لا يقال تطرف وهوس دينى لمن تابع الوحي:
ينبغي الحذر من إطلاق المصطلحات المستوردة بصفة عامة، ومن بينها مصطلح التطرف الذي ذاع وشاع في الآونة الأخيرة، والتي أصبحت تستخدم في الصد عن سبيل الله والتنفير من طاعة الله والتخويف من السير في ركب الإيمان، والتخلق بأخلاق المؤمنين؛ ولذلك امتنع البعض من إطلاق لحيته، وتقصير ثوبه، والتكلم باللغة العربية والاستنان بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إن هذا المصطلح الوافد لو جاز إطلاقه فأولى الناس به الذين انحرفوا عن منهج الله فكانوا بين الغلو والجفاء والإفراط والتفريط، وإذا قلنا تطرف وهوس ديني.......إلى آخر نعوت التنفير لمن التزم بالوحي المنزل فما الذي نقوله لمن قال إن عزيراً أو الميسح ابن الله!؟ ولمن أنكر وجود الله من الملاحدة والشيوعيين، ماذا نقول لمن جعل من نفسه نداً وذهب يشرِّع مع الله؟ وماذا نقول لمن صرف العبادة للسيد البدوي وأبي العباس المرسي؟، ماذا تقول لمن حياته في الخمَّارة وفي الرقص والغناء وسائر فنون الانحلال؟
إن الميزان الذي يجب على البشر أن يحتكموا إليه هو ميزان الكتاب والسنة لا العرف ولا الكثرة، ولا الواقع المنسلخ المتفلت من دين الله (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء 65]، احملونا وإياكم على شرع خالق الخلق ومالك الملك أحكمِ الحاكمين وحينئذ سنستبين من المحق ومن المبطل، من البر ومن الفاجر، فإن أبيتم ذلك فلسان حالنا ينطق (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين * قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون * قل يجمع بيننا ربنا بالحق ثم يفتح بيننا وهو الفتاح العليم) وسنردد قوله - تعالى - (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون).
لقد عرف البعض التطرف بقوله: توهم احتكار الحقيقة ورفض الاختلاف والتعددية، واستخدام الألفاظ الغليظة كالخيانة والكفر والفسوق، وقالوا: هو عبارة عن فكر ضيق يجعل صاحبه لا يرضي عن أي فرد إلا إذا شاركه في عقيدته، والتطرف كما عبروا يدفع إلى القيام بأعمال لا تعتمد على العقل وإنما تعتمد على العاطفة، وإلى هؤلاء جميعاً نقول: اتقوا الله وكفاكم انبهاراً بالنظم الغربية، عودوا إلى إسلامكم واحتكموا إليه، فما الحق إلا واحد كما قال الإمام مالك - رحمه الله -، والخلاف منه ما هو سائغ معتبر لا يفسد للود قضية: كخلاف أهل الإسلام في قصر الصلاة مثلاً، وخلاف غير معتبر وغير سائغ: كالخلاف مع أهل الملل والنحل والفلسفات المارقة والأفكار المستورة كالديمقراطية مثلاً، كان شيخ الإسلام بن تيمية ـ - رحمه الله - ـ يقول: "نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع". فحرية الرأي والفكر والتعبير والحرية الشخصية وحرية التملك عند الديمقراطيين تنطوي على مخالفات كثيرة لا يقبلها دين الله، وتكفير المخالف يتطلب إقامة الحجة الرسالية على يد عالم أوذي سلطان مطاع بحيث تنتفي الشبهات وتدرأ المعاذير ويحي من حي عن بينة ويهلك من هلك أيضاً عن بينة، وعلى كل حال ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه، والنصيحة والأمر بالمعروف يكون بالواجب والمستحب، والنهي عن المنكر يشمل المحرمات والمكروهات، ولا يسعنا إلا أن نحب من أطاع الله ونواليه على ذلك، ونبغض من كفر بالله وحسَّن طريق المعاصي والفجور لخلق الله ونعاديه على ذلك، ثم الهفوات التي تبدر ممن يحرص على الاستقامة إما أن نعالجها بروح الأبوة الحانية أو الأخوة الشفوقة، ونعين صاحبها على طاعة الله، وإما أن نقف على منصة القضاء العادل الذي يحكم بما أنزل الله ولا تُدين إلا ببينة أوضح من شمس النهار، ولنعلم أن الخطأ مرفوض، والباطل مردود على صاحبه كائناً من كان، وفي هذه الحالة فليس لنا أن نشهِّر أو أن نعمم التهمة على كل من سلك طريق الله واستقام على شرع الله (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب في الدنيا والآخرة) [النور 19].
2- ابن بيئته أم أسير الوحي المنزل؟
طباع وأخلاق أهل المشرق تفترق عن طباع وأخلاق أهل المغرب، وقد يكون في البعض حدة وشدة فيقولون عنه هو ابن بيئته، كما وصفوا ابن حزم الأندلسي في تعامله مع العلماء، وهذا الأمر لا يُقبل على إطلاقه وحتى وإن كان واقعاً فالقلم مرفوع عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق، وليس من الأعذار التعلل بالنشأة والبيئة، فالعرف والعادة والبيئة لا تصلح ميزاناً ومقياساً و مبرراً لأخلاق الإنسان، بل لابد من ضبطها بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقول بأن الإنسان ابن بيئته، يقترب من الفلسفة اليونانية ونسبية الأخلاق عند العرب والتي أرجعوها إلى العادات والتقاليد، لقد كانت الآيات تتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعلم الأمة في شخصه الكريم (قل إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلىَّ ربي)، وكل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال الأمام مالك - رحمه الله تعالى - : "ما منا إلا وردَّ ورُدَّ عليه"، وقال الشافعي - رحمه الله -: "إذا رأيتم قولي يخالف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخذوا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضربوا بقولي عرض الحائط". والحذر كل الحذر من التبريرات الساقطة والتأويلات الفاسدة التي لا تصلح عذراً للعبد بين يدي الله - تعالى - وقديماً قالوا: "ما عصى الله إلا بالتأويل".
3- لماذا لا نستطيع إدانة الآخرين!؟
يقول سير توماس براون: "لا يوجد إنسان واحد يستطيع أن يدين الآخر؛ لأنه في الحقيقة لا يوجد إنسان واحد يعرف الآخر" ا. هـ. هذه الكلمات الفلسفية وأشباهها كثير لاقت رواجاً وقبولاً في الآونة الأخيرة وصار من جملة المسلَّمات عند الكثيرين أنك لا تستطيع الحكم على أحد!!! وهذه المقولة الشائعة، ذائعة السيط، لابد من عرضها على السمة الربانية، وعلى الميزان والمقياس الذي نؤمن به، فنحن نقبل من الناس علانيتهم ونكِلُ ونترك- سريرتهم إلى الله، أي لنا الظاهر والله يتولى السرائر، ونحسن الظن بالمسلمين، ونسيء الظن بأنفسنا وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، والمؤمن يتلمس للناس المعاذير، أما المنافق فهو الذي يتلمس للناس الزلات، وفي قصة ذي الخويصرة لما قال الصحابي: "دعني اضرب عنق هذا الرجل"، قال له - صلى الله عليه وسلم -: ((ربما يكون يصلى))، فردَّ عليه الصحابي: "رب مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه"، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لم أؤمر أن أشق عن الصدور ولا أن أنقب عن القلوب))، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "أيها الناس إن الوحي قد انقطع فمن أظهر لنا خيراً أمنَّاه وقربناه ليس لنا في سريرته، الله يتولاه في سريرته، ومن أظهر لنا شراً لم نؤمنه ولم نقربه وإن قال إن نيته حسنة"، ومما روى عن المسيح - عليه السلام - أنه قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن القلب القاسي بعيد عن الله، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب؛ ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، فإن الناس رجلان مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية ". ونحن وإن كنا بشراً نجهل أكثر مما نعلم (والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، فقد أعلمنا - سبحانه - أن العباد منهم البر والفاجر والمطيع والعاصي وبين لنا الأخلاق الطيبة حتى نتحلى بها، والأخلاق السيئة حتى نجتنبها، وشرع لنا الحدود: كحد السرقة والزنا والخمر والقذف، ونصب الموازين وجعل الجنة والنار وقال (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون)، وقسم العباد إلى مؤمن وكافر ومنافق، والمنافق أخطر من الكافر: وهو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وقال - سبحانه - فيهم (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول)، فما أسر عبد سريرة إلا وأظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استودع أسماء المنافقين عند حذيفة -رضي الله عنه-، فكان عمر -رضي الله عنه- يقول له: "ناشدتك الله يا حذيفة أسماني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم -أي من المنافقين- فيقول له حذيفة: لا، ولا أزكي بعدك أحداً". فلماذا إذاً لا نستطيع إدانة الآخرين؟ وإذا كان أصحاب الأعراف والعادات والتقاليد يُخطئون ويصوبون فكيف يكون الحال مع أصحاب المنهج الرباني!! وإذا كانت الحكومات تعلق المشانق لمن خرج عن دستورها، فهلا نستطيع إدانة من خالف الكتاب والسنة؟! نعم قد يقال: الوقت وقت غربة وحهالة، والناس جهلوا السنن وغابت عندهم معالم الشريعة الغراء، ولابد من الرفق بالخلق، والتفريق بين الحكم والفتوى، وأن الفتوى تقدر زماناً ومكاناً وشخصاً، كل ذلك صحيح وهو لا يتعارض مع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد في سبيل الله وإن الحق ما وافق الكتاب والسنة حتى وإن عملت به القلة، والباطل ما خالف دين الله حتى وإن عملت به الكثرة (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فلا داعي بالانبهار بالفلسفة، ولا يصح أن نردد كالبغبغاوات، حتى لا يكون الإنسان أشبه بحاطب بليل فقد يحمل حية تلدغه.
4- لا يجوز خلط الشريعة بغيرها ولا التقاء في منتصف الطريق:
الفارق بين المنهج الرباني، والمناهج الوضعية والفلسفية كالفارق بين السماء والأرض، فالمخلوق الذي لا يدرى من خلقه، ولماذا خلقه، وإلى أين المصير، لا يصلح أن يرع لنفسه فضلاً عن أن يضع المناهج الخلقية وغيرها للبشر(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)، وإذا كان الخلق خلقه والعبد عبده فالأمر أيضاً أمره، والحلال ما أحل والحرام ما حرم والدين ما شرع (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
لقد دخل البعض في بحار الفلسفة وأراد مزجها بدين الله وهذا مبدأ مرفوض مردود على صاحبه: كأحمد بن مسكويه ومن جرى في إثره كالكندي والفاربي وغخوان الصفا وابن سينا وابن باجه وابن طفيل وابن عربي، اللذين أقاموا مذاهبهم في الأخلاق على أساس من الفلسفة التي ثقفوها عن اليونان معلنين ذلك غير مستخفين، فمسكويه مثلاً: يصف أفلاطون بأنه ذلك الحكيم المحسن إلينا المنعم علينا، فهل يجوز بعد ذلك أن يقال عن (تهذيب الأخلاق لمسكويه) أنه المرجع الوحيد للأخلاق عند العرب، وقد صرح الكندي بأنه أخذ نظرية النفس عن أرسطو وأفلاطون وسائر الفلاسفة، والفارابي كما يقول دي بور: "يوافق أفلاطون تارة وأرسطو تارة أخرى وقد يتجاوز آراءهما أحياناً نازعاً منزع التصوف والزهد"؛ ولذلك وصف شيخ الإسلام ابن تيمية الفارابي وتلامذته بأنهم (فراخ اليونان)؛ وذلك لأن معظم جهود الفارابي كانت متجهة إلى تجديد بحوث الفلسفة اليونانية، وقد وصف إخوان الصفا الإنسان الكامل الخلق بأنه: "فارسي النسب، عربي الدين، عراقي الآداب، عبراني المخبر، مسيحي المنهج"، وعلى الرغم من هذا الشذوذ وهذه المناقص والمتناقضات اعتبرهم المستشرق كارادي فو (من أهم الأخلاقيين العرب) ويقال: أن ابن رشد لخص كتاب الأخلاق لأرسطو، وألف الرازي (السيرة الفلسفية)، وأبرز أهل التصوف هو الغزالي ولم تخل جهوده من شوائب الفلسفة والاعتماد على نظريات أفلاطون وأرسطو، ولذلك وصفه ابن تيمية بأنه "برزخ بين المسلمين وبين الفلاسفة، ففيه فلسفة مشوبة بإسلام، وإسلام مشوب بفلسفة"، وهذه اللوثة قد انتقلت إلى كثير من المعاصرين ومن عجيب الأمر أن يتخذ الدكتور محمد بيصار من (تهذيب الأخلاق) لمسكويه مصدراً أساسياً لبعض فصول كتابه (العقيدة والأخلاق) وعلى الرغم من جزمه بأنه ترديد لنظريات أفلاطون وأرسطو.
لقد أخطأ من خلط الأخلاق الإسلامية بالفلسفة اليونانية، فأخلاقنا ليست كأخلاقهم، نعم الحكمة ضالة المؤمن، والحق مقبول من كل من جاء به حتى وإن أتى من ملحد زنديق، والعلوم الدنيوية تؤخذ من كل من أفلح فيها: كالزراعة والهندسة والطب، أما علوم الهداية فلا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة، وما يقال عن التأثر الضار بالفلسفة يقال مثله عن التلفيق الممقوت مع الأديان المحرفة المبدلة، فالمسيحية وهى في الأصل عقيدة توحيد أصبحت عبارة عن التثليث وتجسيد تناقض الدين الذي بعث به عيسى - عليه السلام -، وفي هذا يقول ج. سال: "إن المسيحيين انتهوا إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود وان ما قابله محمد وأتباعه في كل اتجاه لم يكن إلا خرافات منفرة ووثنية منحطة ومخجلة... "، ولم يكن حظ دين الله عند العرب قبل الإسلام أوفر منه لدى اليهود والنصارى، فعند مجيء الإسلام كانت شرائع الله التي عرفوها إما مبدلة وإما منسوخة، وكان بعضها مجهولا وبعضها متروكاً. كما يقول ابن تيمية.
ف
على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، و
الذي جعلنا مسلمين، لقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة، فلا يجوز أن نخلط الماء بالخمر، ولا أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، رضينا بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً.