يظل ملف القمح فى مصر واحدا من أخطر وأهم الملفات وأكثرها غموضا فى آن واحد، ليس فقط بسبب ما تستورده مصر سنويا من كميات ضخمة من الأقماح الأمريكية قليلة الجودة، وما تدفعه مقابل ذلك من ملايين الدولارات، وإنما بسبب السياسة الزراعية العجيبة لوزارة الدكتور يوسف والى، التى لم تكتف بتدمير الخريطة الزراعية للبلاد، واستبدال المحاصيل الاستراتيجية مثل القطن والقمح بالكانتلوب والفراولة، وإنما بسبب ما يحيط بهذا الملف الحيوى من غموض شديد يعزز فكرة المؤامرة فى نفوس الكثيرين، بل ويدعمها خاصة اذا ما ارتبط ذلك بوقائع صادمة ووثائق من شأنها أن تحيل عشرات المسئولين فى وزارتى الزراعة والتموين وليس يوسف والى وحده الى المحاكمة العلنية. كانت السيارة تمرق الطريق الى محافظة كفر الشيخ بالقرب من ساحل المتوسط ناحية الشمال، بينما كنت أطالع فى مقعدى قصاصات من صحف عدة، حملت أوراقها تفاصيل تلك القصة الدامية للدكتورة زينب الديب الخبيرة الدولية فى شئون القمح، وكيف توصلت بعد سنوات من التجارب المعملية لاستخلاص نوعية من القمح المحلى عالية الانتاج، بل ونجحت فى زراعة هذا النوع فى عدد من محافظات مصر، ما أدى الى ارتفاع انتاجية الفدان من 17 أردبا الى 37 أردبا مرة واحدة وفى الظروف ذاتها التى طالما علقت عليها وزارة الزراعة أخطاءها الفادحة كمشجب لم يستطع أحد خلعه قبل الدكتورة زينب الديب. كانت السيارة تطوى الطريق الزراعى الى كفر الشيخ بينما الحقول تمتد على مرمى البصر على الجانبن بلا فلاحين، ولا سواقى وكأنه الخراب قد حل على الدلتا فأحال خضرتها التاريخية الى صحراء قاحلة رغم الأخضر الذى يظهر على استحياء بين البيوت المبنية بالطوب الأحمر والقصور التى شيدت وسط الأراضى الزراعية فى غفلة من القانون وتحت نظر المسئولين عن الزراعة فى مصر. كنت فى مهمة محددة بعد أن تلقيت معلومات واضحة عن وجود التقاوى الهجين التى توصلت إليها الدكتورة زينب الديب، وصادرتها وزارة الزراعة وأودعتها أحد المخازن السرية فى الدلتا بعد إجهاض مشروعها القومى الطموح لتعميم التجربة على مختلف محافظات مصر، بل إن المعلومات التى كنت قد حصلت عليها ذهبت أبعد من ذلك، عندما همس لى البعض بأن كثيرا من هذه التقاوى الهجين لم تمنع عن الفلاحين فقط، بل تم تهريبها سراً الى اسرائيل، ووقتها قررت أن أسير خلف طرف الخيط الصغير فى مغامرة صحفية محفوفة بالخطر بحثاً عن مخازن التقاوى السرية لقمح الدكتورة زينب الديب المسروق، لكننى وجدت نفسى أمام مغامرة أكثر خطورة، عندما قادتنى قدماى الى شونتى أبو اسماعيل والنهضة التابعتين لمركز قلين، وشاهدت أسراب السوس بعينى رأسى وهى تنخر فى نحو 68 ألف طن من القمح المحلى، كانت الحكومة قد جمعتها من الفلاحين فى 15 ابريل من العام قبل الماضى، وبدلا من طرح هذه الكمية الى المطاحن لتوفير رغيف الخبز للملايين الذين يصطفون أمام المخابز فى مختلف المحافظات فى طوابير تمتد طوال ساعات النهار، أغلقت الشونتان أبوابهما على نحو مريب، على تلك الكمية من الأقماح لتقدمها وجبة مجانية لجحافل السوس فيما يشبه المؤامرة. والقصة من بدايتها أكثر إثارة. والقصة حسبما تشير عشرات من الأوراق والوثائق التى حصلت عليها تكشف الى حد كبير كيف يدار ملف القمح على أهميته وخطورته فى مصر، وهى تشير بوضوح الى رؤوس كبيرة وان ابطالها فى العلن موظفون صغار فى الجمعية التسويقية وهم غالباً نفس الموظفين الذين يتم التضحية بهم مقابل بقاء الكبار على مقاعدهم الوثيرة. والبداية كانت بقرار عندما قامت الجمعية التسويقية بجمع محصول القمح من الفلاحين بكفر الشيخ خلال الموسم الزراعى 2001 2002 ليتم تخزين 68 ألف طن فى الشونتين تبلغ قيمتها ما يقترب من 8 ملايين جنيه ورغم أنه كان من المفترض ان يتم توريد هذه الكمية من القمح الى شركات المطاحن خلال عام 2002 إلا أن قرارا وزاريا صدر بمنع طحن القمح المصرى فى الشركة القابضة للمطاحن بزعم عدم وجود فراغات لتخزين الكميات المطحونة بينما السبب الرئيس وراء القرار هو تكدس البواخر المحملة بالقمح الأمريكى فى الموانى المصرية وذلك باعتراف الحكومة فى ذلك الوقت. كانت النتيجة المباشرة لقرار وقف طحن القمح المصرى لصالح القمح الأمريكى تعنى أن تلك الكمية الهائلة من القمح المصرى سوف تفسد جراء سوء التخزين، وقد حدث ذلك بالفعل، ونظرا لأن ما حدث كان ولايزال يمثل كارثة بكل المقاييس نجحت وزارة التموين فى سحب كمية تتجاوز 24 ألف طن من ذلك القمح الذى أصبح مليئا بالسوس وطرحتها الى مطاحن القاهرة ليتم الطحن بالفعل، ثم تستقر بعد ذلك فى بطون يبدو أنها أدمنت الأطعمة الفاسدة. ويبدو أن السيناريو كان قابلا للتكرار، لولا تدخل وزارة الصحة التى قامت بمصادرة باقى الكمية فى 22 يونيو من العام الماضى بناء على بلاغ من هيئة الرقابة الإدارية التى تلقت معلومات تلك الكارثة من أهالى قرية أبو اسماعيل الذين لم يتضرروا من القمح الفاسد بقدر ما تضرروا من هجوم السوس على بيوتهم وإتلاف محتوياتها فضلا عن الأمراض التى تفشت بصورة وبائية حول منطقة الشونتين. تقرير مدير الصحة الصادر فى 11 يناير العام الحالى أكد على وجود سوس ميت وآخر حى وآثار تحلل للكميات المتبقية من القمح فضلا عن وجود كميات كبيرة من بقايا قش القمح والتراب فى الأقماح المخزنة، وقد انتهى التقرير الى عدم صلاحية القمح للتسليم للمطاحن لاستخدامه فى انتاج الدقيق ربما دون أن تدرى اللجنة التى حررته أنه هو نفس القمح الذى تسربت منه كمية تبلغ 25 ألف طن لتستقر فى البطون. الأوراق التى تحت يدى تقول إن عينات من هذا القمح المخزون بالشونتين سحبت بمعرفة مختصين لإرسالها الى المعامل المركزية بوزارة الصحة لبيان صلاحيتها للاستخدام الآدمى، وقد تحرر محضر بمعرفة لجنة مشكلة لهذا الغرض بتاريخ 27 ديسمبر 2003 بناء على قرار من النيابة العامة فى المحضر رقم 10803 لسنة 2003 جنح قلين ضد وزارة التموين والجمعية التسويقية، وقد وردت نتائج تحاليل العينات المرسلة من المعامل المركزية لتؤكد ان العينة التى سحبت والتى سلمت للمعامل المركزية بتاريخ 25 يونيو 2003 تؤكد صحة ما جاء فى التقرير الأولى من عدم صحة العينات للاستهلاك الآدمى طبقا للمواصفات القياسية. لم أكد أفيق من الصدمة الأولى حتى تلقيت الثانية وفى نفس اليوم، وبدا لى أن فكرة البحث عن قمح الدكتورة زينب الديب لم تكن سوى حلم جميل أفقت منه على كابوس مرعب. والقصة الثانية تبدأ وتنتهى عند الباخرة سليفررجا. هى باخرة أمريكية دخلت مصر محملة بنحو 6 الاف طن بالقمح الأمريكى وهى فى الوقت ذاته واحدة من عشرات البواخر التى تستقبلها الموانى المصرية محملة بأردأ أنواع القمح الأمريكى الذى لا يصمد أمام طول فترة الرحلة فيصل الى مصر وقد تحلل تماماً وامتلأ بالسوس. وما تم مع الباخرة سليفزجيا كما علمت تم مع بواخر أخرى تم التحفظ على حمولتها غير أنه سرعان ما قررت السلطات الافراج عنها لتستقر فى البطون الجائعة، وكأنما كتب علينا أن نتناول نفايات العالم. والقصة تبدأ من اخطار من مديرية الشئون الصحية بكفر الشيخ يحمل رقم 267 بتاريخ 27 ابريل الماضى ويتضمن نص كتاب الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات فرع ميناء دمياط بخصوص مراقبة رسالة قمح أبيض أمركى تزن 7499 طنا و360 كيلو جراما وهى ضمن جزء من الشهادة الجمركية رقم 105 افراج مؤقت محصول 2003 وهى مخزنة بالصومعة المعدنية بكفر الشيخ. ويشير التقرير الصحى الذى يحمل رقم 1497 بتاريخ 17 ابريل الى أنه بعد فحص القمح تبين عدم صلاحية الرسالة الأمريكية للاستهلاك الآدمى كونها غير مطابقة للمواصفات القياسية لزيادة نسبة بذور الحشائش على الحدود المسموح بها. ورغم أن التقرير كان مباشرا إلا ان لجنة التظلمات وافقت بجلسة 13 ابريل على سحب عينات مكملة وارسالها للمعامل المركزية تحت رقم 1447 سرى 404 وذلك بعد المعالجة بالغربلة تحت الاشراف الصحى واتخاذ القرار على ضوء نتائج التحليل مع إعدام نواتج هذه الغربلة. وبالطبع تم تمرير الرسالة الى البطون الجائعة ودون أن يهتز لوزير التموين جفن. الغريب وحسبما عرفت من مصادر موثوقة فى كفر الشيخ أن نفس الاجراءات تكررت مع بواخر أخرى وكانت القصة دائما ما تنتهى بعد التظلمات وخلافه الى الافراج عن الشحنات ولكن مع التأكيد طبعا على ضرورة المعالجة والغربلة رغم ان السوس كما مازحنى أحد مصادرى ساخرا بروتين حيوانى ومغذي.
من جريده العربي .. محمود العسقلاني
من جريده العربي .. محمود العسقلاني