تشعر الشعوب المستعبَدة أنه لا خلاص من واقعها السييء من خلال جهدها الخاص ..ولذلك فإنها تأمل أن تستيقظ يوماً ما فإذا بالأمور قد انقلبت بصورة مفاجئة ، وإذا بطل الخلاص قد برز إلى الوجود ، وإذا بالواقع قد تحول ؛ ولذلك فإنها تعلق آمالها علي الزعيم المنقذ الذي يظهر فجأة حين تسد جميع أبواب الأمل ، فيخلصها من المستبدين دون أي دور لها في السعي لهذا الخلاص ، سوى دور التابع المعجب المؤيد دون تحفظ ، والمنتظر للمعجزة !!
و يظهر لها الزعيم المنقذ حاملاً مفاتيحه السحرية في صورة شعارات تقوم بالتنفيس عن آلامها وتعطيها آمالاً خادعة في عبور " عنق الزجاجة " !! .. وهو أمر يشبه إلي حد كبير إعطاء المخدر دون إجراء أي عمليات جراحية .. ذلك أن تلك المفاتيح السحرية تُحل الخيال محل الواقع ، والوهم محل الحلم ، دون أن تفتح باباً مغلقاً واحداً ..؟!
فما الذي يجعل الشعوب تنخدع بتلك الشعارات والمفاتيح السحرية ؟
إن ما جعلها تنخدع بذلك هو أنها فقدت الثقة بإمكاناتها ، فهي تبحث دائماً عمن يدير لها أمورها نيابة عنها .. ولذلك يتحول الزعيم عندها إلي " ساحر " يحقق لهم مطالبهم في الحماية والأمن ، والنمو والتطور ، ولهذا تراهم يحتجون إذا تركهم وذهب ، أو هدد أن يتركهم ، لأنهم يشعرون بـ " الوحدة " من دونه ، ويعجزون عن الفعل ، ولا يستطيعون اتخاذ أي قرار!
إن المستبد ليس وحده المسئول عن نشأة منظومة الاستبداد ، ولكن المستعبدين أيضاً يشاركون بوعي وبغير وعي في هذا .. يشاركون من خلال أفكارهم الفاسدة التي تتمثل في أسطورة " الزعيم الملهم " و " الحل السحري " الذي ينقذهم ، والذي لا يفعلون هم معه شيئاً غير استبدال وثن بوثن .. ولذلك فإن الاستعباد مازال يطل برأسه هنا كلما سنحت الظروف ، وهي كثيرا ما تسنح في واقع لا تستطيع فيه الشعوب الاعتماد علي قدراتها ؛ فتنتظر من يخلصها مما هي فيه ، ويبقي الأمل عندها معقوداً على " الزعيم ا لمنقذ " و " القائد الملهم " .. الذي تتخيله شجاعاً ونبيلاً ، يحب بشكل مثالي ، ويحارب غالباً بلا تعب ، ويموت فى معركة غير متكافئة من أجل شىء عادل ؟!! ولا تري إمكانية ولادته أمراً خاضعاً لقوانين يمكن بواسطتها تكرار هذا النموذج .. وهذا كله مؤشر إلى عدم تدخل الجهد الإنساني ، و انتظار عامل خارجي غير متوقع .. فإذا اغتيل هذا الزعيم ، أو أعدم ، أو مات لم تعرف الشعوب المستعبَدة ، كيف جاء ؟ ولا كيف ذهب ؟ ولا كيف يمكن تعويضه ؟ .. وكل ما تفعله هو الذكرى الحزينة ، واجترار الذكريات ، والحديث عن " إيجابياته " ، وما فعله من أجلها من جليل الأعمال .. وكأنه أحد أبطال قصصها الشعبية التي يكون بطلها فيها فارساً يحارب جيشاً ، والقبيلة تتفرج منتظرة عودة فارسها مظفراً ؟!!
ولا ينجو من هذا التفكير إلا قلة من الذين يحتفظون بقدرتهم علي الرؤية من خارج إطار القطيع ، ولديهم القدرة علي الاحتفاظ بإدراكهم دون تلوث أو تشويه أو تزييف ، ولديهم القدرة علي التفكير النقدي .. وهذا الصنف هو الخطوة الصحيحة في طريق التحرر .. وللحديث بقية.