم (4/ 2011، رقم 2605).
أجمع العلماء على أن مَن اطَّلع على عيبٍ أو ذنبٍ أو فجورٍ لمؤمن من ذوي الهيئات أو نحوهم ممَّن لم يُعرَف بالشر والأذى ولم يشتهر بالفساد، ولم يكن داعيًا إليه؛ كأن يشرب مسكرًا أو يزني أو يفجر متخوفًا متخفيًا غير متهتِّك ولا مجاهر - يُندَب له أن يستره، ولا يكشفه للعامة أو الخاصة، ولا للحاكم أو غير الحاكم. الموسوعة الفقهية الكويتية" (24/ 169).
وخصوصًا إذا كان ممَّن يُنسَب لأهل الدين، والطعنُ فيه طعنٌ في الإسلام، والعيبُ عليه عيبٌ في أهل الإسلام، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم -: (( أقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، إلا الْحُدُودَ)) أخرجه أحمد 6/181 والبخاري في (الأدب المفرد) (465).
وفي قصة ماعزُ بن مالكٍ الأسلمي ما يؤكد حث الإسلام على الستر على العصاة، فقد كان ماعز الأسلمي أحدُ الأصحاب الأخيار ممن وقر الإيمانُ في قلبه، فآمن بربه، وصدَّق برسالة نبيِّه، وعاش في مدينة رسول الله يَحمل بين جنبَيه نورَ الإيمان، وضياء التَّقوى، بَيْدَ أنَّه لم ينفك عن بشريَّته، ولم ينسلخ من ضعفه الآدمي؛ ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28].
فزيَّن له الشيطانُ فعلَ الحرام، وأزَّته نفسُه الأمَّارة نحوَ الفاحشة أزًّا، وفي ساعة الغفلة وسكرة الشَّهوة وقع في الإثم، وكان من أمره ما كان.
عصى ماعزٌ ربَّه، وأيقن أنَّ ذاك من عَمَلِ الشيطان، إنه عدو مضل مبين، فاحترق قلبه، وتلوَّعت نفسُه ندمًا وأسفًا، وعاش أيامًا عدة في بُؤس وغمٍّ، وحسرةٍ وهمٍّ.
عندها قرر ماعز أنْ يبوحَ بأمره ذاك إلى أحد بني عشيرته، وهو هزَّال بن يزيد الأسلمي، الذي أشار عليه أن يعترفَ ويقرَّ أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بخطيئته.
مشى المذنب التائب تجرُّه رِجلاه نحوَ الرَّحمة المُهداة، فوقف في حياءٍ واستحياء، ونطق بجُرمه ومَعصيته، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فكرر ماعز اعترافَه، وأقرَّ أربعًا، وألح على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقيمَ حدَّ الله، فلم يكُن بدٌّ من إقامة الحد، حدِّ الرجم، فرجمه الصحابة حتَّى فاضت روحُه إلى بارئها، ثم صلَّى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا له، واستغفر، وأثنى على توبته وصدقه مع ربِّه.
فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هزَّالاً الأسلميَّ هو الذي أشار عليه بالاعتراف، دعاه ثم قال: (( يا هزَّالُ، لو سترته بثَوْبك، كان خيرًا لك مما صنعت به)). أخرجه أحمد 5/216(22235) و"أبو داود"4377 و"النَّسائي" في "الكبرى"7167، الألباني: الصحيحة 2/29.
والستر على الناس فضله عظيم وثوابه عميم، فعَنْ دُخَيْنٍ، كَاتِبِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعُقْبَةَ: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُوهُمْ، فَقَالَ: لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ، قَالَ: فَفَعَلَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، قَالَ: فَجَاءَهُ دُخَيْنٌ، فَقَالَ: إِنِّي نَهَيْتُهُمْ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ، فَقَالَ عُقْبَةُ: وَيْحَكَ، لاَ تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (( مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ، فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْؤُدَةً مِنْ قَبْرِهَا)) أخرجه أحمد 4/153(17530) و"أبو داود"4892.
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: (( يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).
قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: " مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ". أَخْرَجَهُ الترمذي (2032) الألباني: رقم: 7984 في صحيح الجامع.
ولقد ضرب لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - النموذج الأعلى في الستر على الناس وعدم تعييرهم بأخطائهم وهفواتهم، قال زَيْدَ بن أَسْلَمَ قال خَوَّاتَ بن جُبَيْرٍ، قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ الظَّهْرَانِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ خِبَائِي فَإِذَا أَنَا بنسْوَةٍ يَتَحَدَّثْنَ، فَأَعْجَبْنَنِي، فَرَجَعْتُ فَاسْتَخْرَجْتُ عَيْبَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا حُلَّةً فَلَبِسْتُهَا وَجِئْتُ فَجَلَسْتُ مَعَهُنَّ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قُبَّتِهِ، فَقَالَ: (( أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا يُجْلِسُكَ مَعَهُنَّ؟، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هِبْتُهُ واخْتَلَطْتُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَمَلٌ لِي شَرَدَ، فَأَنَا أَبْتَغِي لَهُ قَيْدًا فَمَضَى وَاتَّبَعْتُهُ، فَأَلْقَى إِلَيَّ رِدَاءَهُ وَدَخَلَ الأَرَاكَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ مَتْنِهِ فِي خَضِرَةِ الأَرَاكِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ، فَأَقْبَلَ وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، أَوْ قَالَ: يَقْطُرُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، فَقَالَ: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ جَمَلِكَ؟، ثُمَّ ارْتَحَلْنَا فَجَعَلَ لا يَلْحَقُنِي فِي الْمَسِيرِ، إِلا قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ ذَلِكَ الْجَمَلِ؟ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَعَجَّلْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، واجْتَنَبْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُجَالَسَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ تَحَيَّنْتُ سَاعَةَ خَلْوَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَتَيْتُ الْمَسْجِدَ فَقُمْتُ أُصَلِّي، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَعْضِ حِجْرِهِ فَجْأَةً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وطَوَّلْتُ رَجَاءَ أَنْ يَذْهَبَ ويَدَعُنِي، فَقَالَ: طَوِّلْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا شِئْتَ أَنْ تُطَوِّلَ فَلَسْتُ قَائِمًا حَتَّى تَنْصَرِفَ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ لأَعْتَذِرَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ولأُبْرِئْنَ صَدْرَهُ، فَلَمَّا قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ ذَلِكَ الْجَمَلِ؟، فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا شَرَدَ ذَلِكَ الْجَمَلُ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ ثَلاثًا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْ لِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ)) أخرجه الطبراني (4/203، رقم 4146) قال الهيثمي (9/401) رواه الطبراني من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير الجراح بن مخلد وهو ثقة.
قال بعض العلماء: اجتهِد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير. جامع العلوم والحكم" (1/ 82).
لمّا ركب ابن سيرين الدّين وحبس به، قال: إني أعرف الذنب الذي أصابني يهذا، عيّرتُ رجلاَ منذُ أربعين سنة، فقلت له: يا مفلس.
قال الشاعر:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا *** فيكشف الله ستراَ من مساويكما
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا *** ولا تعب أحداَ منهم بما فيكا
واستغن بالله عن كل فإن به *** غنى لكل، وثق بالله يكفيكا
ُحكي أن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- كان له كاتب، وكان جيران هذا الكاتب يشربون الخمر، فقال يومًا لعقبة: إنَّ لنا جيرانًا يشربون الخمر، وسأبلغ الشرطة ليأخذوهم، فقال له عقبة: لا تفعل وعِظْهُمْ، فقال الكاتب: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وأنا داعٍ لهم الشرطة ليأخذوهم، فهذا أفضل عقاب لهم، فقال له عقبة: ويحك لا تفعل، فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة)).
حكى الشعبي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جلس بين مجموعة من أصحابه، وفيهم جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- وبينما هم جالسون أخرج أحد الحاضرين ريحًا، وأراد عمر أن يأمر صاحب ذلك الريح أن يقوم فيتوضأ، فقال جرير لعمر: يا أمير المؤمنين، أو يتوضأ القوم جميعًا. فسُرَّ عمر بن الخطاب من رأيه وقال له: رحمك الله. نِعْمَ السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام. البداية والنهاية 8/61.
قال سفيان بن حسين: ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية فنظر في وجهي، وقال: أغزوت الروم؟؟ قلت: لا قال: أغزوت الهند أو السند أو الترك؟؟ قلت: لا قال: أفسلم منك الروم، والهند، والسند، والترك؟! ولم يسلم منك أخوك المسلم!.
كان معروف الكرخي قاعدا يوم على دجلة ببغداد فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون فقال له أصحابه: أما ترى هؤلاء يعصون الله - تعالى -على هذا الماء؟ ادع عليهم فرفع يديه إلى السماء وقال: الهي وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة.فقال له صاحبه: أنما سألناك أن تدعو عليهم ولم نقل ادع لهم، فقال: أذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم هذا.ابن الملقن: طبقات الأولياء 1/47.
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَصَابَ ذَنْبًا وَكَانُوا يَسُبُّونَهُ، فَقَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي قَلِيبٍ أَلَمْ تَكُونُوا تَسْتَخْرِجُونَهُ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " فَلَا تَسُبُّوا أَخَاكُمْ، وَاحْمَدُوا اللهَ الَّذِي عَافَاكُمْ "، قَالُوا: أَفَلَا نَبْغَضُهُ؟ قَالَ: " إِنَّمَا أَبْغَضُ عَمَلُهُ فَإِذَا تَرَكَ فَهُوَ أَخِي ". البيهقي: شعب الإيمان 9/63.
3- الستر على العصاة ضوابط وحدود:
الستر على العصاة في الإسلام له حدوده وضوابطه، فلطالما لم يجاهر العاصي بالمعصية ويتجرأ بها على الله ويحاول إفساد المجتمع بها، فإنه يعذر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: (( رَأَى عِيسَى - عليه السلام - رَجُلاً يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ: يَا فُلاَنُ أَسَرَقْتَ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ مَا سَرَقْتُ، قَالَ: آمَنْتُ بِاللهِ، وَكَذَّبْتُ بَصَرِي)) أخرجه أحمد 2/383(8961).
ثم تقدم له النصيحة الخالصة التي لا تفضح ولا تجرح، كما قال الإمام الشافعي:
تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي *** وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الجَمَاعَة
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ *** مِنَ التَّوْبِيخِ لاَ أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
وَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي *** فَلاَ تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَة
وأن لا يحاول المرء الاشتغال بعيوب الناس سببٌ في فضح عيوب المشتغِل، والسكوت عن عيوب الناس سببٌ في ستر الله للعبد، ومَن نظَر لعيوب نفسه شغلتْه عن عيوب الناس، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( يبصر أحدكم القَذَى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)) (صحيح) انظر حديث رقم: 8013 في صحيح الجامع.
قال الشاعر:
إِذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى *** وديُنك موفوراً وعْرِضُكَ صينُ
فلا ينطقنْ منكَ اللسانُ بَسوْأةٍ *** فكلك سَوْءاتٌ وللناسِ أعينُ
وعينُكَ إِن أبدتْ إِليك معايباً *** فصُنْها وقُلْ يا عينُ للناسِ أعينُ
وعاشرْ بمعروفٍ وسامحْ من اعتدى *** ودافعْ ولكن بالتي هي أَحْسَنُ
قال المباركفوري: " وأما الستر المندوب إليه فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه، بل يرفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يُطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن عجز لزم رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة ". انظر: تحفة الأحوذي 8/215.
أخرج عبد الرازق بن حميد والخرائطي عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف، أنه حرس مع عمر بن الخطاب ليلة المدينة، فبينما هم يمشون إذ رأوا سراجًا متقدًا في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه إذا باب مجاف "مغلق" على قوم لهم فيه أصوات عالية ولغط، فقال عمر؛ وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف: أتدري بيت مَن هذا؟ قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شُرب "أي يشربون الخمر جماعةً" فماذا ترى؟ قال عمر: أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه قال الله - تعالى -: (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: من الآية 12) فقد تجسسنا، فانصرف عنهم وتركهم. البيهقي في سننه الكبرى رقم: 17403 والدر المنثور (7/ 567).
ولقد حث الإسلام على الستر لجميع الذنوب والمعاصي ولكن وفق الضوابط الشرعية، يقول ابن حجر "في شرح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ومَن سَتَرَ مُسلِمًا)) أَي رَآهُ عَلَى قَبِيحٍ فَلَم يُظهِرهُ أَي لِلنّاسِ، ولَيسَ فِي هَذا ما يَقتَضِي تَرك الإِنكار عَلَيهِ فِيما بَينَهُ وبَينَهُ، ويُحمَلُ الأَمرُ فِي جَوازِ الشَّهادَةِ عَلَيهِ بِذَلِكَ عَلَى ما إِذا أَنكَرَ عَلَيهِ ونَصَحَهُ فَلَم يَنتَهِ عَن قَبِيحِ فِعلِهُ ثُمَّ جاهَرَ بِهِ.. كَما أَنَّهُ مَأمُورٌ بِأَن يَستَتِرَ إِذا وقَعَ مِنهُ شَيء، فَلَو تَوجَّهَ إِلَى الحاكِمِ وأَقَرَّ لَم يَمتَنِع ذَلِكَ والَّذِي يَظهَرُ أَنَّ السَّترَ مَحَلّه فِي مَعصِيَةٍ قَد انقَضَت، والإِنكارَ فِي مَعصِيَةٍ قَد حَصَلَ التَّلَبُّس بِها فَيَجِبُ الإِنكارُ عَلَيهِ وإِلاَّ رَفَعَهُ إِلَى الحاكِمِ، ولَيسَ مِنَ الغِيبَةِ المُحَرَّمَةِ بَل مِنَ النَّصِيحَةِ الواجِبَةِ، وفِيهِ إِشارَةٌ إِلَى تَركِ الغِيبَةِ لأَنَّ مَن أَظهَرَ مَساوِئَ أَخِيهِ لَم يَستُرهُ". فتح الباري (97: 5).
ولقد استثنى الإسلام من جملة الستر على العصاة:
1- الحدود فإنها تستر على صاحبها وفق الضوابط، ما لم تبلغ السلطان فإنها لا تستر حينئذ، ودليله ما روي عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أنَّ قُرَيْشا أهَمَّهُمْ شَانُ المرأة الْمَخْزُومِيَّةِ التي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلا أُسامة حِبُّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَكَلَّمَهُ أُسامة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم -: (( أتشفع في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنما هْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أنهم كَانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ، تَرَكُوهُ وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أقاموا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللهِ، لَوْ أن فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)) أخرجه أحمد 6/41 و"البُخَارِي" 4/213 و5/29 و"مسلم" 5/114.
عن ابن مسعود موقوفاً: (( ادرءوا الحدود بالشبهات وأقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله - تعالى -)).
ولما جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال له: إن فلان تقطر لحيته خمراً، فرد عليه بن مسعود: إنا نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.
2- الشخص الذي يجاهر بالمعصية، والي يستخف بحدود الله وبالناس، فليس لهذا الشخص ستر وليس أهلا له، فالستر لا يتناول من كان منكره يلحق الضرر بالمجتمع عامة، ومن أمثلة ذلك ما يتصل بالنواحي العقدية، أو فيه ضرر على المسلمين في دينهم أو ما يتعلق بالنواحي الأمنية كزعزعة الأمن، وتهريب المخدرات، أو يتعاطي السحر والكهانة، ومن أراد التفريق بين المسلمين وتشتيت كلمتهم.
وقد رُوِي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس عيوبهم، وأدركت قومًا كانت لهم عيوب، فكفُّوا عن عيوب الناس فنُسِيت عيوبهم.
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أترعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه كي يعرفه الناس ويحذره الناس)) روه الطبراني (19/418، رقم 1010) الألباني: (ضعيف) انظر حديث رقم: 104 في ضعيف الجامع.
قال محمد بن داود الحدائي، قلت لسفيان بن عيينة: إن هذا يتكلم في القدر يعنى إبراهيم بن يحيى فقال سفيان: عرفوا الناس أمره، وسلوا الله لي العافية. ابن الجوزي: تلبيس إبليس ص 83.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وآمن روعاتنا، اللهم يمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا، وثقِّل موازيننا، وحقِّق إيماننا، وثبِّت على الصراط أقدامنا، وأقرّ برؤيتك يوم القيامة عيوننا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقاك.
المصدر موقع الرحمة المهداة www.mohdat.com
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: (( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا)) أخرجه أحمد 2/312(8103) و"البُخاري" 6064.
فكل ما كان سيئًا من القول، فالجهر به لا يحبُّه الله - عز وجل -، والتفتيش عن عيوب الناس وتتبع عوراتهم وسوء الظن بهم ليس من أخلاقيات المؤمن، قال - تعالى -: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا ). سورة الحجرات: 12.
قال المُفسِّرون: التجسسُ: البحثُ عن عيبِ المسلمين وعورتهم، أمَّا خَيْر الخلق وأَعْرفُ الخلق بما يُرضي الله - تعالى - فقد كان عظيمَ الحياء، عفيفَ اللِّسان، بعيدًا عن كشف العورات، حريصًا على كَتْم المعائب والزلاَّت، كان إذا رأى شيئًا يُنكره ويكرهُه، عرَّض بأصحابه وألمح، كم من مرَّة قال للناس: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا))، ((ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)).
ففي تتبع عورات الناس وفضحهم نشر للرذيلة بين العباد، وحباً لإشاعة الفاحشة بينهم، وهو ما حذرنا الله - تعالى -منه، قال - سبحانه -: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (19). سورة النور: 19.
لذا فقد اهتم علماء الإسلام بهذا الباب المهم من أبواب الأدب، فقد بوب البخاري - رحمه الله - في كتاب الأدب من صحيحه (باب ستر المؤمن على نفسه) ثم ذكر الأحاديث الدالة على ذلك، وبوب أيضاً في كتابه الأدب المفرد (باب من ستر مسلماً) وبوب الإمام النووي - رحمه الله - في كتابه شرح صحيح مسلم: (باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه) ثم ساق الأحاديث، وبوب ابن ماجة في سننه في كتاب الحدود ( باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات)، أما الفقهاء وأصحاب السلوك فقد بوب البغوي - رحمه الله –( باب النهي عن تتبع عورات المسلمين، وباب الستر)، وفصل في ذلك ابن مفلح الحنبلي في كتابه الآداب الشرعية. وكذلك المفسرون عنوا بهذا الموضوع عند ذكر الآيات الدالة كابن كثير في تفسيره.
والستر معناه: تغطية المسلم عيوبه وإخفاء هناته، وعدم كشفها للناس مع طلب التوبة والندم عليها، وتيقنه بأن الله - تعالى -يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إِنَّ الله - عز وجل - يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النهارِ، وًيبْسُطُ يَدَهُ بِالنهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)) أخرجه أحمد 4/395 ومسلم 8/99.
وها هي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - جاءتْها امرأةٌ، فأخبرتها أنَّ رجلاً قد أخذ بساقها وهي مُحرمة - أي: حاول كشف عورتها - فقاطعتها عائشةُ، وأعرضت بوجهها وقالت: "يا نساءَ المؤمنين، إذا أذنبتْ إحداكُنَّ ذنبًا، فلا تخبرن به النَّاس، ولتستغفر الله، ولتتب إليه؛ فإنَّ العباد يُعيِّرونَ ولا يُغيِّرون، والله يُغَيِّر ولا يُعيِّر. مكارم الأخلاق للخرائطي (503).
1- الله - تعالى -ستير يحب الستر:
من صفات الله - تعالى -أنه ستير يحب الستر على عباده، وهذا من كمال رحمته - سبحانه - ومن تمام فضله، قال - تعالى -: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (25) سورة الشورى، وقال: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (30) سورة الشورى.
وعَنْ عَطَاءٍ عَنْ يَعْلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ - عز وجل - حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ)) أخرجه أحمد (4/ 224، رقم 17999)، وأبو داود (4/ 39، رقم 4012)، والنسائي (1/ 200، رقم 406). والبيهقي (1/ 198، رقم 908) الألباني: صحيح النسائي (406).
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِىِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِى مَعَ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (( إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أي رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ (هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)). أَخْرَجَهُ أحمد 2/74(5436) و"البُخَارِي" 3/168(2441) و"مسلم" 8/105(7115).
"يروى أنه في عهد سيدنا موسى - عليه السلام - جف المطر وطلب منه قومه أن يدعو ربه بالغيث وينزل عليهم المطر، فصعد سيدنا موسى الجبل، ودعا ربه بأن ينزل عليهم المطر، فقال له ربه - عز وجل-: يا موسى كيف أنزل المطر وبينكم عاص، فرجع موسى إلى قومه وبلغهم بأن بينهم عاص، ولم ينزل الله المطر إلا إذا خرج، فلم يخرج أحد ثم أنزل الله المطر، فصعد موسى الجبل، وقال لربه: يا رب جمعت القوم وأبلغتهم بأن بيننا عاص فليخرج ولم يخرج أحد وقد أنزلت المطر يا رب، فقال - سبحانه وتعالى-: يا موسى أنى أنزلت المطر بعد ما تاب العاصي توبة نصوحة، فقال موسى لربه: من هو يا رب حتى نعرفه؟ قال الله - عز وجل – لموسى: يا موسى سترته وهو عاص، فكيف لا أستره وقد تاب إلى" ابن قدامة: كتاب التوابين 82.
قال الشاعر:
اللهُ ربي لا أُريدُ سواهُ *** هل في الوجود حقيقةُ إلاهُ؟
الشَّمْسُ وَالْبَدْرُ مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ *** وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ فَيْضٌ مِنْ عَطَايَاهُ
الطَّيْرُ سَبَّحَهُ وَالْوَحْشُ مَجَّدَهُ *** وَالْمَوْجُ كَبَّرَهُ وَالْحُوتُ نَاجَاهُ
وَالنَّمْلُ تَحْتَ الصُّخُورِ الصُّمِّ قَدَّسَهُ *** وَالنَّحْلُ يَهْتِفُ حَمْدًا فِي خَلايَاهُ
وَالنَّاسُ يَعْصُونَهُ جَهْرًا فَيَسْتُرُهُمْ *** وَالْعَبْدُ يَنْسَى وَرَبِّي لَيْسَ يَنْسَاهُ
قال شقيق بن إبراهيم: استتمام صلاح عمل العبد بستِّ خصال: تضرُّع دائم وخوف من وعيده، والثاني: حسن ظنِّه بالمسلمين، والثالث: اشتغاله بعيبه ولا يتفرَّغ لعيوب الناس، والرابع: يستر على أخيه عيبه ولا يفشي في الناس عيبه؛ رجاء رجوعه عن المعصية واستصلاح ما أفسده من قبل، والخامس: ما اطَّلع عليه من خسَّة عملها استعظمها؛ رجاء أن يرغب في الاستزادة منها، والسادسة: أن يكون صاحبه عنده مصيبًا. حلية الأولياء" (8/ 66).
قال ابن القيم:
وهو الحَيِيُّ فَلَيسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ *** عندَ التَّجَاهُرِ مِنْهُ بالعِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ *** فَهْوَ السَّتِيرُ وصَاحِبُ الغُفْرَانِ
ولكي ينال العبد رحمة الله - تعالى -وعفوه بالستر عليه، فلا بد له من شروط وأخلاقيات منها:
أ- الإخلاص وترك الرياء:
قال - تعالى -: ( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (65) سورة غافر، وقال: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (5) سورة البينة.
عَنِ ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: (( مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، وَمَنْ رَاءَى، رَاءَى الله بِهِ)) أخرجه مسلم 8/223(7585).
كان بشر الحافي يقول: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّ الذُّلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ العِزِّ، وَأَنَّ الفَقْرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الغِنَى، وَأَنَّ المَوْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ البَقَاءِ، وقَالَ: قَدْ يَكُوْن الرَّجُلُ مُرَائِياً بَعْدَ مَوْتِه، يُحِبُّ أَنْ يَكْثُرَ الخَلْقُ فِي جِنَازَتِهِ، لاَ تَجِدُ حَلاَوَةَ العِبَادَةِ حَتَّى تَجعَلَ بَينَكَ وَبَيْنَ الشَّهَوَاتِ سُدّاً". السير 19/466.
ب- التوبة والإنابة:
فالله - تعالى -من شأنه حبُّ الستر والصون لعباده، والتجاوز عن هفواتهم و عن زلاتهم، وقبول التوبة ممن تاب، قال - تعالى -: ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (90) سورة هود.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: (( وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاَةَ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أَوْ قَالَ: حَدَّكَ)) أخرجه البُخَارِي 8/206(6823) و"مسلم" 8/102 (7106).
ج- الستر على النفس وعدم المجاهرة بالمعصية:
يستحب لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التوبة منها ولا يخبر أحداً، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (( كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ)). أخرجه البخاري 8/24(6069) و"مسلم" 8/224.
عن ابن عمر - رضي الله عنه -: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله - تعالى -عنها فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله)) رواه الحاكم والبيهقي، تحقيق الألباني (صحيح) انظر حديث رقم: 149 في صحيح الجامع.
قالَ ابن بَطّال: " فِي الجَهر بِالمَعصِيَةِ استِخفاف بِحَقِّ الله ورَسُوله وبِصالِحِي المُؤمِنِينَ، وفِيهِ ضَرب مِنَ العِناد لَهُم، وفِي السِّتر بِها السَّلامَة مِنَ الاستِخفاف، لأَنَّ المَعاصِي تُذِلّ أَهلها، ومِن إِقامَة الحَدّ عَلَيهِ إِن كانَ فِيهِ حَدّ ومَن التَّعزِير إِن لَم يُوجِب حَدًّا، وإِذا تَمَحَّضَ حَقّ الله فَهُو أَكرَم الأَكرَمِينَ ورَحمَته سَبَقَت غَضَبه، فَلِذَلِكَ إِذا سَتَرَهُ فِي الدُّنيا لَم يَفضَحهُ فِي الآخِرَة، والَّذِي يُجاهِر يَفُوتهُ جَمِيع ذَلِكَ". فتح الباري 10: 487.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ ِللهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ)) أخرجه أحمد 1/387(3671).
يقول الشاعر:
إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي *** وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فَلاَ وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ *** وَلاَ الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ *** وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
عَنْ مَيْمُوْنٍ قَالَ: "مَنْ أَسَاءَ سِرّاً، فَلْيَتُبْ سِرّاً، وَمَنْ أَسَاءَ عَلاَنِيَةً، فَلْيَتُبْ عَلاَنِيَةً فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيِّرُوْنَ وَلاَ يَغْفِرُوْنَ، وَالله يَغْفِرُ وَلاَ يُعَيِّرُ. سير أعلام النبلاء 9: 81.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحيي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
وقال ابن القيم - رحمه الله -: "الذنوبُ جراحاتٌ، ورُبَّ جرحٍ وقع في مقْتَلٍ، وما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ من قسوةِ القلبِ والبعدِ عن اللهِ، وأبعدُ القلوبِ عن الله القلبُ القاسي" ورحم الله أبا العتاهية حين تخيل لو أن للذنوب رائحة كريهة تفوح فتفضح المذنب كيف يكون حالنا؟ وكيف أن الله قد أحسن بنا إذ جعل الذنوب بلا رائحة. فقال:
كيف إصلاح قلوبٍ *** إنما هُنَّ قروح
أحسَنَ اللهُ إليْنا *** أنَّ الخَطايا لا تَفوح
فإذا المستور منا *** بين ثوبيه فَضوح
يروى أنهم أتوا إلى عمر - رضي الله عنه - برجل قد سرق فقال هذا السارق: أستحلفك بالله أن تعفو عني فإنها أول مرة، فقال عمر - رضي الله عنه -: كذبت ليست هي المرة الأولى فأراد الرجل أن تثار الظنون حول عمر فقال له: أكنت تعلم الغيب؟ فقال عمر - رضي الله عنه -: لا، ولكني علمت أن الله لا يفضح عبده من أول مرة، فقطعت يد الرجل فتبعه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: أستحلفك بالله أهي أول مرة؟ فقال: والله إنها هي الحادية والعشرون.
2- الستر على العاصي من صفات المؤمن الصالح:
الستر على أهل المعاصي وعدم تتبع سقطاتهم من صفات المؤمنين الصالحين، ومن حقوق الأخوة الإسلامية، قال - تعالى -: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (10) سورة الحجرات.
عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ - عز وجل - فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ - عز وجل - عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) أَخْرَجَهُ أحمد 2/91(5646) و"البُخَارِي" 3/168(2442) و"مسلم" 8/18(6670).
قال ابن حجر - رحمه الله -: "أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره؛ أي: للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصحه فلم ينتهِ عن قبيحِ فعلِه ثم جاهَر به، كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء، فلو توجَّه إلى الحاكم وأقرَّ لم يمتنع ذلك، والذي يظهر أن الستر محله في معصية قد انقضَتْ، والإنكار في معصية قد حصل التلبُّس بها، فيجب الإنكار عليه، وإلا رفَعَه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة. فتح الباري" (5/ 97).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قَالَ: (( لاَ يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا، إِلاَّ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) أخرجه أحمد 2/388(9033) و"مسلم" 6686.
ومعنى الستر هنا عامٌّ لا يتقيَّد بالستر البدني فقط، أو الستر المعنوي فقط، بل يشملهما جميعًا، فمَن ستَر مسلمًا ستَرَه الله في الدنيا والآخرة؛ ستَر بدنه كأن رأى منه عورة مكشوفة فستَرَها، أو رأت امرأة شيئًا من جسد أختها مكشوفًا غير منتبهة إليه فغطَّته، وستره معنويًّا فلم يظهر عيبه، فلم يسمح لأحدٍ أن يغتابه ولا أن يذمَّه، مَن فعل ذلك ستَرَه الله في الدنيا والآخرة، فلم يفضحه بإظهار عيوبه وذنوبه.
قال العلماء: إنه يجب على المسلم أن يستر أخاه المسلم إذا سأله عنه إنسان ظالم يريد قتله أو أخذ ماله ظلمًا، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة وسأل عنها ظالم يريد أخذها، يجب عليه سترها وإخفاؤها، ويجب عليه الكذب بإخفاء ذلك، ولو استحلَفَه عليها لزمه أن يحلف، ولكن الأحوط في هذا كله أن يورِّي، ولو ترَك التورية وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرامٍ في هذه الحال. "الأذكار"؛ للإمام النووي (ص 580).
واستدلوا بجواز الكذب في هذه الحال بحديث أم كلثوم - رضي الله عنها -: أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( ليس الكذَّاب الذي يُصلِح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا)) أخرجه البخاري (2/ 958، رقم 2546)، ومسلم (4/ 2011، رقم 2605).
أجمع العلماء على أن مَن اطَّلع على عيبٍ أو ذنبٍ أو فجورٍ لمؤمن من ذوي الهيئات أو نحوهم ممَّن لم يُعرَف بالشر والأذى ولم يشتهر بالفساد، ولم يكن داعيًا إليه؛ كأن يشرب مسكرًا أو يزني أو يفجر متخوفًا متخفيًا غير متهتِّك ولا مجاهر - يُندَب له أن يستره، ولا يكشفه للعامة أو الخاصة، ولا للحاكم أو غير الحاكم. الموسوعة الفقهية الكويتية" (24/ 169).
وخصوصًا إذا كان ممَّن يُنسَب لأهل الدين، والطعنُ فيه طعنٌ في الإسلام، والعيبُ عليه عيبٌ في أهل الإسلام، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم -: (( أقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، إلا الْحُدُودَ)) أخرجه أحمد 6/181 والبخاري في (الأدب المفرد) (465).
وفي قصة ماعزُ بن مالكٍ الأسلمي ما يؤكد حث الإسلام على الستر على العصاة، فقد كان ماعز الأسلمي أحدُ الأصحاب الأخيار ممن وقر الإيمانُ في قلبه، فآمن بربه، وصدَّق برسالة نبيِّه، وعاش في مدينة رسول الله يَحمل بين جنبَيه نورَ الإيمان، وضياء التَّقوى، بَيْدَ أنَّه لم ينفك عن بشريَّته، ولم ينسلخ من ضعفه الآدمي؛ ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28].
فزيَّن له الشيطانُ فعلَ الحرام، وأزَّته نفسُه الأمَّارة نحوَ الفاحشة أزًّا، وفي ساعة الغفلة وسكرة الشَّهوة وقع في الإثم، وكان من أمره ما كان.
عصى ماعزٌ ربَّه، وأيقن أنَّ ذاك من عَمَلِ الشيطان، إنه عدو مضل مبين، فاحترق قلبه، وتلوَّعت نفسُه ندمًا وأسفًا، وعاش أيامًا عدة في بُؤس وغمٍّ، وحسرةٍ وهمٍّ.
عندها قرر ماعز أنْ يبوحَ بأمره ذاك إلى أحد بني عشيرته، وهو هزَّال بن يزيد الأسلمي، الذي أشار عليه أن يعترفَ ويقرَّ أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بخطيئته.
مشى المذنب التائب تجرُّه رِجلاه نحوَ الرَّحمة المُهداة، فوقف في حياءٍ واستحياء، ونطق بجُرمه ومَعصيته، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فكرر ماعز اعترافَه، وأقرَّ أربعًا، وألح على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقيمَ حدَّ الله، فلم يكُن بدٌّ من إقامة الحد، حدِّ الرجم، فرجمه الصحابة حتَّى فاضت روحُه إلى بارئها، ثم صلَّى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا له، واستغفر، وأثنى على توبته وصدقه مع ربِّه.
فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هزَّالاً الأسلميَّ هو الذي أشار عليه بالاعتراف، دعاه ثم قال: (( يا هزَّالُ، لو سترته بثَوْبك، كان خيرًا لك مما صنعت به)). أخرجه أحمد 5/216(22235) و"أبو داود"4377 و"النَّسائي" في "الكبرى"7167، الألباني: الصحيحة 2/29.
والستر على الناس فضله عظيم وثوابه عميم، فعَنْ دُخَيْنٍ، كَاتِبِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعُقْبَةَ: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُوهُمْ، فَقَالَ: لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ، قَالَ: فَفَعَلَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، قَالَ: فَجَاءَهُ دُخَيْنٌ، فَقَالَ: إِنِّي نَهَيْتُهُمْ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمُ الشُّرَطَ، فَقَالَ عُقْبَةُ: وَيْحَكَ، لاَ تَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (( مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ، فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْؤُدَةً مِنْ قَبْرِهَا)) أخرجه أحمد 4/153(17530) و"أبو داود"4892.
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: (( يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).
قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: " مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ". أَخْرَجَهُ الترمذي (2032) الألباني: رقم: 7984 في صحيح الجامع.
ولقد ضرب لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - النموذج الأعلى في الستر على الناس وعدم تعييرهم بأخطائهم وهفواتهم، قال زَيْدَ بن أَسْلَمَ قال خَوَّاتَ بن جُبَيْرٍ، قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ الظَّهْرَانِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ خِبَائِي فَإِذَا أَنَا بنسْوَةٍ يَتَحَدَّثْنَ، فَأَعْجَبْنَنِي، فَرَجَعْتُ فَاسْتَخْرَجْتُ عَيْبَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا حُلَّةً فَلَبِسْتُهَا وَجِئْتُ فَجَلَسْتُ مَعَهُنَّ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قُبَّتِهِ، فَقَالَ: (( أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا يُجْلِسُكَ مَعَهُنَّ؟، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هِبْتُهُ واخْتَلَطْتُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَمَلٌ لِي شَرَدَ، فَأَنَا أَبْتَغِي لَهُ قَيْدًا فَمَضَى وَاتَّبَعْتُهُ، فَأَلْقَى إِلَيَّ رِدَاءَهُ وَدَخَلَ الأَرَاكَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ مَتْنِهِ فِي خَضِرَةِ الأَرَاكِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ، فَأَقْبَلَ وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، أَوْ قَالَ: يَقْطُرُ مِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى صَدْرِهِ، فَقَالَ: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ جَمَلِكَ؟، ثُمَّ ارْتَحَلْنَا فَجَعَلَ لا يَلْحَقُنِي فِي الْمَسِيرِ، إِلا قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ ذَلِكَ الْجَمَلِ؟ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ تَعَجَّلْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، واجْتَنَبْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُجَالَسَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ تَحَيَّنْتُ سَاعَةَ خَلْوَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَتَيْتُ الْمَسْجِدَ فَقُمْتُ أُصَلِّي، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَعْضِ حِجْرِهِ فَجْأَةً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وطَوَّلْتُ رَجَاءَ أَنْ يَذْهَبَ ويَدَعُنِي، فَقَالَ: طَوِّلْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا شِئْتَ أَنْ تُطَوِّلَ فَلَسْتُ قَائِمًا حَتَّى تَنْصَرِفَ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ لأَعْتَذِرَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ولأُبْرِئْنَ صَدْرَهُ، فَلَمَّا قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فَعَلَ شِرَادُ ذَلِكَ الْجَمَلِ؟، فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا شَرَدَ ذَلِكَ الْجَمَلُ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ ثَلاثًا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْ لِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ)) أخرجه الطبراني (4/203، رقم 4146) قال الهيثمي (9/401) رواه الطبراني من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير الجراح بن مخلد وهو ثقة.
قال بعض العلماء: اجتهِد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير. جامع العلوم والحكم" (1/ 82).
لمّا ركب ابن سيرين الدّين وحبس به، قال: إني أعرف الذنب الذي أصابني يهذا، عيّرتُ رجلاَ منذُ أربعين سنة، فقلت له: يا مفلس.
قال الشاعر:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا *** فيكشف الله ستراَ من مساويكما
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا *** ولا تعب أحداَ منهم بما فيكا
واستغن بالله عن كل فإن به *** غنى لكل، وثق بالله يكفيكا
ُحكي أن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- كان له كاتب، وكان جيران هذا الكاتب يشربون الخمر، فقال يومًا لعقبة: إنَّ لنا جيرانًا يشربون الخمر، وسأبلغ الشرطة ليأخذوهم، فقال له عقبة: لا تفعل وعِظْهُمْ، فقال الكاتب: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وأنا داعٍ لهم الشرطة ليأخذوهم، فهذا أفضل عقاب لهم، فقال له عقبة: ويحك لا تفعل، فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة)).
حكى الشعبي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جلس بين مجموعة من أصحابه، وفيهم جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- وبينما هم جالسون أخرج أحد الحاضرين ريحًا، وأراد عمر أن يأمر صاحب ذلك الريح أن يقوم فيتوضأ، فقال جرير لعمر: يا أمير المؤمنين، أو يتوضأ القوم جميعًا. فسُرَّ عمر بن الخطاب من رأيه وقال له: رحمك الله. نِعْمَ السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام. البداية والنهاية 8/61.
قال سفيان بن حسين: ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية فنظر في وجهي، وقال: أغزوت الروم؟؟ قلت: لا قال: أغزوت الهند أو السند أو الترك؟؟ قلت: لا قال: أفسلم منك الروم، والهند، والسند، والترك؟! ولم يسلم منك أخوك المسلم!.
كان معروف الكرخي قاعدا يوم على دجلة ببغداد فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون فقال له أصحابه: أما ترى هؤلاء يعصون الله - تعالى -على هذا الماء؟ ادع عليهم فرفع يديه إلى السماء وقال: الهي وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة.فقال له صاحبه: أنما سألناك أن تدعو عليهم ولم نقل ادع لهم، فقال: أذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم هذا.ابن الملقن: طبقات الأولياء 1/47.
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَصَابَ ذَنْبًا وَكَانُوا يَسُبُّونَهُ، فَقَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي قَلِيبٍ أَلَمْ تَكُونُوا تَسْتَخْرِجُونَهُ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " فَلَا تَسُبُّوا أَخَاكُمْ، وَاحْمَدُوا اللهَ الَّذِي عَافَاكُمْ "، قَالُوا: أَفَلَا نَبْغَضُهُ؟ قَالَ: " إِنَّمَا أَبْغَضُ عَمَلُهُ فَإِذَا تَرَكَ فَهُوَ أَخِي ". البيهقي: شعب الإيمان 9/63.
3- الستر على العصاة ضوابط وحدود:
الستر على العصاة في الإسلام له حدوده وضوابطه، فلطالما لم يجاهر العاصي بالمعصية ويتجرأ بها على الله ويحاول إفساد المجتمع بها، فإنه يعذر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: (( رَأَى عِيسَى - عليه السلام - رَجُلاً يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ: يَا فُلاَنُ أَسَرَقْتَ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ مَا سَرَقْتُ، قَالَ: آمَنْتُ بِاللهِ، وَكَذَّبْتُ بَصَرِي)) أخرجه أحمد 2/383(8961).
ثم تقدم له النصيحة الخالصة التي لا تفضح ولا تجرح، كما قال الإمام الشافعي:
تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي *** وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الجَمَاعَة
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ *** مِنَ التَّوْبِيخِ لاَ أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
وَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي *** فَلاَ تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَة
وأن لا يحاول المرء الاشتغال بعيوب الناس سببٌ في فضح عيوب المشتغِل، والسكوت عن عيوب الناس سببٌ في ستر الله للعبد، ومَن نظَر لعيوب نفسه شغلتْه عن عيوب الناس، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( يبصر أحدكم القَذَى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)) (صحيح) انظر حديث رقم: 8013 في صحيح الجامع.
قال الشاعر:
إِذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى *** وديُنك موفوراً وعْرِضُكَ صينُ
فلا ينطقنْ منكَ اللسانُ بَسوْأةٍ *** فكلك سَوْءاتٌ وللناسِ أعينُ
وعينُكَ إِن أبدتْ إِليك معايباً *** فصُنْها وقُلْ يا عينُ للناسِ أعينُ
وعاشرْ بمعروفٍ وسامحْ من اعتدى *** ودافعْ ولكن بالتي هي أَحْسَنُ
قال المباركفوري: " وأما الستر المندوب إليه فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس هو معروفا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه، بل يرفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يُطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات وجسارة غيره على مثل فعله هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن عجز لزم رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة ". انظر: تحفة الأحوذي 8/215.
أخرج عبد الرازق بن حميد والخرائطي عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف، أنه حرس مع عمر بن الخطاب ليلة المدينة، فبينما هم يمشون إذ رأوا سراجًا متقدًا في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه إذا باب مجاف "مغلق" على قوم لهم فيه أصوات عالية ولغط، فقال عمر؛ وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف: أتدري بيت مَن هذا؟ قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شُرب "أي يشربون الخمر جماعةً" فماذا ترى؟ قال عمر: أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه قال الله - تعالى -: (وَلا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: من الآية 12) فقد تجسسنا، فانصرف عنهم وتركهم. البيهقي في سننه الكبرى رقم: 17403 والدر المنثور (7/ 567).
ولقد حث الإسلام على الستر لجميع الذنوب والمعاصي ولكن وفق الضوابط الشرعية، يقول ابن حجر "في شرح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ومَن سَتَرَ مُسلِمًا)) أَي رَآهُ عَلَى قَبِيحٍ فَلَم يُظهِرهُ أَي لِلنّاسِ، ولَيسَ فِي هَذا ما يَقتَضِي تَرك الإِنكار عَلَيهِ فِيما بَينَهُ وبَينَهُ، ويُحمَلُ الأَمرُ فِي جَوازِ الشَّهادَةِ عَلَيهِ بِذَلِكَ عَلَى ما إِذا أَنكَرَ عَلَيهِ ونَصَحَهُ فَلَم يَنتَهِ عَن قَبِيحِ فِعلِهُ ثُمَّ جاهَرَ بِهِ.. كَما أَنَّهُ مَأمُورٌ بِأَن يَستَتِرَ إِذا وقَعَ مِنهُ شَيء، فَلَو تَوجَّهَ إِلَى الحاكِمِ وأَقَرَّ لَم يَمتَنِع ذَلِكَ والَّذِي يَظهَرُ أَنَّ السَّترَ مَحَلّه فِي مَعصِيَةٍ قَد انقَضَت، والإِنكارَ فِي مَعصِيَةٍ قَد حَصَلَ التَّلَبُّس بِها فَيَجِبُ الإِنكارُ عَلَيهِ وإِلاَّ رَفَعَهُ إِلَى الحاكِمِ، ولَيسَ مِنَ الغِيبَةِ المُحَرَّمَةِ بَل مِنَ النَّصِيحَةِ الواجِبَةِ، وفِيهِ إِشارَةٌ إِلَى تَركِ الغِيبَةِ لأَنَّ مَن أَظهَرَ مَساوِئَ أَخِيهِ لَم يَستُرهُ". فتح الباري (97: 5).
ولقد استثنى الإسلام من جملة الستر على العصاة:
1- الحدود فإنها تستر على صاحبها وفق الضوابط، ما لم تبلغ السلطان فإنها لا تستر حينئذ، ودليله ما روي عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أنَّ قُرَيْشا أهَمَّهُمْ شَانُ المرأة الْمَخْزُومِيَّةِ التي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلا أُسامة حِبُّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَكَلَّمَهُ أُسامة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم -: (( أتشفع في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنما هْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أنهم كَانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ، تَرَكُوهُ وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أقاموا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللهِ، لَوْ أن فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)) أخرجه أحمد 6/41 و"البُخَارِي" 4/213 و5/29 و"مسلم" 5/114.
عن ابن مسعود موقوفاً: (( ادرءوا الحدود بالشبهات وأقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله - تعالى -)).
ولما جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال له: إن فلان تقطر لحيته خمراً، فرد عليه بن مسعود: إنا نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.
2- الشخص الذي يجاهر بالمعصية، والي يستخف بحدود الله وبالناس، فليس لهذا الشخص ستر وليس أهلا له، فالستر لا يتناول من كان منكره يلحق الضرر بالمجتمع عامة، ومن أمثلة ذلك ما يتصل بالنواحي العقدية، أو فيه ضرر على المسلمين في دينهم أو ما يتعلق بالنواحي الأمنية كزعزعة الأمن، وتهريب المخدرات، أو يتعاطي السحر والكهانة، ومن أراد التفريق بين المسلمين وتشتيت كلمتهم.
وقد رُوِي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس عيوبهم، وأدركت قومًا كانت لهم عيوب، فكفُّوا عن عيوب الناس فنُسِيت عيوبهم.
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أترعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه كي يعرفه الناس ويحذره الناس)) روه الطبراني (19/418، رقم 1010) الألباني: (ضعيف) انظر حديث رقم: 104 في ضعيف الجامع.
قال محمد بن داود الحدائي، قلت لسفيان بن عيينة: إن هذا يتكلم في القدر يعنى إبراهيم بن يحيى فقال سفيان: عرفوا الناس أمره، وسلوا الله لي العافية. ابن الجوزي: تلبيس إبليس ص 83.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وآمن روعاتنا، اللهم يمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا، وثقِّل موازيننا، وحقِّق إيماننا، وثبِّت على الصراط أقدامنا، وأقرّ برؤيتك يوم القيامة عيوننا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقاك.
المصدر موقع الرحمة المهداة www.mohdat.com