انا سيدة في الخامسة والأربعين
من عمري,نشأت في أسرة محترمة لأب وأم يصفهما الجميع بأنهما من زمن
الصحابة, وليسا من أهل هذا الزمان, نشأت نشأة دينية, ملتزمة بكل المثل
العليا والمبادئ والقيم والعادات والتقاليد.
عشت حياة سعيدة مرفهة لأبعد الحدود, في ظل والدي الكريمين, وكنت وأخوتي محط أنظار الجميع لحسن أخلاقنا وتديننا وسمعة أبوينا.
تقدم لي العشرات من أغني وأفضل الأسر, وذوي المراكز المرموقة, ولكني لم
أسعد بأي منهم إلي أن رزقني الله بزوجي الفاضل الذي لن يجود الزمان بمثله,
فقد كان حلمي الذي تحقق طبيب, شاب وسيم وبه كل الصفات الحسنة وسعد أبواي
بموافقتي عليه وقام أبي بتجهيز شقة الزوجية من أرقي المعارض, وعشنا حياة
هانئة موفقة الي أن رزقنا الله بابننا الأكبر وكان قرة عين لي ولوالده, ثم
رزقنا الله بطفل آخر بعده بعامين زادت به سعادتنا, ووضع زوجي كل ما يملك في
استئجار عيادة قام بتشطيبها علي نفقته, وتجهيزها علي أعلي مستوي في بلدتنا
وما أن أتم ذلك حتي قام بافتتاحها وسط مباركة الأهل والأصدقاء, وحين
عودتنا من افتتاحها وبمجرد وصولنا إلي المنزل فاجأت زوجي آلام مبرحة, وفي
الصباح قام بعمل فحوصات أوضحت لنا أنه أصيب بالمرض اللعين, وعلي الفور قرر
جميع الأطباء إجراء جراحة كبيرة وخطيرة وعاجلة, اختطفت سعادتنا بما نحن
فيه, وتمت العملية بنجاح و, ومرت فترة النقاهة علي خير, وهو في
إجازة من عمله بالمستشفي, وأغلقنا العيادة من يوم افتتاحها, وسبحان الله ـ
يا سيدي ـ ففي هذه الظروف القاسية جدا والمرهقة نفسيا وماديا أراد العلي
القدير أن يختبرني بحمل جديد, ومرت فترة الحمل بكل ما فيها من صعاب حتي
وضعت طفلتين توءم, فحمدنا الله علي ذلك, وقدر الله وما شاء فعل, وفي اليوم
التاسع لولادتي عاودت زوجي آلامه مرة أخري, فذهب لأكبر الأطباء في هذا
المرض الذي هو تخصصه ويعلم عنه كل تطوراته, فقرروا له علاجا كيميائيا في
منتهي القسوة, وتقبل زوجي الأمر بإيمان وصبر شديدين, ولكنه قال لي ذات يوم
لن أذهب لأخذ هذا العلاج, فأبناؤنا أولي بهذه المصروفات, فلا جدوي من أي
علاج, فهي حالة شبه نادرة, وميئوس منها.
لا أخفي عليك ـ يا سيدي انني في هذه الأثناء كنت في حالة يرثي لها, وانهرت
انهيارا كاملا من كل النواحي, ويعجز قلمي عن وصف ما كنت فيه, وظللت علي
هذه الحال عدة أيام, ثم عدت أتقرب الي الله سبحانه وتعالي بكل جوارحي,
وأكثر من الصيام والصدقات وصلاة النوافل, حتي أمدني الله بقوة من عنده
لأتحمل ما أنا فيه, وبكل قوتي دفعت زوجي دفعا لأخذ العلاج في مستشفي
استثماري كبير, حيث إن الطبيب المعالج لا يتعامل إلا مع هذا المستشفي,
فوقتها لم يكن قد صدر القرار الخاص بعلاج مثل هذه الحالات علي نفقة الدولة,
وكنت أترك إحدي التوءم واخذ الأخري معي المستشفي بالتبادل, اسبوع واسبوع,
حتي مرت ستة أشهر قاسية ومريرة, فكان أطفالي لا يستوعبون ما حدث لنا, وما
يجري حولهم, فكانوا يأتون لزيارة والدهم في المستشفي فيندهشون من منظره
ويتساءلون: انت بابا؟! فقد كان زوجي بالنسبة لنا منبعا دافئا من الحب
والحنان والإنسانية.
مرت ستة أشهر كئيبة, ثقيلة ثقل السماوات السبع, والأرض وما عليها, إلا
أنها كانت لا تخلو من الإيمان بالله والصبر الشديد, وبعد صراع مع المرض,
رحل زوجي إلي رحاب الله وتركني وأطفالنا نعاني مرارة فراقه إلي الآن, بل
إلي يوم نلقاه, فهو جدير بذلك.. مات وتركني في التاسعة والعشرين من عمري..
وأطفالنا أكبرهم في الصف الأول الابتدائي, وأصغرهم رضيعتان لا تتجاوزان
الأشهر الستة.. رحل وتركنا بعد أن أنفقنا كل ما نملك في تجهيز العيادة ثم
علاجه, فحتي سيارته قام ببيعها, وغرقت ـ بالطبع ـ في أحزان طويلة جدا,
وتصرفت تصرفات الجاهلية من قسوة الفقد.. وظللت علي هذه الحال حتي ميعاد
الذكري السنوية, ونظرت بعدها إلي أطفالي, وما آلوا إليه من سوء حال, ولكنني
كنت مثلهم بل أسوأ حالا, كنت مثل الطفلة, أشعر أن الزمن قد توقف بي عند
يوم وفاته, المهم بدأت مواجهة الحياة بمفردي لأول مرة في حياتي ومعي
أبنائي, فسابقا لم أحمل هما للدينا يوما واحدا, فقد كنت مرفهة لأبعد الحدود
في بيت والدي رحمه الله الذي توفي قبل مرض زوجي مباشرة وكذلك في بيت زوجي.
كان معاش زوجي بالكامل نحو330 جنيها لا غير, بهذا المبلغ بدأت المسئولية
الثقيلة, فهذا المبلغ لا يكفي لشراء الألبان, ومستلزمات الرضيعتين, فكرت في
تأجير العيادة مفروشة لأحد الأطباء, فرفض المالك, وحاولت استرداد ثمن
تشطيبها فرفض أيضا, فقد كان زوجي ـ رحمه الله ـ لم يكمل الإجراءات
القانونية لفتح عيادته بعد, وانتهيت إلي تسليمها للمالك, حتي لا أقوم بدفع
الإيجار, وقمت ببيع الأجهزة والفرش, واشتراها الزملاء بثمن بخس, رغم أنها
لم تكن خرجت بعد من كراتينها, وواجهت الحياة بهذا المبلغ, وقليل من ميراث
والدي, وبعض مصوغات ذهبية اشتراها لي والدي أيام العز وشبكتي.. ومرت السنون
كئيبة, رتيبة, تخلو تماما من أي مظهر من مظاهر السعادة, مليئة بكل أنواع
الهموم والأحزان والحرمان, وكنت كل شيء لأبنائي.. الأب والأم والخادم..
ودخلت في بعض المشروعات الصغيرة للمساعدة, ولكنها باءت كلها بالفشل لأنني
لم أكن أملك الخبرة الكافية, فأسلمت أمري لله.
كان كل أقران أبنائي من أولاد العائلة والجيران والأصدقاء يأتي لهم
المدرسون في جميع المواد بالمنزل, لكن ابني لم يأخذ درسا خاصا إلا في أضيق
الحدود في الثانوية العامة فقط, فقد عشنا معاناة رهيبة لا يطيقها أو يصدقها
أحد, حرمان من كل شيء, حتي مصروف الجيب ممنوع, والنزهة ممنوعة, ولا مجال
لمصيف أو رحلة, أو حفلة, أو عيد ميلاد ولا غيرها من هذه المسليات..
مرت السنون والأمور المادية تزداد سوءا وأبنائي يزدادون تفوقا, واحتراما,
وكانوا بشهادة الجميع مهذبين بكل معني الكلمة, كانوا يفرحوا والله يقدرون
الظروف فلا أحد منهم يمتلك ساعة أو موبايل أو لاب توب, ولكني كنت أغرس فيهم
الثقة بالنفس, والتحلي بالصبر, والإيمان بأن الغد سيحمل ـ بإذن الله ـ
خيرا من اليوم, ودخل ابني المرحلة الثانوية وكان متفوقا ـ مثلما سبق أن
ذكرت ـ وحدثت له مفارقات غريبة, فالامتحانات حدثت بها أخطاء وكذا نماذج
الإجابة ورغم كل الظروف حصل علي96% ولكن هذا المجموع لم يمكنه من دخول
الكلية التي يرغبها, وكانت صدمة كبيرة لنا, وأياما عصيبة عشناها جميعا,
ولكننا استسلمنا للأمر الواقع, ودخل الكلية التي قسمها الله له, والتي
اعتبرها أنا من كليات القمة, ولكنها مهضومة الحق برغم أهميتها, وصعوبة
الدراسة بها, في حين دخل كثير من أبناء المعارف والأقارب كليات الطب
والصيدلة الخاصة, رغم أن مجموعهم أقل منه بكثير, ولكن الأمر لله وحده,
وشجعته حتي يتفوق في دراسته الجامعية وبالفعل كان له دائما ترتيب متقدم علي
الدفعة, رغم ما كان يحدث من بعض الأساتذة من مجاملات, خاصة في الشفوي
والعملي لبعض الطلبة, وقد حصل ابني الثاني علي الثانوية العامة بعد عامين
ومر بنفس الظروف التي مر بها أخوه الأكبر ولكن علي كل حال أما
التوءم فهما الآن في الثانوية العامة.
أعود بك الي ابني الأكبر الذي تخرج في كليته بتقدير عام امتياز مع مرتبة
الشرف, ولكن لم يتم تعيينه كمعيد بالجامعة لأنه خسف بتقديره في التيرم
الأول مما أثر علي تقدمه في الترتيب.
طفنا بأوراق ابني علي الجامعات الخاصة فلم نجد له فرصة, وأرسل أوراقه
لشركات كثيرة في مجالات البترول, وكذا وزارة العدل ومدينة زويل حيث يراودنا
الأمل في تعيينه ولكن دون جدوي, مع أنه حاصل علي كورسات ودورات تدريبية
بتقدير امتياز أيضا.
مر عام والآخر سيمر قريبا وتتخرج دفعتان بعده, وهو مازال حبيس المنزل,
نفسيته مدمرة يعيش معاناة حقيقية.. فهل هذا جزاؤه وجزائي بعد الكفاح,
والتفوق المشرف؟! أليس من حقي وحق ابني المتفوق الذي خاض معارك الحياة وهو
طفل في السادسة من عمره بروح مقاتل, أن يتم تعيينه في وظيفة محترمة, بمرتب
يساعدني بجزء منه في إتمام رسالتي مع أختيه.
لقد نفد كل ما معي من أموال, وما بقي لي من ذهب, في رحلة الستة عشر عاما
الماضية, وأصبحت مدينة بالكثير, وتقوقعت علي نفسي وأولادي بمنزلنا الذي جار
عليه الزمان, وأصبحنا في شبه عزلة عن العالم, وأنا الآن لا أريد أي تبرع
من أحد, فهذا أمر يقتلني, و نحن أعز بالله, ونرضي بقضائه, ولكني
أرسل رسالتي هذه بعد ستة عشر عاما مرت علي وفاة زوجي, وكأنها مئات القرون,
إيمانا مني بأن الله جعلكم ممن تقضون حوائج الناس, فجميع فئات المجتمع الآن
يطلبون زيادة المرتبات, ووعدتهم الحكومة بزيادتها, فكيف نأتي بأمواتنا من
قبورهم ليطالبوا بزيادة المعاشات؟!
فهل هذا المعاش الضئيل الذي يتقاضاه الطبيب هو مكافأة تفوقه وانكبابه علي
تحصيل العلم طوال حياته وحصوله علي أعلي مجموع.. فهل تعلم انني وأبنائي لا
نملك ثمن الذهاب للطبيب, ولا ثمن الروشتة, فهل هناك من ينظر إلي أحوالنا,
بعين المسئولية؟!
.
من عمري,نشأت في أسرة محترمة لأب وأم يصفهما الجميع بأنهما من زمن
الصحابة, وليسا من أهل هذا الزمان, نشأت نشأة دينية, ملتزمة بكل المثل
العليا والمبادئ والقيم والعادات والتقاليد.
عشت حياة سعيدة مرفهة لأبعد الحدود, في ظل والدي الكريمين, وكنت وأخوتي محط أنظار الجميع لحسن أخلاقنا وتديننا وسمعة أبوينا.
تقدم لي العشرات من أغني وأفضل الأسر, وذوي المراكز المرموقة, ولكني لم
أسعد بأي منهم إلي أن رزقني الله بزوجي الفاضل الذي لن يجود الزمان بمثله,
فقد كان حلمي الذي تحقق طبيب, شاب وسيم وبه كل الصفات الحسنة وسعد أبواي
بموافقتي عليه وقام أبي بتجهيز شقة الزوجية من أرقي المعارض, وعشنا حياة
هانئة موفقة الي أن رزقنا الله بابننا الأكبر وكان قرة عين لي ولوالده, ثم
رزقنا الله بطفل آخر بعده بعامين زادت به سعادتنا, ووضع زوجي كل ما يملك في
استئجار عيادة قام بتشطيبها علي نفقته, وتجهيزها علي أعلي مستوي في بلدتنا
وما أن أتم ذلك حتي قام بافتتاحها وسط مباركة الأهل والأصدقاء, وحين
عودتنا من افتتاحها وبمجرد وصولنا إلي المنزل فاجأت زوجي آلام مبرحة, وفي
الصباح قام بعمل فحوصات أوضحت لنا أنه أصيب بالمرض اللعين, وعلي الفور قرر
جميع الأطباء إجراء جراحة كبيرة وخطيرة وعاجلة, اختطفت سعادتنا بما نحن
فيه, وتمت العملية بنجاح و, ومرت فترة النقاهة علي خير, وهو في
إجازة من عمله بالمستشفي, وأغلقنا العيادة من يوم افتتاحها, وسبحان الله ـ
يا سيدي ـ ففي هذه الظروف القاسية جدا والمرهقة نفسيا وماديا أراد العلي
القدير أن يختبرني بحمل جديد, ومرت فترة الحمل بكل ما فيها من صعاب حتي
وضعت طفلتين توءم, فحمدنا الله علي ذلك, وقدر الله وما شاء فعل, وفي اليوم
التاسع لولادتي عاودت زوجي آلامه مرة أخري, فذهب لأكبر الأطباء في هذا
المرض الذي هو تخصصه ويعلم عنه كل تطوراته, فقرروا له علاجا كيميائيا في
منتهي القسوة, وتقبل زوجي الأمر بإيمان وصبر شديدين, ولكنه قال لي ذات يوم
لن أذهب لأخذ هذا العلاج, فأبناؤنا أولي بهذه المصروفات, فلا جدوي من أي
علاج, فهي حالة شبه نادرة, وميئوس منها.
لا أخفي عليك ـ يا سيدي انني في هذه الأثناء كنت في حالة يرثي لها, وانهرت
انهيارا كاملا من كل النواحي, ويعجز قلمي عن وصف ما كنت فيه, وظللت علي
هذه الحال عدة أيام, ثم عدت أتقرب الي الله سبحانه وتعالي بكل جوارحي,
وأكثر من الصيام والصدقات وصلاة النوافل, حتي أمدني الله بقوة من عنده
لأتحمل ما أنا فيه, وبكل قوتي دفعت زوجي دفعا لأخذ العلاج في مستشفي
استثماري كبير, حيث إن الطبيب المعالج لا يتعامل إلا مع هذا المستشفي,
فوقتها لم يكن قد صدر القرار الخاص بعلاج مثل هذه الحالات علي نفقة الدولة,
وكنت أترك إحدي التوءم واخذ الأخري معي المستشفي بالتبادل, اسبوع واسبوع,
حتي مرت ستة أشهر قاسية ومريرة, فكان أطفالي لا يستوعبون ما حدث لنا, وما
يجري حولهم, فكانوا يأتون لزيارة والدهم في المستشفي فيندهشون من منظره
ويتساءلون: انت بابا؟! فقد كان زوجي بالنسبة لنا منبعا دافئا من الحب
والحنان والإنسانية.
مرت ستة أشهر كئيبة, ثقيلة ثقل السماوات السبع, والأرض وما عليها, إلا
أنها كانت لا تخلو من الإيمان بالله والصبر الشديد, وبعد صراع مع المرض,
رحل زوجي إلي رحاب الله وتركني وأطفالنا نعاني مرارة فراقه إلي الآن, بل
إلي يوم نلقاه, فهو جدير بذلك.. مات وتركني في التاسعة والعشرين من عمري..
وأطفالنا أكبرهم في الصف الأول الابتدائي, وأصغرهم رضيعتان لا تتجاوزان
الأشهر الستة.. رحل وتركنا بعد أن أنفقنا كل ما نملك في تجهيز العيادة ثم
علاجه, فحتي سيارته قام ببيعها, وغرقت ـ بالطبع ـ في أحزان طويلة جدا,
وتصرفت تصرفات الجاهلية من قسوة الفقد.. وظللت علي هذه الحال حتي ميعاد
الذكري السنوية, ونظرت بعدها إلي أطفالي, وما آلوا إليه من سوء حال, ولكنني
كنت مثلهم بل أسوأ حالا, كنت مثل الطفلة, أشعر أن الزمن قد توقف بي عند
يوم وفاته, المهم بدأت مواجهة الحياة بمفردي لأول مرة في حياتي ومعي
أبنائي, فسابقا لم أحمل هما للدينا يوما واحدا, فقد كنت مرفهة لأبعد الحدود
في بيت والدي رحمه الله الذي توفي قبل مرض زوجي مباشرة وكذلك في بيت زوجي.
كان معاش زوجي بالكامل نحو330 جنيها لا غير, بهذا المبلغ بدأت المسئولية
الثقيلة, فهذا المبلغ لا يكفي لشراء الألبان, ومستلزمات الرضيعتين, فكرت في
تأجير العيادة مفروشة لأحد الأطباء, فرفض المالك, وحاولت استرداد ثمن
تشطيبها فرفض أيضا, فقد كان زوجي ـ رحمه الله ـ لم يكمل الإجراءات
القانونية لفتح عيادته بعد, وانتهيت إلي تسليمها للمالك, حتي لا أقوم بدفع
الإيجار, وقمت ببيع الأجهزة والفرش, واشتراها الزملاء بثمن بخس, رغم أنها
لم تكن خرجت بعد من كراتينها, وواجهت الحياة بهذا المبلغ, وقليل من ميراث
والدي, وبعض مصوغات ذهبية اشتراها لي والدي أيام العز وشبكتي.. ومرت السنون
كئيبة, رتيبة, تخلو تماما من أي مظهر من مظاهر السعادة, مليئة بكل أنواع
الهموم والأحزان والحرمان, وكنت كل شيء لأبنائي.. الأب والأم والخادم..
ودخلت في بعض المشروعات الصغيرة للمساعدة, ولكنها باءت كلها بالفشل لأنني
لم أكن أملك الخبرة الكافية, فأسلمت أمري لله.
كان كل أقران أبنائي من أولاد العائلة والجيران والأصدقاء يأتي لهم
المدرسون في جميع المواد بالمنزل, لكن ابني لم يأخذ درسا خاصا إلا في أضيق
الحدود في الثانوية العامة فقط, فقد عشنا معاناة رهيبة لا يطيقها أو يصدقها
أحد, حرمان من كل شيء, حتي مصروف الجيب ممنوع, والنزهة ممنوعة, ولا مجال
لمصيف أو رحلة, أو حفلة, أو عيد ميلاد ولا غيرها من هذه المسليات..
مرت السنون والأمور المادية تزداد سوءا وأبنائي يزدادون تفوقا, واحتراما,
وكانوا بشهادة الجميع مهذبين بكل معني الكلمة, كانوا يفرحوا والله يقدرون
الظروف فلا أحد منهم يمتلك ساعة أو موبايل أو لاب توب, ولكني كنت أغرس فيهم
الثقة بالنفس, والتحلي بالصبر, والإيمان بأن الغد سيحمل ـ بإذن الله ـ
خيرا من اليوم, ودخل ابني المرحلة الثانوية وكان متفوقا ـ مثلما سبق أن
ذكرت ـ وحدثت له مفارقات غريبة, فالامتحانات حدثت بها أخطاء وكذا نماذج
الإجابة ورغم كل الظروف حصل علي96% ولكن هذا المجموع لم يمكنه من دخول
الكلية التي يرغبها, وكانت صدمة كبيرة لنا, وأياما عصيبة عشناها جميعا,
ولكننا استسلمنا للأمر الواقع, ودخل الكلية التي قسمها الله له, والتي
اعتبرها أنا من كليات القمة, ولكنها مهضومة الحق برغم أهميتها, وصعوبة
الدراسة بها, في حين دخل كثير من أبناء المعارف والأقارب كليات الطب
والصيدلة الخاصة, رغم أن مجموعهم أقل منه بكثير, ولكن الأمر لله وحده,
وشجعته حتي يتفوق في دراسته الجامعية وبالفعل كان له دائما ترتيب متقدم علي
الدفعة, رغم ما كان يحدث من بعض الأساتذة من مجاملات, خاصة في الشفوي
والعملي لبعض الطلبة, وقد حصل ابني الثاني علي الثانوية العامة بعد عامين
ومر بنفس الظروف التي مر بها أخوه الأكبر ولكن علي كل حال أما
التوءم فهما الآن في الثانوية العامة.
أعود بك الي ابني الأكبر الذي تخرج في كليته بتقدير عام امتياز مع مرتبة
الشرف, ولكن لم يتم تعيينه كمعيد بالجامعة لأنه خسف بتقديره في التيرم
الأول مما أثر علي تقدمه في الترتيب.
طفنا بأوراق ابني علي الجامعات الخاصة فلم نجد له فرصة, وأرسل أوراقه
لشركات كثيرة في مجالات البترول, وكذا وزارة العدل ومدينة زويل حيث يراودنا
الأمل في تعيينه ولكن دون جدوي, مع أنه حاصل علي كورسات ودورات تدريبية
بتقدير امتياز أيضا.
مر عام والآخر سيمر قريبا وتتخرج دفعتان بعده, وهو مازال حبيس المنزل,
نفسيته مدمرة يعيش معاناة حقيقية.. فهل هذا جزاؤه وجزائي بعد الكفاح,
والتفوق المشرف؟! أليس من حقي وحق ابني المتفوق الذي خاض معارك الحياة وهو
طفل في السادسة من عمره بروح مقاتل, أن يتم تعيينه في وظيفة محترمة, بمرتب
يساعدني بجزء منه في إتمام رسالتي مع أختيه.
لقد نفد كل ما معي من أموال, وما بقي لي من ذهب, في رحلة الستة عشر عاما
الماضية, وأصبحت مدينة بالكثير, وتقوقعت علي نفسي وأولادي بمنزلنا الذي جار
عليه الزمان, وأصبحنا في شبه عزلة عن العالم, وأنا الآن لا أريد أي تبرع
من أحد, فهذا أمر يقتلني, و نحن أعز بالله, ونرضي بقضائه, ولكني
أرسل رسالتي هذه بعد ستة عشر عاما مرت علي وفاة زوجي, وكأنها مئات القرون,
إيمانا مني بأن الله جعلكم ممن تقضون حوائج الناس, فجميع فئات المجتمع الآن
يطلبون زيادة المرتبات, ووعدتهم الحكومة بزيادتها, فكيف نأتي بأمواتنا من
قبورهم ليطالبوا بزيادة المعاشات؟!
فهل هذا المعاش الضئيل الذي يتقاضاه الطبيب هو مكافأة تفوقه وانكبابه علي
تحصيل العلم طوال حياته وحصوله علي أعلي مجموع.. فهل تعلم انني وأبنائي لا
نملك ثمن الذهاب للطبيب, ولا ثمن الروشتة, فهل هناك من ينظر إلي أحوالنا,
بعين المسئولية؟!
.