دأب العلمانيون المصريون ومعهم أجهزة الإعلام اليسارية على الإثارة والتحريف والتشكيك في قضية تحديد اختصاصات كل من الأزهر الشريف ووزارة الثقافة في التصدي للأعمال الفنية والمصنفات السمعية أو السمعية البصرية التي تتناول قضايا إسلامية أو تتعارض مع الإسلام ومنعها من الطبع أو التسجيل أو النشر والتوزيع والتداول إعمالاً للصلاحيات المخولة لكل منها بمقتضى القوانين واللوائح.
يتحجج العلمانيون بأن الأزهر يشارك في تكثيف القيود المفروضة على الإبداع، وعلى حرية الرأي والتعبير، ويقولون إن الشكوى في السابق كانت تأتي من السلطة السياسية التي عانى كثير من الأدباء من قسوتها، أما شكوى اليوم فتأتي من المؤسسة الدينية الساعية لفرض رقابتها على الإبداع، والتي تجعل ما يسمى بـ(الإبداع) يدور بين الإيمان ونقيضه.
ونسي هؤلاء أن الأزهر إحدى مؤسسات الدولة، وليس لها استقلاليتها الذاتية بعد أن قامت الدولة الحديثة بعمليات متتالية لتفكيك الاستقلالية والذاتية لمؤسسات المجتمع المدني، وعلى رأسها المؤسسة الدينية، وكان أكثرها تأثيرا انتزاع الأوقاف التي كانت تابعة للأزهر؛ مما أفقد علماءه استقلالهم المادي فأصبحوا موظفين تقوم الدولة بتعيينهم وإقصائهم وتحديد مهام عملهم، بل وتحديد مهمة المؤسسة نفسها.
وقد كانت حركة يوليو 1952م كانت أكثر جرأة تجاه الأزهر فصاغت له قانون التطوير عام 1961م الذي انتهى بالأزهر إلى مؤسسة تابعة للدولة تفتقد أي استقلالية لها. ومن ثم أصبح الأزهر مؤسسة من مؤسسات الدولة، تنفذ سياسة الدولة، وليس مؤسسة تتمتع بالاستقلال الذاتي في رؤيتها أو عملها أو صياغة توجهاتها.
ونتيجة لضعف الأزهر، نمت العلمانية وتعملقت، واتجه الأدباء العلمانيون إلى الإثارة واتخاذ الممارسات الجنسية موضوعا أثيرا لأعمالهم، أو نقل حياة المجتمع السفلي (مجتمع القاع والجريمة) بأفعاله وألفاظه الصريحة التي تسمي الأسماء بمسمياتها، دون مراعاة للذوق ودور الأدب في نهضة المجتمع.
ولمواجهة ذلك كله كان على الدولة مواجهة هذه الفجاجة وهذا الفحش حتى لا تتهم بأنها تسهل وترعى مثل هذه الأعمال، فأعطت الأزهر سلطات هذه المواجهة.
أما قول العلمانيين إن إعطاء مفتشين من الأزهر حق الضبطية القضائية ومنحهم سلطة مراقبة الأسواق وكتابة تقارير لوزارة الداخلية عن الكتب والتسجيلات التي وأن رجاله تحولوا إلى مخبرين وفي أحسن الأحوال رجال أمن، إنما هو من قبيل الخداع والتضليل.
ولقد عرض هذا الموضوع على الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بجلسة 2 من فبراير سنة 1994، وتبين لها أن الرقابة على المصنفات الفنية، سمعية وبصرية، تخضع لأحكام القانون رقم 354 لسنة 1954 بشأن حماية حق المؤلف، والقانون رقم 430 لسنة 1955 بتنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحري والأغاني والمسرحيات والمونولوجات والأسطوانات وأشرطة التسجيل الصوتي، وإن كلا القانونين جرى تعديله بالقانون رقم 38 لسنة 1992.
فبهذا القانون الأخير أضيفت "المادة 7 مكرر" إلى قانون حماية حق المؤلف، وقد حظرت على كل صاحب حق في استغلال المصنفات السمعية والسمعية البصرية وعلى من يزاول هذا النشاط إنتاج أي من هذه المصنفات أو نسخه أو تصديره أو طرحه للتداول أو تحويله أو عرضه إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة، وخولت وزير الثقافة تعيين الجهة المختصة بمنح الترخيص وشروطه وإجراءاته.
وبهذا القانون الأخير أيضًا، عدل العديد من مواد قانون "تنظيم الرقابة على الأشرطة..."، واستحدث تعبير "المصنفات السمعية والسمعية البصرية" للإشارة إلى كل ما يثبت بالوسائل التقنية من أشرطة وأسطوانات وغيرها وقررت المادة (1) معدلة أن "تخضع للرقابة المصنفات... وذلك بقصد حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا". وحظرت المادة (2) المعدلة التصدير والتسجيل والنسخ والتحويل والأداء والعرض والإذاعة والتوزيع والتأجير والتداول والبيع والعرض للبيع، بالنسبة لتلك المصنفات، وذلك "بغير ترخيص من وزارة الثقافة"، وأحالت المادة (4) معدلة إلى اللائحة التنفيذية لبيان الجهة المختصة بإصدار الترخيص وشروطه وغير ذلك. ثم أوجبت أن يصدر قرار البت في طلب الترخيص خلال شهر أو ثلاثة أشهر حسب أنواع النشاط المشار إليها في المادة (2)، وإلا اعتبر الترخيص ممنوحًا، كما أوجبت عند الرفض أن يكون الرفض مسببًا. ونظمت المادة (12) المعدلة طريق التظلم من قرار رفض الترخيص وتشكيل لجنة بقرار من الوزير يكون رئيسها أحد نواب رئيس مجلس الدولة وأعضاؤها الأربعة الآخرون ممثلين لهيئة الاستعلامات وللمجلس الأعلى للثقافة ولأكاديمية الفنون ولمجلس النقابة التابع لها نوع المصنف محل التظلم.
وفي هذا الإطار استعرضت الجمعية العمومية الأحكام المتعلقة بالقوانين الخاصة بالأزهر الشريف ونظرة المشرع الوضعي في مصر الحديثة، منذ انتظم لهيئات الدولة والمجتمع تقنيات ولوائح ونظم تشريعية، تصدرها جهات التشريع ذات الولاية في إمضاء النظم وحراستها. استعرضت الجمعية العمومية ما أوردته هذه النظم بشأن الأزهر الشريف وما رسمته له من وظائف وما أنيط به من دور من بناء المجتمع المصري الحديث، بمراعاة أن الأزهر هيئة تقوم على الحفظ والتدريس والبحث في علوم هي دين للغالبية الغالبة، ومن هذا الدين تستمد عقائد وقيم وأصول احتكام.
وانتهت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع، برئاسة المستشار طارق البشري رئيس الجمعية العمومية لقسم الفتوى والتشريع والنائب الأول لرئيس مجلس الدولة ، إلى أن الأزهر الشريف هو وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص أو رفض الترخيص بالمصنفات السمعية والسمعية البصرية.
وإذا كان الأمر، على هذا الشكل والتكييف، قانونيًا حسب قوانين الدولة التي وضعها العلمانيون أنفسهم، فكيف الآن يدعون أن الأزهر يمارس الرقابة؟ رغم أنه ليس مستقلاً ولا يفعل ذلك من تلقاء نفسه؟
إن "الفقيه" إنما هو اصطلاح ذو دلالة مدنية، مقصود به الخبير أو الاختصاصي في دراسة الشريعة التي هي بالنسبة إليه مجال معرفي وبحثي، بعكس مفهوم "رجل الدين" ذي الدلالة الكَنَسية التي تمثل التعاليم الدينية، له مجموعة من الأسرار والرموز غير مسموح لأناس آخرين بالتعامل معها.
وكان لإمام مالك معبرًا عن الموقف الإسلامي الصحيح يرفضه لمحاولات أبي جعفر المنصور بأن يعطي الأحكام الواردة في كتابه "الموطأ" صفة القانون الملزم لجميع المسلمين؛ بحجة توجيه القضاء وتنظيم شئون الفقه. واكتفى الإمام أن يكون كتابه موسوعة علمية خاضعة للأخذ والرد، لا قانونًا يُقنَّن بقرار من حاكم، وحرصًا منه على عدم فرض اجتهاده على الناس، وأن يحرم الأمة من العمل بآراء المجتهدين الآخرين؛ مما يؤدي إلى القضاء على حرية الاجتهاد.