من طرف صلاح محمد حسانين 6/10/2010, 8:36 am
تهادى
نهر الحوار بيننا في أمسية جميلةلهذا الحديث حكاية!
منذ أسابيع كنت في
زيارة خاطفة للعاصمة الرمادية "لندن"، وكنت قد رتّبت موعداً مع الشاعر
الكبير نزار قباني. وذهبت إليه في شقته الأنيقة في سلون سكوير، أحمل معي
مسجلاً وتساؤلات.
وتهادى نهر الحوار بيننا في أمسية جميلة، وكانت
مضيفتنا ابنته التي تقيم معه الآن.
وفجأة تحشرج صوت نزار، وأشار لي
أن أوقف المسجل، وقال وهو يتكلم بصعوبة: إنها آلام الديسك.. عذاب فقرات
الدهر! وجمعت أوراقي ولكنه سألني: هل تبقّى الكثير من أسئلتك؟ قلت وأنا
أشفق عليه: هناك سبعة أسئلة فقط! قال نزار: اتركها لي أجيبك بصوتي على شريط
مسجل.
ومرت أسابيع أخرى ووصلتني رسالة نزار الصوتية، ومعها خطاب
رقيق حملته شقيقة زوجته الراحلة بلقيس، وهي سيدة عراقية فاضلة.
وإذ
أنا أستعد لإعداد الحديث فاجأتني آلام الرئة، وكان ما كان، وبعد شهر كامل
قضيته في فرنسا بين آلام وعلاج ونقاهة، شعرت أن حديث نزار يتململ في
المظروف الأصفر فأفرجت عنه!
أنت الآن تسكن في لندن بعد طول رحيل..
ماذا تعني لك هذه المدينة؟ وكيف ترسم لنا علاقتك معها؟
* نزار: لندن
علّمتني كيف أحبّ اللون الرمادي.. حين دخلتُها عام 52.. كان جسدي مغطى
بالغبار الصحراوي، وعندما اصطدمت بأول غمامة رمادية تحوّل الغبار في داخلي
إلى ماء، ومثلما اصطدم الشاعر العربي ببساتين الأندلس وأشجارها ونوافير
مائها، فتغير هو وتغيرت لغته وتغيرت صياغته وأشكاله الشعرية؛ اصطدمت أنا
بالريف البريطاني؛ فتغير خطابي الشعري وأصبحت أكتب باللون الرمادي.
في
لندن تخلّيت عن بداوتي وركضت كطفل مبهور على أعشاب هايد بارك وهولاند
بارك، وكانت حصيلة إقامتي اللندنية الأولى عام 1952- 1955 مجموعة شعرية
بعنوان "قصائد أعتبرها من أهم أعمالي الشعرية".
علمتني لندن أيضاً
كيف أتحرر من صداع الجنس، وكيف أنادي المرأة (يا صديقتي) بدلاً من (يا
عشيقتي)، وكيف أذهب مع امرأة إلى المسرح أو إلى المطعم أو إلى الكونشيرتو
دون أن أستعمل أظافري وأسناني. تعلمت -يا أخي- كيف أتأمل بطة سابحة في
بحيرة أو زهرة سابحة بعبيرها أو شجرة مزهوّة بكبريائها.
ما الفرق
بين المرأة الإنجليزية والمرأة الفرنسية في عين الشاعر؟
* الفرنسية
فضيحة معلنة، وأنا ما باحب الفضائح المعلنة، أنا أحب أن أكتشف المرأة، لا
أحب امرأة تعطي كل شيء من اللحظات الأولى.. مع المرأة الإنجليزية ستارة،
ولا ينكسر بينك وبينها أي شيء ويبقى الوهم.. وأنا أصر على كلمة "الوهم"..
نحن نصنع جمال المرأة وفتنتها ونشكّلها بوهمنا.. أنا أحب المرأة التي
أصنعها مثل بجماليون؟
قلت إن قصيدة "مايا" عرّضتني للهجوم، والبعض
قالوا: كيف تنشر عملاً جنسياً؟
* نزار (بغضب): هؤلاء لم يقرءوا
القصيدة.. "مايا" عبارة عن وردة جميلة سمحت لنفسي أن آخذ كاميرا تصوير
وأصوّرها بكل فتنتها وكل أنوثتها دون إسفاف ودون هبوط. "مايا" قصيدة حضارية
100%، والحقيقة..
أنا صورت "مايا" ولم أخجل من تصويري، لأنني لم
أخجل أمام الجماهير، ولا "مايا" خجلت من التصوير! "مايا" -كما قلت لك- وردة
جميلة، وكل الورود تحب أن تتعطر، وأن تتكحل، وأن تلبس خواتمها وأساورها..
وهل تتصور أنه ليس هناك امرأة في العالم لا تريد أن يكون لها صورة جميلة؟
هل
ترحب بأن تحكمنا النساء؟
* ولماذا نرفض أن تحكمنا النساء؟ أليست
"صوفيا لورين" أجمل وأعدل وأكثر ديمقراطية من الرفيق "تشاوتشيسكو"؟ أليست
"ميلينا ميركوري" أكثر ثقافة من الرفيق "ستالين"؟!
أبحث
عن موديل أو ملكة جمال أبحث عن امرأة تقيم معي حواراً حضارياًهل يحبك كل
النساء لأنك تقود ثورة تصحيح مسار باسمهن؟!
* ليست كل النساء! هناك
مستريحات لأوضاعهن كحريم يتعاملن مع الرجل بالأظافر والأسنان؛ ولكني أعترف
لك أنه لم يكرهني إلا القبيحات.. كل امرأة قبيحة كنت غريمها..
أنا
أتكلم عن الجمال والضوء، والمرأة القبيحة لا تحتمل؛ فأنا ضُرّتها.. الذباب
عندما يسلّطون عليه روائح زكية يموت، مثلما أسلّط الشعر الجميل على
القبيحات.. أنا لا أتصور أن هناك فراشة معقّدة؛ ولكني أتصور وجود خنفسة
معقدة.
تعشق الجميلات؟
* ليس هناك قانون للجمال.. أكره
ملكات الجمال في العالم.. إنهن لسن ملكي.. لقد خلقوا لكل العالم.. والمرأة
التي أحبها لي وحدي.. كل ملكات الجمال بتقرير لجنة حكام مثل لجان ترقية
الموظفين!
ما يلفت نظري لامرأة ما، أنها تحبني وتشعرني برجولتي
وأهميتي، وتصادق قصائدي ولا تغار منها!
قلت لنزار: أنت أستاذ من
أساتذة العشق؛ فهل تعتقد أن العاشق الذكي هو الذي يعرف الرحيل في الوقت
المناسب؛ حتى لا يتحول الحب إلى وظيفة أو نوع من أنواع الخدمة العسكرية؟
*
ضحك نزار للتشبيه الأخير، وقال: بدون تردد أقول (نعم)؛ فالعاشق الناجح هو
الذي يتقن حساب المسافات، والمرأة الذكية هي التي تعرف أن تقول لحبيبها وهي
في ذروة أشواقها (أسألك الرحيل).
قلت لنزار: أنت الآن في مرحلة
النضج الرجولي، ولعلك بعد 50 عاماً من الشعر فهمت المرأة؟
* أجاب:
أولاً أنا لم أفهم المرأة، ولا أظن أنه مطلوب من الشاعر أن يفهم المرأة،
يجب أن تظلّ وهماً جميلاً يغلفها غموض جميل، وأنا الآن -مثلما تفضلت- في
مرحلة نضج، وصرت أشدّ حكمة وأكثر حضارة.. أنا الآن أكثر تفهماً لطبيعة
الأشياء.. انتهى عصر الانفعال السريع والانبهار السريع، ولم أعد أؤمن بجمال
يبهرني للحظة الأولى.
أنا الآن يبهرني الحضور الأنثوي، الفكر
الأنثوي، الذكاء الأنثوي.. المرأة العربية -صدقني- بحاجة إلى أن تقدّم
نفسها للرجل العربي تقديماً جديداً.. المرأة ليست فستاناً، وأنا قلت مرة إن
أسوأ مصادر الشعر هي عارضات الأزياء.
أنا لا أبحث عن موديل أو ملكة
جمال؛ أبحث عن امرأة تقيم معي حواراً حضارياً.. اليوم وأنا أكتب عن عاشقين
في كافيتريا لابد أن يعبر بينهما صاروخ سكود أو باتريوت، كيف نستطيع أن
نهرب من التاريخ.. بعض النساء يعتبرن الكوافير هو وزارة ثقافاتهن..
والكتاب
الأجمل عندهن هو زجاجة عطر.
قلت لنزار: كشف لي الشاعر محمود درويش
-وأنا أحاوره- مرة في عمان عن شيء خاص في حياته قال (يا عزيزي مفيد حياة
الشاعر مع الشاعرة في بيت واحد كارثة كبرى)!
* رد نزار: هذا صحيح،
لا يمكن أن تضع النار على النار وتطلب أن يتفطّر منها الماء.. الشعر برق،
والمرأة الزوجة الشاعرة برق؛ فتصور حين يتزوج البرق من البرق؛ لن يكون
أولادك سوى حرائق، وأنا مع محمود درويش تماماً؛ فقد كانت بلقيس تصادق
قصائدي.. كانت بلقيس تعرف جيداً أنه حين يطلب إليّ أن أختار بين المرأة
والقصيدة، أختار القصيدة بدون تردد!
قلت لنزار: عندما أنظر في شعر
رأسك الثلجي اللون؛ أحسّ أنك عرفت -أكثر من غيرك- أشياء منظورة وأخرى غير
منظورة؛ بحكم سباحتك ضد التيار؛ فأنت الذي بعثت الحياة في أوصال الحروف،
بعثها صبيّة تضج بالحياة، وأنت الذي برهنت لنا على قدرة لغتنا للنماء
والتطور واستيعاب كل التجارب الإنسانية التي يموج بها عالمنا الداخلي.. قل
لي خلاصة التجربة مع المرأة.
* قال نزار: المرأة تتزوج الغول بعد أن
تستشير النجوم والأبراج وفناجين القهوة، وبعد أن يأكلها الغول، تخرج من
بين أضراسه لتتزوجه مرة ثانية!
قلت: خلاصة التجربة مع الكتابة؟
*
قال نزار: إن رضا الكاتب أن يكون مرة دجاجة تعاشر الديوك أو تبيض.. أو
تنام فاقرأ على الكتابة السلام!
سألت نزار: هل تشعر بالزهو لأنك
شاعر مقروء ومسموع ومرئي؟
* قال بزهو: إذا كان "جورباتشوف" قد نادى
بالبريسترويكا السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فإن التغييرات التي
أحدثتها في لغة الشعر منذ خمسين عاماً هي أيضاً بريسترويكا نزارية!