اعتاد كثير من ذوي التوجهات المنحرفة عن النص الشرعي أن يقلِّب في كتب الفقهاء، أو يستفيد من التقنية الحديثة لاستخراج الأقوال والاختيارات الفقهية (القديمة والحديثة) التي يرونها تتفق مع بعض رؤاهم؛ ليصنعوا من أجزائها زورقاً آمناً؛ لتجاوز أمـواج الاعتـراض والنكير التي لا تزداد نحو عبثهم إلا دفعاً وتصاعداً.
...وقف بعدها يشير بطَرْف عينه إلى كلِّ من يذكِّره بقول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن (فلاناً) يرى كذا، وأنه يرى رجحان اختيار (فلان)، وأن المسألة فيها اختلاف، فلا يصحُّ التضييق على الناس؛ ما دام في المسألة خلاف لأحد من الفقهاء.
إنَّ هذه القضية قد فصل فيها أَحَكم الحاكمين فــي نـــصٍّ مُحْكَم تنـزيله؛ إذ قـــال - تعالى -: فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 95]؛ فما يحدث من خلاف في الأحكام الشرعية، فإن مردَّه إلى كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذا ما يستشعره بالضرورة كلُّ منقادٍ لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأما الاحتجاج بخلاف الفقهاء في ترك العمل بالنصوص فهو قلب للقضية؛ إذ أصبح حكم الله ورسوله حينها متوقِّفاً على كلام الفقهاء؛ فما دام ثَمَّ قول فقهي مخالف، فالنصوص متعطِّلة لحين الاتفاق على العمل بها، وبدلاً من أن تُحَاكَم أقوال الفقهاء لنصوص الوحي، تصبح دلالة الوحي متوقِّفة حتى يتمَّ الاتفاق على مفهومها.
لا شك أن هذه ممارسة بعيدة كلَّ البعد عمَّا كان عليه الفقهاء في خلافاتهم الفقهية؛ فهم وإن اختلفوا في كثير من المسائل إلا أنهم متفقون - قطعاً - على أن دلالة النصوص هي الحاكمة عليهم وأن أقوالهم تتلاشى مع حضور الوحي، ولم يكن أحد منهم يشترط (الإجماع) على النص حتى يتمَّ العمل به، ولا كان خلاف الفقهاء سقفاً يحول دون نفوذ شعاع الوحي، وقد كان هذا مفهوماً متقرِّراً لدى جميع فقهاء المذاهب؛ فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المختلَف في تحريمه لا يكون حلالاً؛ حيث يقول: (هذا مخالف لإجماع الأمة، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام)[1]. وحَكَم الفقيه ابن حزم على مَنْ هذا حاله، فقال: (ولو أن امرأً لا يأخذ إلا بما أجمعـت عليـه الأمة فقـط، ويترك كلَّ ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص، لكان فاسقاً بإجماع الأمة)[2]، كما حكى ابن القطَّان اتفاق العلماء على حرمة ترك ما صحَّ من الشرع والاكتفاء فقط بما أُجمِع عليه[3].
ويطول المقام في تتبُّع أقوال الفقهاء في هذا الأصل الذي نختمه بهذه الخلاصة التي حرَّرها الحافظ ابن عبد البر: (الاختلاف ليس بحجَّة عند أحد عَلِمْتُـه من فقهاء الأمة؛ إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجَّة في قوله)[4].
ولا شكَّ أنَّ هذا موقف صارم، ورأي شديد ضدَّ من يعطِّل دلالة النصوص بحجَّة الخلاف لإدراك الفقهاء لِـمَا في هذا الرأي من جنوح عن حقِّ التعظيم والانقياد الواجب للنص الشرعي.
إن خلاف الفقهاء في القضايا الفقهية كان لاختلافهم في تأويل النص؛ فهو من النص يبدأ وإليه يعود. ومَنْ خالف حُكْم النص، فإنما خالفه لاجتهاد يُثَاب فيه على جهده وصِدْق نيَّته؛ وإن خالف النص. ولم يكن حالهم حال المعرِض تماماً عن النص، وبعد أن حسم خياراته وحدَّد موقفه بحسب المفاهيم والقيم التي يؤمن بها رجع للنصِّ الشرعي؛ ليبحث عن مخرج وحلٍّ لمشكلة النصِّ يتمكَّن بها من تخفيــف حــدَّة الاعتــراض التي لا يطيقها فجاء بزورق الخلاف الفقهي؛ فهل يستويان؟
ومن طريف القوم: أنَّهم مع كلِّ هذا - حين يأتي الحكم المجمَع عليه بين فقهاء الإسلام ويتأكَّد لهم اتفاق فقهاء الإسلام على حكمٍ من الأحكام التي لا تروق للذائقة العصرية؛ فإن بوصلة التفكير لديهم يتحرَّك سهمها إلى الجهة المقابلة فيتذكَّر أن الإجماع من الأساس مشكوك فيه ويورد بعض شُبَه منكري الإجماع في التشكيك في حجِّية الإجماع أو إمكانية وقوعه واستحالة الجزم بنفي وجود قول فقهي معيَّن.
حتى وإن تمكَّنتَ - بعد هذا كلِّه - من إثبات الإجماع وأوقفتَه بعينيه على دلائل الإجماع؛ فإن بوصلة (الزورق) الفقهي سترفع لافتة: أن ثَمَّ اختيارات فقهية من المعاصرين، ومن غير المتخصِّصين - عند الحاجة إليهم - تخالف في هذا، وأنه يراه القول الموافق للنص الشرعي!.
فهذا التفكير المنطقي يشترط الإجماع للاتفاق على النص، وحين يأتي الإجماع يشكِّك في صحته وإمكانيَّته، وحين يزول هذا التشكيك يرجع ليتمسَّك بأي قَشَّة من أقوال المعاصرين!.
هل لهذه (الظاهرة) تفسير أو علاج خير من أن يقرأ فيها قول الله - تعالى -: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْـمُبِينُ [المائدة: 29].